الجمعة 29 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
القرار- إدريس البيض
الساعة 16:31 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

ثمة أشياء تحدث للمرء على حين غرة لم يكن له فيها رأي أو خيار ، كمثل ذلك اليوم الذي وجدت فيه نفسي هناك وحيدا منكمشا على ذاتي ، محشورا في ذاك المكان الضيق المظلم ، لا صلة لي بالعالم غير بعض الأصوات التي لم أكن أدرك كنهها و لا مصدرها ، فلم أكن أدرك ذاتي أصلا و لا من أنا ، إلا حين بدأ ذلك الشيء الصلب الذي يحيط بي تصيبه شقوق صغيرة نفذ منها القليل من الضوء و الهواء المنعش ، أصابتني الرهبة أول الأمر لكنني قاومت مخاوفي ، شيء ما في داخلي كان يدفعني إلى كسر ما بقي من الجدار الذي احتضنني لفترة لكنه حرمني من حرية الانطلاق في هذا  الكون الفسيح . حطمته ، خرجت إلى هذا العالم ، ضعيفا ، جائعأ ، ريشي لا يكاد يقيني برد هذا الصباح الباكر  ، لم أبرح مكاني في ذاك العش المرتفع و لم أجرأ على النظر إلى الأسفل فقد كنت في قمة شجرة عالية ، اكتفيت بالتحديق في الأفق حيث كانت  الشمس الكسلى تبعث خيوطها الأولى لتدفئ البسيطة .
كنت لا أعلم شيئا عما علي فعله ، بقيت على ذلك الحال أرتجف من الجوع و البرد حتى ظهر في الأفق عصفوران بالغان ، كانا والدي ، عرفت ذلك من البهجة التي ارتسمت على ملامحهما و من العناية التي حفاني بها ، كانا يتناوبان على جلب الطعام لي ، فلم أكن أكف عن المطالبة بالمزيد منه ، أنواع لذيذة من الدود ، فواكه طازجة ، توت بري ، و غيرها من الأطعمة اللذيذة ، كلها شكلت قائمة طويلة من الطعام المفضل لدي . لم يكن يحل المساء إلا و قد أنهكا من حجم المجهود الذي يبذلانه في سبيل العناية بي .
ذات مساء لم تعد أمي من نوبتها في جلب الطعام ، انتظرناها طوال الليل و لم تعد ، انطلق أبي فجرا باحثا عنها لكنه عاد خائبا بعد سويعات ، لم تعد أبدا من حينها ، حزنت كثيرا و فقدت شهيتي للطعام ،لكنني شيئا فشيئا تعودت غيابها ، كبرت و تعلمت الطيران و كان أبي يحرسني و يحول بيني و بين الابتعاد أو التوغل في الغابة و المناطق المحيطة ببيوت البشر ، كنت أتقبل الأمر على مضض ، هذا لم يمنعني من مخالفة الأوامر و كسر القواعد أحيانا ، بل بلغت بي الجرأة مرة أن أحلق فوق أسطح منازل البشر التي كان الكثير من ساكنيها يملكون أسلحة نارية قادرة على إلحاق الأذى بي .
ظل الأمر سرا بيني و بين نفسي ، ذات صباح  مستغلا غياب أبي حلقت من جديد حول المنازل الآدمية ، كان الهدوء يعم المكان إلا من صياح الديكة و نباح الكلاب فمازال الناس مستغرقين في نومهم . أمر شجعني على الاقتراب أكثر ، و أنا أحلق فوق إحداها لمحت عصفورة جميلة ، كانت عيناها أشبه ما تكون بزمردتين سوداوتين و ريش مزركش بألوان زاهية ، طفقت أنظر إليها حتى كدت أرتطم بالجدار ، عدت أدراجي و قلبي يخفق بشدة ، لم أن ليلتي تلك ، بت أنتظر الصبح بفارغ الصبر .
في اليوم التالي عدت هناك ، كنت أقطع الزقاق المقابل لذاك البيت جيئة و ذهابا منشدا أجمل تغاريدي ، بقيت على ذات الحال أياما حتى هزل جسمي لانشغالي عن الطعام بأمر عصفورتي الجميلة ، صرت حزينا فلم تكن تأبه بي ، لكنني لم أفقد الأمل ، عدت مرة أخرى و هذه المرة وقفت على طرف الشرفة ، اقتربت منها بهدوء ، نظرت إلى عينيها و بدأت أنشد لحنا جميلا . ردت علي بلحن أروع و بعينين دامعتين و هي تشير إلى باب القفص المغلق  . أدركت حينها سر صمتها في الأيام السابقة ، كنت سعيدا و حزينا في ذات الآن ، سعيدا لأنها بادلتني ذات الشعور ، و حزينا لأن القفص اللعين يحول بيننا .

 

حاولت أن أفك قيدها بشتى الوسائل ، كل صباح أجرب وسيلة ، لكن أيا منها لم يجد نفعا ، كنت أعود كل مساء إلى عش أبي منهكا بعد أن أغني لها لحنا أجتهد في أن يجعلها أكثر بهجة و أملا .
استفقت يوما على صوت الرياح العاصفة ، تلك كانت نذر اقتراب فصل الشتاء القارس بأمطاره و ثلوجه ، بدأ أبي يعد العدة كما كل الطيور في الأعشاش المجاورة للرحيل هربا من شتاء قاس يدق الأبواب إلى الجنوب حيث الدفء و وفرة الطعام ، في غفلة منه تركته و ذهبت إلى عصفورتي التي ابتهجت لرؤيتي ، حاولت كعادتي فتح باب القفص لها لكن هيهات . انشغالي بفتح الباب لم يمنعني من سماع وقع خطوات قادمة من الغرفة ، أخذت عصفورتي تقفز ذات اليمين و ذات الشمال محاولة إبلاغي بقدوم بشري حتى ألوذ بالفرار . صار وقع الخطوات أوضح ، نظرت إليها و هممت بالرحيل ، لكنني عدلت عن الأمر فجأة ، بقيت متسمرا مكاني منتظرا قدوم البشري غير مبال بمخاوفي .
خرجت إلى الشرفة شابة جميلة هادئة ابتسمت حين رأتني هناك ، أخذتني بين كفيها برفق ، فتحت باب القفص و أدخلتني ، ثم أغلقته.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص