الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
التجريب القصصيّ : غرز لامرئيّة تحت ضوء خفيف شاحب - أنيس الرافعي
الساعة 15:36 (الرأي برس - أدب وثقافة)


منذ البدء ، دعوني أخبركم ببعض المستعارات والتصورات الذرائعيّة التي حفت بصيرورة اشتغالي التجريبيّ داخل الجنس القصصيّ .
 

ففي مستهل تسعينيات القرن الماضي ، وأنا ما أزال في فتاء من العمر والشقاوة والتمرد ، كنت أنظر إلى « التجريب» بوصفه ادعاءا نرجسيّا بقصد التميّز و بغرض تمريغ كرامة « الأشكال القصصيّة البسيطة » في الوحل وإزعاج سكينة « السلف القصصيّ الصالح »، ثم في مرحلة موالية ارتفع منسوب «الأدرينالين » فصرت أنظر إليه باعتباره حالة طوارئ و انقلابا ومروقا وعصيانا مدنيا و مغامرة غير محمودة العواقب تتطلّب مني صياغة بيانات تطلق النار في جميع الاتجاهات لتدمير « قاعدة التماثل والمطابقة » وكسر العمود الفقري للقصة القصيرة، الذي هو « الحكاية » .
 

ولاحقا ، احتاج هذا « الصخب والعنف » إلى عصابة وقطاع طرق رمزيّين ، فتوجّهت الذائقة الموتورة و المتنطّعة صوب المساهمة في تأسيس « الجماعات الأدبيّة » ، التي بمقدورها وهي تحمل « وعيا سرديا مسلّحا » قوامه وصفة جاهزة ونظرية على المقاس أن تبشّر بظهور تقليعة أدبيّة مستحدثة ، ولم لا تيار أو مدرسة .
 

اللّعنة عليك يا « جون لوك غودار »! أنت من علّمتنا أن نتخلّص من « السيناريو » ، ونبدأ « بنفس منقطع » التصوير بكاميرا محمولة ، وفي متمّ « الارتجال » ، توجّب علينا أن نصرخ بملء حناجرنا وعروقنا في وجه العالم العتيق المتآكل : هذا هو « التجريب » ، ونحن « الموجة الجديدة »!.
 

طبعا ، كان من المنطقيّ أن يفضي كلّ هذا السعي المحموم واللاهث والفوضويّ خلف « جماليات ما بعد القصة القصيرة » لفتية يكتبون مثل مصابين بانهيار عصبيّ حاد إلى « تجريب » أقلّ ما يمكن أن يقال عنه : إنّه مفتعل ، صبيانيّ ، دوغمائيّ ، متوحش ، تحريضيّ ، وغير مرشدّ، وأن يؤدي بالضرورة نهجهم للتحدي على طريقة مصارعي الحلبة إلى سوء فهم و حروب شعواء وأضرار إنسانيّة جانبيّة ، سواء مع الرواد أو المجايلين أو حتّى مع « رفاق السلاح القصصيّ » .
 

لقد كنا نثق ثقة عمياء في « مهمّتنا الانتحاريّة النبيلة »: البحث عن المفقود ، لا تكريس الموجود . ولامناص لروح القصة القصيرة الطليعية من استبدال مطيتها وطرد سجاياها القديمة اللصيقة ﺒ «عروض القصة القصيرة ». كنا بلا ماض لأن الآتي صنيعنا ، والإحجام عن الذهاب إلى فم التمساح لم يكن يدور بتاتا في خلدنا : إمّا « التجريب » أو الموت !.
 

لكن، ترى هل كنا نعي بأنّ هذه المستعارات والتصورات الذرائعيّة السالفة الذكر تنتهي برمتها بالتحوّل إلى ( مؤسسة ) ، و« التجريب » ضد ( المؤسسة ) . تتطلّب ( التعاقد ) ، و« التجريب » ضد ( التعاقد ) . تستلزم ( التجمع ) ، و« التجريب » ضد ( التجمع ) . تستتبع ( الإجماع ) ، و« التجريب » ضد ( الإجماع ) . تقتضي ( النموذج ) ، و« التجريب » ضد ( النموذج ) . تستوجب إرساء ( القواعد ) ، و« التجريب » ضد ( القواعد ) ؟!.
 

تلكم كانت بعضا من « منزلقاتي » ، من منزلقات فترة غياب النضج الكافي لإدراك أنّ هذه المستعارات والتصورات الذرائعيّة المشار إليها كانت في الواقع تحدق برهان التجريب ، بل شكّلت خطرا جسيما عليه عندما دفعت لإحقاقه النصيّ بطريقة غير تجريبيّة . فبدل أن تكون عامل تحديث للكتابة القصصية غدت عامل مأزقة لها . فتحوّل عندئذ التجريب من نعمة إلى نقمة .
 

وأي نقمة فادحة هي ، ومخلاة القاص كاسدة يتسكّع فيها الهواء !.
الادعاء النرجسيّ أخمد جذوته العمر ، وصار رمادا تولّى عنه الساهرون .
البيانات الصاخبة أضحت كالألعاب النارية اللّيلية ، وأحرقها النسيان في صباح اليوم التالي .
والجماعات الأدبية تفرّقت الأواصر والأهواء بأعضائها ، و انصرف كل إلى طريق .
والآن ، وأنا أستحضر بكيفية بعدية لا تخلو من نسبيّة ، وأتأمّل بشكل متبصّر إلى حدّ ما هذه الفترة التي أطلق عليها مسمّى : « قتنة المطلق القصصيّ »، لا أتجرّد من قطعة من تاريخي الشخصي الأدبيّ ، ولا أقيسها بمنطق الربح أو الخسارة ، كما لا أدفع عني تهمة يجوز أن تسقط بالتقادم . بل إنني أودّ أن أكون نزيها مع نفسي وأنا أمارس «علاج رولف » على ما اقترفته بملء إرادتي .

وأحسب أنّ اكتساب كدمات في البدن القصصيّ باسم التخلّص من الذكريات السيئة المختزنة في عضلات المنجز ، كفيل بإخراج انعكاسات المرايا المحتجبة للتجربة ، ومعضّد لفكرة مراجعة وتعديل وتنقيح التصورات ، مثلما لو كنت أزعم بأنّ ثمّة شخصا آخر غيري ، في غفلة مني ، من كان يكتبني في تلك الأثناء .
 

وها أنذا في موقفي هذا كالمؤرخ المعماريّ الذي يؤوب للنبش في دعامات المدن الجديدة التي تتأسس دائما على أنقاض المدن القديمة أو كمثل من يريد أن يحاول حفر البئر من الأسفل وهو يعرف مسبقا الشيء الكثير عن جحود القاع . فتجريب البدايات ذاك ، على الأقلّ بالنسبة لي ، كان في الواقع ظاهرة سيكولوجية تعويضيّة جمعية للتعبير عن غياب الرضا على كل شيء ، على النفس ، على الواقع ، على الأسرة ، على الأب ، على الثقافة ، على المؤسسة الثقافية ، على الإيديلوجيا ، على السياسة ، على الدولة ، على السلطة ، على الأحزاب ، على الحرية ، على الدين ، على الجنس ، على الجسد ، على العالم ، ولكنه لم يكن ظاهرة فرديّة جماليّة ذات خصوصية إبداعيّة مكتملة الملامح والقسمات .
 

سأكون صريحا وجارحا في في حق نفسي الأمّارة بالوجع : لقد كان « بقرة مريضة » كما يقول المثل الفرنسي . لقد كان جعجعة . وكي أكون دقيقا : كان جعجعة معياريّة. كان استكانة للصورة ، لكنه لم يكن إعادة نظر دائمة في هذه الصورة ذاتها . كان بلوغا للغاية ، بيد أنّه لم يكن نفيا للغاية . كان نهجا يجب الوفاء به ، غير أنّه لم يكن نهجا يلزم العدول عنه .
 

ففي تقديري الشخصيّ غير الحاسم ، القاص قد يخلق لنفسه معاييره الخاصة به على صعيد الموضوع واللّغة والتقنيّة و التشخيص والمتخيّل والرؤية ، لكن من الضروري « للكدح السرديّ » في كلّ مرّة أن ينتهي بتشكيل خطر على هذه المعايير نفسها ، ويحاول ما أمكنه نسفها من الداخل ، وإلاّ تحوّلت بمرور الوقت إلى نوع من «الأصوليّة التجريبيّة ».
 

فالأسلوب القصصي المبتكر الذي لا يحمل في جيناته عوامل فنائه ، ينتهي في خاتمة المطاف إلى «المعياريّة » ، إلى حدود معلومة ، إلى شرعيّة تاريخيّة ، إلى وجه آخر لليقين .
إنّ تحسين « جودة النسل القصصيّ » باسم « إستراتيجية التجريب » لا يجب أن يكتمل ، وإلاّ صار بدوره استقرارا دائما في الصدى و كتابة « تقليدية ».

 

لابد من فتك ما انتهينا منه للتو . لابد من اغتيال ما عشقناه من فرط ما تعبنا في خلقه . لابد من محو خطواتنا كي لا نصل . لابد من المضي للبحث بلا كلل عن أراض أخرى غير مخذولة للقصة القصيرة . لابد من اختراع اقتصاديات نصية جديدة . ولابد من المواظبة على مراجعة طرائق تدبير العالم القصصي .
 

إذن ، هي « عقدة بيجماليون » الأبدية من قلق الحسن والجمال ، والتحطيم المتواصل للتمثال الذي أهدرنا ردحا في نحت أدق تفاصيله .
وفي ظنّي ، كلّ هذا يجب أن يتمّ في صمت مطبق ومهيب ضمن « مشغل خاص ، بدفتر تحملات جماليّ متبدل ، وتبعا لدليل استعمال شخصيّ جدا » ، وأنت تحمل صفة « قاص فقط ».

 

إنني أكره هذا التعميد القسري الذي خلعوه عليّ لسنوات طويلة : « قاص تجريبيّ ». أحسني مثل راقصة « ستربتيز» منذورة للتّعرّي إكراما لغرائز المتلصّصين أو مثل « أكروبات » يترقّب الجميع أن يقدم على قفزة الموت بين هاويتين . أنا لست قاصا تجريبيّا ، لأن القاص التجريبي الحق هو الذي يطرح عنه باستمرار صفة التجريب . هو الذي يخون بلا انقطاع التجريب . هو الذي لا يغدو مرجعا أو طوطما أو صاحب طريقة في التجريب .
 

أنا يا عباد الله مجرد « قاص فقط ». قاص منهك ومضرّج بندوب عميقة ، والغنيمة الهزيلة التي عدت بها من حروب التجريب المريرة هي ترف أن أنكر في كلّ حين أنني خضت هذه الحروب باسم التجريب .
غنيمة أن تكون غريبا يمشي حافيا على شاطئ مقفر ومليء بالحصى .
زائف كلّ هذا « التجريب» في عرفي متى استحال إلى لعنة وجريرة وشبهة وإقامة إجباريّة. متى صيره النديم الداني « تخريبا » ، أو مسخه الصفي القاصي إلى « مخلوق شائه يسير على رأسه عوض قدميه كرأس الرسام « شاغال » المقلوب في لوحته ». فأقصى طموح للقاص التجريبيّ هو أن يتحول في نهاية المطاف إلى كاتب « كلاسيكي ». جماع هذه التركة الداميّة أتركه لكم ، وأعلن إفلاسي الطوعي مما قد يعده بعضكم تراكما ملتبسا .

 

فالمرء يأتي عليه حين من يأس وشكوى تبكي بداخله ، فيتعب ويترك كلّ شيء خلفه . يحمل ذات صباح حقيبة جلدية صغيرة ويغادر إلى الأبد صوب جهة غير معلومة . والقاص يأتي عليه حين من تمهل ومن مجافاة الضوء الساطع ، فيحاول العثور على نفسه و التعلّم من جديد . يستضمر شتّى ما تجرّعه من أساتذته الكبار ، أصحاب السلم الأنطولوجي للقصص القصيرة ، و يدفن معرفته وحصاد مرجعياته تحت جلد اللّغة ، ثم يشرع بيد وحيدة وفريدة على مفرق الأحزان في خياطة ثوب العدم آملا أن لا تكون الغرز ناتئة ، متطلعا أن تظهر الغرز لا مرئية إذا ما وضعت تحت ضوء خفيف شاحب .
الضوء الخفيف الشاحب ذاته ، الذي صار بغيتي وريق أصابعي .
الضوء الخفيف الشاحب ذاته ، الذي سيكون من الآن فصاعدا صديقي الوحيد .

 

منقولة من جريدة الزمن العمانية ... 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً