الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
حين تتماهى الفنتازيا مع الحقيقة.. قراءة في رواية (الواحد) لـ طلال قاسم - *فايز محيي الدين
الساعة 21:18 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

رغم الواقع الروائي المحبط في اليمن والذي يراوح مكانه ولا يكاد يبرحه إلا لماماً؛ تنبري رواية(الواحد) للشاب طلال قاسم لتعيد لفن الرواية في اليمن هيبته. ورغم أنه سبق لأدباء كبار أن حفروا أسماءهم بقوة في الساحة الأدبية العربية كالغربي عمران وعلي المقري ونبيلة الزبير ونادية الكوكباني، ألّا أنَّ طلال قاسم أثبتَ مقدرة فائقة في تطويع فن الرواية والإيغال في أعماقها للخروج بعمل روائي مكتمل الأركان فنياً وموضوعياً وفكرةً، ليكون بذلك وحسب رأيي أول روائي يمني تكتمل على يديه الرواية الحقة، وأول شاب يمني يستطيع امتلاك أو إجادة هذا الفن من أول إصدار.

 

ناهيك عن إثباته لنا كمتلقين ومتذوقين لهذا الفن أنّ الشاب اليمني يمتلك من الرؤى والأفكار ما يؤهله للوصول للعالمية.. فقط يحتاج مواكبة إصداراته بنقد بنَّاء وتسليط الضوء إعلامياً لينال ما يستحقه.
 

رواية الواحد لطلال قاسم صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت2013م، وتقع في 424صفحة من القطع المتوسط. تم طباعتها وإخراجها بشكل جذاب وأنيق. لكن جمالها الفعلي تمثَّلَ في شد المتلقي من أول سطر فيها، ودفعه للجري خلف أحداثها التي تتنامى بشكل مطرد وتثير لديه الشوق واللهفة لمتابعة مجرياتها من أجل كشف ومعرفة سرها الغامض الذي بدأه الروائي من أول جملة في الرواية دون مقدمة تفسد دينامية النص أو حشو يضعف مسار السرد، فجاء كل شيءٍ بموقعه دون زيادة أو نقصان.
 

 

فالزمان لم يكن مضطرباً في ذهن الرواي، وكذلك المكان، مما أوحى للمتلقي بأنه يقف أمام مشهد حقيقي لقصة واقعية لولا الفنتازيا التي وسمَتْ الرواية ودفعت المتلقي للغوص مع الراوي في ثنايا وأعماق النص الذي حملَ من ثقافة علم النفس والفلسفة الممتزجة برؤية ذاتية للرواي الشيء الكثير. مما يشي للمتلقي بأنه أمام نصٍّ مثقف لكاتبٍ يعي ما يقول ويعرف ماذا يود إيصاله من رسالة إلى متلقيه. وإنْ كانتْ قد بدت أنها تنتمي للواقعية السحرية، لكن خاتمتها تثبت أنّ الروائي وبما يحمله من معرفة قد نحا بها منحىً لم يسبقه إليه روائي قط، ويصعب على أي ناقد أن يصنف هذه الرواية تبعاً لأي مدرسة أدبية، لكنها خليط من هذا وذاك، والأهم في هذا كله أن كاتبها قد اختط لنفسه مساراً مغايراً لما درجَ عليه بقية الروائيين. فجاءتْ روايته متميزة مدهشة تحمل من الجِدّة الشيء الكثير، فكرةً وأسلوباً.
 

 

الرواية تتلخص بشخص يمني من مدينة إب اسمه (إبراهيم فلاح) يفيق من نومه ليجد نفسه في (لندن) بغرفة فاخرة وسرير فاخر وعلى جدران الغرفة صور يظهر هو فيها إلى جانب أناس أغراب لا يعرفهم.. وقبل أن يفيق من دهشته وحيرته هل هو في حلم أم في يقظة يتفاجأ بصوت امرأتين خلف الباب تناديانه: جاك، أيها الكسول استيقظ. لم يكن بعد قد أفاق من دهشته بالمكان ومحتواه ليأتي صوت المرأتين ومناداتهما له باسم (جاك) فيزيده حيرةً على ما هو فيه.
 

 

تستمر بعد ذلك رحلة علاج (جاك/إبراهيم) في مستشفيات لندن، حيث تصر أمه وأخته وأصدقاؤه أنه مريض نفسياً وأنه يدعي شخصية لا يعرفونها، ويقول أن اسمه (إبراهيم فلاح) وأنه من مدينة إب في اليمن ولديه أربع فتيات يذكرهن بالاسم والعمر، بل ويشرح طفولته البائسة وبشكل لا يبدو عليه أي شك أو تردد.. التردد يظهر عليه فقط حين يحاولون إقناعه أنه (جاك).
 

 

يتم نقله للمستشفى لتبدأ رحلة التشويق الأكثر من مدهشة والتي تشي بروائي محترف وتنبئ عن أديب سيكون له في المستقبل شأنٌ عظيم إنْ هو واصل كتابة روايته بنفس الأسلوب. ونتمنى أن نرى له روايات تعكس طبيعة البيئة والمجتمع اللذين يعيش فيهما ويتفاعل معهما، فأي روائي لا ينقلك لبيئته وخصوصيته تفقد نصوصُه بريقها بعد حين، وقد تتشابه مع نصوص تُكتَب في بلدان أخرى.
 

خلال مرحلة العلاج التي يتلقاها (جاك/إبراهيم) يضع الروائي كل تصوراته ورؤاه الفلسفية والنفسية للوجود والأديان والإنسان كماهية وبنية أساسية في الكون. ورغم الكم الهائل منها إلا أنه يتناولها بحرفية عالية لا يشعرك معها بالملل، بل يدفعك للمضي معه دون توقف في محاولة لمعرفة النهاية.
 

لتكتشف في النهاية أنه يصدمك بشيء غير متوقع وبنتيجة لم تكن تخطر على بالك مطلقاً.. وهنا تتجلَّى الحرفية الروائية في أبهى صورها لتشعرك أنك أمام روائي عالمي عركَ الحياةَ كثيراً وسبرَ أغوار ومجاهل النص الروائي فعرف كيف يتلاعب بالمتلقي وكيف يسيِّره حسب رؤيته وفي الطريق الذي يشاء.
 

المتلقي يظل مشدوداً بأسلوب الروائي ويجري خلف أحداثه في محاولة منه لمعرفة كيف تحول (جاك) إلى (إبراهيم فلاح) وكيف يمكن أن تُحَل هذه المشكلة، خاصة بعد اكتشاف منظمة عالمية تعنى بعلم ما فوق الواقع (الباراسيكولوجي) أنّ (جاك/إبراهيم) هو الواحد، والواحد الذي باسمه تسمَّت الرواية هو الإنسان الذي يحمل كل أسرار الحياة وهو يعيش في الأرض نائماً، والخشية الكبرى أن يفيق من نومه، لأن إفاقته معناها دمار العالم وزواله.
 

هذه الرؤية الفلسفية تعتمد على الدين كما تعتمد على الفلسفة، لكنها في الأخير تظهر أنها اتكأت على الدين أكثر من بقية العلوم الفلسفية والنفسية، وهنا كانت الصدمة للمتلقي، حيث أثبت الروائي أنَّ ذلك الواحد هو آدم، وأنه بذلك الحلم الذي عاشه (جاك/إبراهيم) إنما استشرف مستقبل ذريته وما سيكونون عليه في قادم السنوات التي ستتوالى بالآلاف والملايين.
 

نهاية غير متوقعة، لكنها موفقة للغاية، خاصة وأنّ المتلقي ذا الميول الدينية المحافظة يسعد بها بعد أن انتابه القلق وعراهُ الاشمئزاز من بعض الرؤى المنتشرة في ثنايا الرواية، والتي تشي - قبل التعمق بها - أنها تعطي الإنسان صفاتٍ ليستْ له، بل وميزات إلهية، لكن الخاتمة أزالت كل ذلك الضباب الذي ران على ذهن المتلقي لتكشف له أنّ تلك رؤى آدم التي أراه الله بقدرته، حيث والنوم كذلك هو جزءٌ من الوحي كما ذكر ذلك الرسول صلة الله عليه وسلم، بل لقد اعتمدَ الروائي في جوهر روايته وفلسفتها على جوهر الحديث النبوي الشريف الذي يقول: "الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا" وهذا الحديث يكاد يكون ملخصاً للرواية والعقدة التي تم حبك الرواية من أولها إلى آخرها بناءً عليها.
 

وختاماً أقول إنها رواية رائعة مدهشة متفردة مشوقة لا ينقصها شيء من تقنيات السرد، لكننا فقط ننتظر من النَّاص(الروائي) أن يخرج إلينا في قادم أعماله بنص روائي يحمل سمات البيئة اليمنية بتاريخها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها التي تعج بالكثير مما يمكن أن يرقى بنصه إلى مستوى العالمية من التفرد والتمايز والخلود.
 

 

                           [email protected]

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً