الاربعاء 25 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
أحلام لا تأتي مع السحاب - سيرين حسن
الساعة 16:03 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

في طرف القرية الصغيرة.. يتربع وحيداً على تله تتحد بالغابة في جانبها الغربي..
طين, حجارة, واسمنت يشكلون غرفة أعاد أهل القرية بنائها للمرة الثانية بعد سقوطه على سكانه.
الصغير وجدَّته هما الناجيان من ذلك الحادث.. كانت جدته تغسله خارج المنزل بينما والدته تُعد الغداء, ووالده وأخوته نائمون عندما انهار المنزل على سكانه.

 

عملت جدته في مساعدة نساء القرية في أمور المنزل, أو في تجميع الحطب والعلف للماشية في مقابل الطعام, أو بعض المال من البيوت الموسرة.
ما تكسبه الجدة تضعه في حصالة صالح ليدرس به, ما يجود به الناس من طعام تقدمه له.. تكرر له: كل يا ولدي لتصبح قوياً وتساعدني.
- لم لا تأكلين يا جدة؟
- أتظن أني أقوى على جمع كل ذلك الحطب وحمله فوق رأسي لو لم آكل؟.. لقد أكلت قبلك.
هذه الكذبة تتكرر كل مرة.. إذا بقي طعام بعد أن يشبع صالح تحتار هل تُسكت معدتها به كي تكف عن تذكيرها بالطعام أم تخبئه لصالح لوقت لاحق؟
 يكبر صالح وتكبر جدته, يصير شاباً قوياً, وتصير هي عجوزاً مثخنة بالأماني. تضمه قائلة: ستصبح طبيب القرية يا صالح.
لا يعرف كيف ومتى, لكنه يرد دوماً: حسناً يا جدة.
عندما حصلت جدته على بطانية جديدة دفأت بها صالح, وتدثرت بالقديمة الممزقة التي تُدخل البرد من كل شبر فيها.. كانت سعيدة بمنظرة وهو يتكور تحتها بدفء جعلها تنام دون أن يزعجها البرد للمرة الأولى.
تستيقظ كل ليلة لتغطيه.. تسد المنافذ التي يتسلل منها البرد, تضع ملابسها القديمة أسفل الباب والنوافذ.
عندما هطل المطر بشدة خافت أن ينهار المنزل.. كانت عاصفة قوية.. اشتد هجوم الريح الباردة على النوافذ.. كُسرت إحدى النوافذ بحجر.. هبت إليها بكل ملابسها لتسدها.. أخذت ما وضعته في عقب الباب من ملابس لتسد بها النافذة.. جلست منهكة تنظر إلى صالح الذي يتكور من البرد..تنبهت لعقب الباب الذي يُدخل الريح.. أسندت ظهرها إلى الباب لتسده.. الشقوق الكثيرة اخترقتها الريح الباردة.. قطَّع الألم ظهرها لكنها لم تتحرك.. بقيت مكانها ثابتة في وجه الريح التي تكاد تقتلع الباب حتى انتهت الأمطار وسكن الليل.. عندما عجزت عن الحراك من الألم نامت في مكانها حتى الصباح.

 

 عندما استيقظ تمدد بقربها ودفئها ببطانيته حتى استيقظت.. بكى لمرضها بسبب البرد وهو يعدها: 
- سأشتري لك الكثير من الثياب ونرمي هذه الممزقة, سيكون لنا فراش وثير, وبيت له نوافذ قوية, وباب لا تدخل الريح من شقوقه.. سنأكل يا جدة حتى نشبع ولا نأخذ من أحد بقايا الطعام.
تحتضنه بقوة, تُغرقه في القُبل: شكراً لك يا ولدي.
حاول صالح عندما كبر أن يقنع جدته بالجلوس في المنزل ليعمل هو لكنها تذكره بواجبه تجاهها, وتجاه قريته بـأن يكون طبيبها الوحيد.. الكثير من الوفيات تحدث لأمراض عادية لكن بُعد القرية يجعل السفر لأجل العلاج عبئاً ثقيلاً.
كثرة مرض جدته أكد له أن حلمها بأن يصبح طبيب القرية يجب أن يتحقق.
بعد أن أنهى صالح الثانوية حصل على وعد من تاجر في المدينة من أبناء قريته بأن يتكفل بمصاريف دراسته.
جاء صالح راكضاً إلى المنزل ليخبر جدته.. احتضنها, قبّل يديها:
- هيا سنذهب إلى المدينة, سأدرس وسأصبح طبيباً.
أمسكت بوجهه بين كفيها: ستذهب أنت وستعود طبيباً.
رفضت جدته أن تذهب معه.. تعذرت بحبها للقرية, لم تخبره بأوجاعها الكثيرة التي لا يعلمها كي لا يتكبد عناء علاجها.. كان فراقه خنجراً يشق قلبها.. أمسكت دموعها حتى غاب صالح عن ناظريها لتنهمر بعدها بحرية.

 

دخلت إلى غرفتها تتأمل فَراشه.. تمددت عليه.. أخذت نفساً عميقاً تشم رائحته التي لم تفارق المخدة بعد.
لم يزرها النوم لأيام.. الغرفة موحشة جداً بدونه.. إنها المرة الأولى التي تفارقه منذ  أكثر من ثلاثة عشرة عاماً.. تقضي ليلها تحلم به عائداً بشهادته يحقق حلمها وينسيها جراح الغُربة.
تمضي الأجازات قصيرة وسريعة ليعود صالح إلى الدراسة.. تحسب جدته السنوات يوماً بيوم.. تجمع جدته ما يعطيه لها, وما تجود به الأيدي الكريمة لتضعها في الحصالة لتفاجئ حفيدها بهدية تخرجه, وتساعده في تكاليف زواجه.
تعاودها أوجاعها لكنها لا تفكر ولو لمرة في أن تأخذ من حصالة صالح لتتداوى أو تخفف ألمها.
في كل مرة تضع فيها قروشاً في الحصالة تدور عجلة الأحلام وتبتسم.. تعيد الحصالة القماشية وتخبئها تحت الفراش.. تُقبل صورة صالح تتذكر آخر مرة زارها كيف كان يبدو.. أصبح أطول, شاربه أوضح, ذراعاه أصبحتا تحتضنان جسدها الضئيل بقوة.. تضم صورته وتنام.
لا حديث لها في القرية إلا حفيدها الذي يدرس في المدينة.. كم هو مؤدب ومجتهد, وسيم ومطيع.. تبحث عيناها في بنات القرية عمن تناسبه.. تتخيل زغاريدها تتبعه وهو يمسك بيد عروسه في سرور.. تبتسم وهي تتخيل طفله يستحم في نفس المكان الذي كانت تغسل فيه أباه. 
لم يهمل الاتصال بجدته كل أسبوع ليعرف أخبارها, يسألها عن احتياجاتها, يطمئنها بأنه بخير ويعمل  ليحقق حلمها. 

 

لا تنسى جدته أن تدعو له في كل سجود.. تصوم قبل امتحاناته لينجح.. تنذر له في كل مرة بصوم جديد كلما اتصل يشكو خوفه من امتحان ما. 
بعد حفل التخرج عاد صالح مسرعاً إلى جدته.. السيارة تلتهم الطريق.. أحلامه تبحر في بيت واسع يسكنه مع جدته.. له سقف حقيقي وليس مجرد مجموعة من الأخشاب.. يرى جدته تحتضنه, تدور بشهادته في بيوت القرية تكرر لهم بأن طبيبهم قد جاء.. وقفت الجدة تنتظر على ربوة تشرف على الطريق.. عيناها تمسحان الطريق.. تحدقان من خلف النظارات السميكة في كل سيارة تقترب.. تؤكد لنفسها بصوت عال:
حفيدي سيأتي مع تلك السحابة الماطرة.. سيأتي بالخير.
 قلبها يدق بسرعة وهي تمني نفسها باللقاء الذي لا فراق بعده.. تتخيل سعادته وهي تعطيه حصالته.. تبتسم عندما تتخيل طفله بين ذراعيها.. تدمع عيناها لفرحها بنجاحه وزواجه و...
رحلت الشمس.. جاء السحاب بالمطر وببقايا سيارة تحمل جثة صالح.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً