الاربعاء 25 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
القرار- إدريس البيض
الساعة 16:31 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

ثمة أشياء تحدث للمرء على حين غرة لم يكن له فيها رأي أو خيار ، كمثل ذلك اليوم الذي وجدت فيه نفسي هناك وحيدا منكمشا على ذاتي ، محشورا في ذاك المكان الضيق المظلم ، لا صلة لي بالعالم غير بعض الأصوات التي لم أكن أدرك كنهها و لا مصدرها ، فلم أكن أدرك ذاتي أصلا و لا من أنا ، إلا حين بدأ ذلك الشيء الصلب الذي يحيط بي تصيبه شقوق صغيرة نفذ منها القليل من الضوء و الهواء المنعش ، أصابتني الرهبة أول الأمر لكنني قاومت مخاوفي ، شيء ما في داخلي كان يدفعني إلى كسر ما بقي من الجدار الذي احتضنني لفترة لكنه حرمني من حرية الانطلاق في هذا  الكون الفسيح . حطمته ، خرجت إلى هذا العالم ، ضعيفا ، جائعأ ، ريشي لا يكاد يقيني برد هذا الصباح الباكر  ، لم أبرح مكاني في ذاك العش المرتفع و لم أجرأ على النظر إلى الأسفل فقد كنت في قمة شجرة عالية ، اكتفيت بالتحديق في الأفق حيث كانت  الشمس الكسلى تبعث خيوطها الأولى لتدفئ البسيطة .
كنت لا أعلم شيئا عما علي فعله ، بقيت على ذلك الحال أرتجف من الجوع و البرد حتى ظهر في الأفق عصفوران بالغان ، كانا والدي ، عرفت ذلك من البهجة التي ارتسمت على ملامحهما و من العناية التي حفاني بها ، كانا يتناوبان على جلب الطعام لي ، فلم أكن أكف عن المطالبة بالمزيد منه ، أنواع لذيذة من الدود ، فواكه طازجة ، توت بري ، و غيرها من الأطعمة اللذيذة ، كلها شكلت قائمة طويلة من الطعام المفضل لدي . لم يكن يحل المساء إلا و قد أنهكا من حجم المجهود الذي يبذلانه في سبيل العناية بي .
ذات مساء لم تعد أمي من نوبتها في جلب الطعام ، انتظرناها طوال الليل و لم تعد ، انطلق أبي فجرا باحثا عنها لكنه عاد خائبا بعد سويعات ، لم تعد أبدا من حينها ، حزنت كثيرا و فقدت شهيتي للطعام ،لكنني شيئا فشيئا تعودت غيابها ، كبرت و تعلمت الطيران و كان أبي يحرسني و يحول بيني و بين الابتعاد أو التوغل في الغابة و المناطق المحيطة ببيوت البشر ، كنت أتقبل الأمر على مضض ، هذا لم يمنعني من مخالفة الأوامر و كسر القواعد أحيانا ، بل بلغت بي الجرأة مرة أن أحلق فوق أسطح منازل البشر التي كان الكثير من ساكنيها يملكون أسلحة نارية قادرة على إلحاق الأذى بي .
ظل الأمر سرا بيني و بين نفسي ، ذات صباح  مستغلا غياب أبي حلقت من جديد حول المنازل الآدمية ، كان الهدوء يعم المكان إلا من صياح الديكة و نباح الكلاب فمازال الناس مستغرقين في نومهم . أمر شجعني على الاقتراب أكثر ، و أنا أحلق فوق إحداها لمحت عصفورة جميلة ، كانت عيناها أشبه ما تكون بزمردتين سوداوتين و ريش مزركش بألوان زاهية ، طفقت أنظر إليها حتى كدت أرتطم بالجدار ، عدت أدراجي و قلبي يخفق بشدة ، لم أن ليلتي تلك ، بت أنتظر الصبح بفارغ الصبر .
في اليوم التالي عدت هناك ، كنت أقطع الزقاق المقابل لذاك البيت جيئة و ذهابا منشدا أجمل تغاريدي ، بقيت على ذات الحال أياما حتى هزل جسمي لانشغالي عن الطعام بأمر عصفورتي الجميلة ، صرت حزينا فلم تكن تأبه بي ، لكنني لم أفقد الأمل ، عدت مرة أخرى و هذه المرة وقفت على طرف الشرفة ، اقتربت منها بهدوء ، نظرت إلى عينيها و بدأت أنشد لحنا جميلا . ردت علي بلحن أروع و بعينين دامعتين و هي تشير إلى باب القفص المغلق  . أدركت حينها سر صمتها في الأيام السابقة ، كنت سعيدا و حزينا في ذات الآن ، سعيدا لأنها بادلتني ذات الشعور ، و حزينا لأن القفص اللعين يحول بيننا .

 

حاولت أن أفك قيدها بشتى الوسائل ، كل صباح أجرب وسيلة ، لكن أيا منها لم يجد نفعا ، كنت أعود كل مساء إلى عش أبي منهكا بعد أن أغني لها لحنا أجتهد في أن يجعلها أكثر بهجة و أملا .
استفقت يوما على صوت الرياح العاصفة ، تلك كانت نذر اقتراب فصل الشتاء القارس بأمطاره و ثلوجه ، بدأ أبي يعد العدة كما كل الطيور في الأعشاش المجاورة للرحيل هربا من شتاء قاس يدق الأبواب إلى الجنوب حيث الدفء و وفرة الطعام ، في غفلة منه تركته و ذهبت إلى عصفورتي التي ابتهجت لرؤيتي ، حاولت كعادتي فتح باب القفص لها لكن هيهات . انشغالي بفتح الباب لم يمنعني من سماع وقع خطوات قادمة من الغرفة ، أخذت عصفورتي تقفز ذات اليمين و ذات الشمال محاولة إبلاغي بقدوم بشري حتى ألوذ بالفرار . صار وقع الخطوات أوضح ، نظرت إليها و هممت بالرحيل ، لكنني عدلت عن الأمر فجأة ، بقيت متسمرا مكاني منتظرا قدوم البشري غير مبال بمخاوفي .
خرجت إلى الشرفة شابة جميلة هادئة ابتسمت حين رأتني هناك ، أخذتني بين كفيها برفق ، فتحت باب القفص و أدخلتني ، ثم أغلقته.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً