الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
رواية "الأطلسي التائه" للروائي المغربي مصطفى لغتيري ؛ الإجتهاد السردي مقابل ندرة المصادر التأريخية - خضر عواد الخزاعي
الساعة 13:01 (الرأي برس - أدب وثقافة)

في روايته الجديدة”الأطلسي التائه” الصادرة عن دار الآداب في بيروت 2015 . يقدم لنا الروائي المغربي مصطفى لغتيري واحدة من النصوص السردية الكبيرة عن حياة شيخ الطريقة الصوفية أيام دولة المرابطين والموحدين “ابو يعزّى” أو ماعرف عنه فيما بعد “مولاي بو عزّة” والذي عاش في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، في الأيام الأخيرة من دولة المرابطين وشطراً من عصر الموحدين.

شخصية “بو عزّة” من الشخصيات التي حيكت حولها الكثير من الأساطير ونسبت اليها الكثير من الكرامات والمعجزات، ولقد تمكن الروائي مصطفى لغتيري رغم قلة المصادر، من متابعة هذه الشخصية والبحث في جذورها منذ نشأته الأولى في بيت أهله في “دمنات” القريبة من الجبال، كأسرة أمازيغية متواضعه وسط بيئة كانت تعتبر انعكاس واقعي لمعظم سكان القرى والبلدات المحيطة بمراكز المدن الكبرى في مراكش وفاس، حيث الفقر والجوع والجهل، وأحادية السلطة في البيت والبلدة، والتي تفترض بالمقابل طاعة مطلقة، من الزوجة والأولاد في البيت، ومن السكان في البلدة للشرفاء الذين يتحكمون بأرزاق الناس ومصائرهم، والإيمان المطلق في الغيبيات، ومحاولة تصديق كل ما يمت بصلة إلى عالم الروحانيات، في هذه البيئة الفقيرة،والشاذة.
 

 

ومع شحة المصادر التأريخية وندرتها عن الشيخ “بو عزة” يلجأ الكاتب مصطفى لغتيري إلى الخيال لابتكار مايراه مناسباً، ليؤطر به حياة هذه الشخصية، ليواكب التطورات والتغييرات التي كانت تطرأ على حياة الشيخ، مثل شخصية صديقه أيام الصبى “ابراهيم” وملهمته “لالة فاطمة الزهراء” ابنة الشريف الشرقاوي، نتعرف على “أبو يعزى الطويل ” كما عرف بين سكان البلدة لطول قامته وامتدادها، في البداية من خلال عدة اشتغالات للروائي على تلك الشخصية، جعلها تتوزع بين مستويات عدة، خارجية وداخلية، فالخارجية تتشكل من خلال علاقته مع أسرته، والتي تنقسم إلى قسمين، علاقته بأبيه والتي تغلب عليها الطاعة العمياء،والتي يميزها في الغالب الصمت المطبق والانحناء بوجود الأب، “كنت متشبعاً الى أقصى الحدود بمباديء طاعة الوالدين وطاعة من يكبرني في السن .. لم أستطع الرد، طلب مني الدخول إلى البيت فأطعته.ص13″ ثم القسم الثاني من هذه العلاقة مع الأم حيث كانت علاقتهما على أحسن ما يكون من الحنو والتعاطف المتبادل، إلى درجة يجعل منها قريناً فريداً بمقابل أبيه المتعنت” لو امتلك أبي المقدرة والسلطة، لما تردد في تدمير كل ما يحيط به ولن يكتفي بذلك، في حين لو امتلكت أمي القدرة والسلطة، لعالجت كل المريض، واطعمت كل جائع، وكست كل عار، وآوت كل ابن سبيل.ص15″. بينما استغرق المستوى الداخلي من شخصية “أبو يعزى” الكثير من بناء شخصيته، من تجارب متعددة صقلت شخصيته وأهّلته ليكون ما أصبح عليه، فهناك أكثر من خصلة كانت تتميز بها هذه الشخصية الروحية، منها، ماكان بسبب تأثيرات الأم والجدة عليه، مثل رغبته في تقديم المساعدة لهما في شؤون البيت والتي لم تكن تناسب وضعه كصبي، مثل التنظيف والعجن، كذلك محاولته التقرب من أمه من خلال تقليدها بتفاصيل دقيقة تخص المرأة مثل التزيين ووضع المكياج والكحل، ومنها ماكان من تأثير بيئته القروية والجبلية في تنمية قدراته الروحية، مثل رغبته الملحة في التعرف على ماهية الأشياء، مثل حبه لجمع الأعشاب البرية، ومحاولة معرفة فوائدها، مثل الزعتر والحبة السوداء”ما أن خرج أبي من البيت حتى ذهبت نحو جدتي، قرفصت بجانبها، تطلعت إلى وجهها السمح الجميل، ثم عمدت إلى جرابي فتحته، وبدأت أستعرض ما ظفرت به من نباتات، منها ماعرفت اسمه وكررته على مسامع جدتي، ومنها ما لا أدري لها اسماً، لكن جدتي تكفلت بذكر الاسم والفوائد التي تحتويها النبته:

” الصعتر لعلاج الامراض التي يتسبب فيها البرد؛ “الشيح” لجميع أوجاع المعدة والامعاء؛ “والخزامى” للاوجاع وداوات الشعر .. وهكذا.ص14″. والتي سيتقنها في المستقبل في مرحلة لاحقة حين يبدأ علاج “اللالة فاطمة” ابنة الشريف الشرقاوي، في الجانب الروحي، هناك أيضاً، حبه للموسيقى ، كذلك الرقص، والأهم في كل ذلك من هذا الجانب، هو اصراره على توسيع ادراكاته الروحية، التي وفرها له صديقه ابراهيم، في أول احتكاك له مع العالم الخارجي، ليضع خطواته الأولى في طريق سياحته الروحية والصوفية،”احترمت ابراهيم كثيراً، قدرته ووعدت نفسي أن أجعله قدوة لي في كل شيء، وأن أستغل رفقته لأتعلم منه قدر ما استطيع.ص37″.


 

اسلوبياً قسم السارد نصه إلى عدة فصول كان كل فصل منها يعتني ويختص بمرحلة معينة من حياة “ابو يعزى”، وهو أسلوب فيه الكثير من السلاسة واليسر بالنسبة للمتلقي، حيث قسم روايته إلى ستة عشر فصلاً تبدأ في قرية دمنات حيث “ابو يعزى” لم يزل بعد صبياً، وتنتهي في بلدة”تاغت” الجبلية، حيث يكون “بو عزّة” قد أصبح من شرفاء القوم ومن أوليائهم المشهورين ” مولاي بو عزّة”.
في الفصل الثاني تبدأ الرحلة الحقيقية للصبي”ابو يعزى”، مع أولى خطواته نحو بيت “الشريف الشرقاوي” وتعرّفه على صديقه ابراهيم، وابنة الشريف”لالة فاطمة” وابنه الشريف”علي”. الذين أثروا ايما تأثير على حياته الروحية والشخصية، وفي هذا الجزء يقدم لنا الروائي التقاطة مهمة من الواقع الاجتماعي وهي ، التمايز الطبقي، بين سكان المغرب، والذي تفرضه الكثير من الأسباب الاقتصادية والتأريخية، حيث يظهر الولاء المطلق من قبل أهل البلدة الفقراء للشريف الشرقاوي من خلال حديث ميمون والد “ابو يعزى” مع الشريف الشرقاوي” هذا ابني أبو يعزى، هو عبدك وخادمك، فافعل به ماتشاء، ان لم يطعك أذبحه وارسله الي لكي اسلخه. ص22″.
ومع ابراهيم تبدأ أول محطاته المعرفية والروحية بالتفتح، حيث الصلاة والكتب والموسيقى وعالم خصب وثري من الحكايات، وكانت أولى تلك الحكايات، عن “الحلاج”،”تملكتني حكاية الرجل بشكل لم اتوقعه، تمنيت من أعماق قلبي لو كنت احد اتباعه كي أصد عنه اذية الناس، فمثل هذا الهوى اجده في نفسي، يتحرك في قلبي في كل وقت وآن، لزمت الصمت قليلاً، ثم سألت ابراهيم عن أسم الرجل فرد عليّ: “الحلاج”.طلبت شرحاً للأسم، فقال هو الذي يغزل الصوف، تفكرت في الأسم ملياً، فبدا لي رجلاً يغزل الروح بعشق الله.ص39″.
ومن هذه المحطة الكبيرة التي لم يكن يتوقعها تبدأ رحلة الألف ميل “لأبو يعزى” والتي تستمر لسنوات طويلة من التقشف والزهد والسمو الروحي، حين يحصيها يقول:”استمر بي الطواف مدة طويلة، حتى عددت أكثر من أربعين شيخاً، نعمت بصحبتهم، وخدمتهم بما أستطيعه، وتعلمت منهم الكثير مما أفادني في ديني ودنياي.ص203″.
من خلال شخصية”بوعزة”يأخذنا السارد معه في رحلة مشوقة في عالم التصوف والمتصوفين، حيث يقدم لها منذ بداية اهتمام “ابو يعزى” بالجانب الروحي من شخصيتة، خصوصاً بعلاقته مع الله “أصبحت لدي فكرة واضحة عن الفرق بين الفرق الإسلامية، وخاصة فرقها فرقها الكبيرة السنَّة والشيعة والخوارج، وجدت في نفسي قرباً إلى فرق التصوف بشتى انواعها، بدت لي فرقاً تهتم بالوجدان والقلب ولاتهتم بسفاسف الأمور. ص55،56″،اهتم السارد كذلك بجانب آخر مهم وهو علاقة “ابو يعزى” مع الناس، ومدى تأثيره، على شريحة عريضة من المجتمع المغربي، القريب من عقيدة التصوف، لما كان يراه ويلمسه هذا المجتمع والذي يكون في جوانب كثيرة منه قريباً من الكرامات والمعجزات، بعد أن ينأى بنفسه بعيداً عن العالم المادي”كنت مشغولاً بأشياء أخرى بعيدة كل البعد عن الإنشغال بإعجاب الناس أو كرههم، لقد كانت نفسي تنقطع تدريجياً عن العالم المادي الملموس، وتتعلق بالسمو، بالعالم الذي لايقدم نفسه للجميع، بل ينتقي أصفيائه، عالم الروح، عالم اليقين. ص150″. في هذا الوقت يكون “ابو يعزى” قد فقد أهم مرتكزين في حياته الروحية، هو مقتل صديقه “ابراهيم” وكذلك” لالة فاطمة” التي قتلت حرقاً، بسبب السياسة، لكن موت هاتين الشخصيتين لن يكون في مداه البعيد إلا محفزاً روحياً آخر، يُدخله أكثر في عالم الأرواح، حيث تراوده روحيهما، عندما يكون في حاجة ما للهروب من ظنك الواقع المحيط به، لتبدا رحلته مع عالم الأحلام أو الرؤى”قضيت ايامي على هذه الحال زمنا طويلاً، متخذاً من الحديث مع قرين روحي أهم سلوتي، تطرقت وإياه لمواضيع شتى، لم تخطر لي من قبل على بال، وكان ينير طريقي بكلامه النير الذي غالبا ما يحسم الأمر بكلمات قليلة ودالة.ص137،138″. ومع “لالة فاطمة” تكون له كذلك حالة من الاستحضار الروحي بعد أن ينتهي من دفنها”ميّزت قبر الزهراء بعلامات مميزة، وجلست على رأسه وبدأت أنشج ببكاء مرير .. بغته وأمام استغرابي طفرت الزهراء أمام بصري يجللها البهاء، مرتدية البياض كانت، وتضع على رأسها إكليلاً من الورود، فوقفت على بعد خطوات مني، ثم قالت:لاتحزن يا أبا يعزى فأنا لم أمت، وسأظل معك إلى أبد الآبدين.ص145″.

 

 

هناك جانب مهم أبرزه السارد، وهوعلاقة “ابو يعزى” مع الطبيعة والحيوان، تلك العلاقة التي رسخت لدى العامة، قدسية “ابو يعزى” من خلال تعايشه اليومي مع الحيوانات البرية بأنواعها الداجنة والمفترسة”كنت أسعى في أرض الله الواسعة، باحثاً عن النباتات النافعة، فإذا بي أرى كلاباً متوحشة، تهاجم بعض الصبيان، فتركت ما في يدي وتوجهت نحوها، ولأن لدي خبرة سابقة في التعامل مع هذه الحيوانات،استطعت أن أهدئها، لقد كان يكفي ان اتقدم نحوها بهدوء وبدون خوف وأنا أحملق في عينيها، لأؤثر فيها، فما كان إلا أن بصبصت الكلاب بذيولها وانسحبت هادئة.ص174″.

 

في هذه المرحلة يطلق عليه الناس لقب”ابو جريتل” أي “صاحب الحصير” الذي يلف به جسده، ثم ينتقل إلى مراكش، حيث لايطيب له البقاء هناك كثيراً، لينتقل بعدها إلى حاضرة أزمور للقاء شيخها هناك “أبي شعيب أيوب السارية” لطول وقوفه بالصلاة، حيث يتعلم منه الكثير، وهناك يطلق عليه لقب جديد هو”ابو ينكلوط” وهو نوع من النباتات كان يقتات عليه.
 

خلال رحلات “ابو يعزى” يطلع القاريء على ماكانت تشهده الحياة المغاربية من تجاذب سياسي وديني، بين أطراف متعددة ومتباينة، في واحدة من أهم وأخطر مراحله التأريخية، بين نهاية العصر الذهبي لدولة الاندلس، والمحاولات الناهضة التي كانت تجري في سباق مع الزمن، لإعادة هيبة الدولة الإسلامية واستنهاضها من جديد، أيام دولتي المرابطين والموحدين، بالإضافة إلى أن النص كان بمثابة سياحة طوبوغرفية وانثربولوجية، في المغرب العربي، لما فيه من التنوع الجغرافي والبيئي والقبلي، حيث يرد أسم الكثير من الأماكن والبلدات مثل حاضرة أزمور، وبلدة الشاوية وعين الفطر، التي ينال فيها لقباً آخر وهو”يلنور” أي صاحب النور التي يطلقها عليه الناس بعد يقول له “مولاي عبدالله امغار” : انت نور من أنوار الله الساطعة. ص195″ ونتعرف أيضاً على مراكز المدن المهمة آنذاك مثل مراكش وفاس، اللتين كانتا تعتبرا من الحواضر المهمة في المغرب العربي، لما كان لهما من أثر ديني وسلطوي في استقطاب الكثير من العلماء والمتعلمين والطامحين في العمل السياسي.

 

ولقد كان السارد بارعاً في رسم الصور الحقيقية لتلك الحواضر والمدن في تلك الفترة،”أشرفت على فاس في أحدى الأماسي، فلاح لي بياضها وقببها البيضاء، فتملكتني قشعريرة .. أحسست انني أمام وجه التأريخ العتيق بكل مهابته وسطوته، هذه مدينة ضمت اجساد الشرفاء والفقهاء أحياء وامواتاً، مدينة تداول فيها الناس العلم وبنوا لها بين أحضانها أمجاداً متوارثة، كل ذلك جعلني أحس برهبة كبيرة.ص201″.أيضاً نقرأ في هذه الرواية أسماء العديد من العلماء ورجال الدين والمتصوفة مثل ابن رشد، وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر ابن العربي، وأبي عبدالله أمغار، وشعيب أبي ايوب السارية، وعبدالرحمن الجمار.
 

 

في رواية “الأطلسي التائه” يقدم لنا الروائي المغربي مصطفى لغتيري في اجتهاد سردي خصب، واحدة من الروايات المهمة التي أرخت لجزء حيوي من تأريخ المغرب في جانبه المعرفي والروحي، من خلال شخصية”بوعزّة” لتكون وثيقة معرفية وبداية جريئة ناهضة لمن يريد أن يلج هذا المعترك الصعب، وهي بالتأكيد واحدة من التجارب الناجحة التي تحسب للروائي مصطفى لغتيري.

 

مأخوذة من الناقد العراقي..

 

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً