الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
«دم على المئذنة» للسوري جان دوست: دم على مقام كرد - رياض حمَّادي
الساعة 16:51 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

أتى جان دوست إلى الرواية من بوابة الشعر وما زال يمارسه عبر اللغة الشعرية في رواياته. فالشعر، كما قال لي في لقاء لم ينشر بعد، «تمرين أساسي لكتابة رواية جيدة. وحين يتحول الشاعر إلى روائي يجمع بين الفضيلتين، اللغة والإحساس بالإضافة إلى الحكمة». وجان دوست مولود في كوباني محافظة حلب وهو مقيم في ألمانيا. وهو أيضاً مترجم وقاص، حصل على جائزة القصة الكردية القصيرة في سوريا 1993،وترجم معظم أعماله من الكردية إلى العربية وله ترجمة شهيرة لرائعة أحمد خاني «مم وزين»، وهي من أشهر قصص الحبّ الأسطورية في التراث الكردي. في رصيده الروائي حتى الآن ست روايات من بينها»دم على المئذنة»التيعمدها بالدم.

صدرت رواية «دم على المئذنة»، عن دار مقام للنشر والتوزيع (2014). وتدور أحداثها حول مجزرة عامودا، حزيران/يونيو 2013، وقُتل فيها ستة أكراد علي أيدي الميليشيات الكردية الموالية لنظام دمشق. ويتخذ المؤلف من هذه المجزرة دافعاً لكتابة سيرتين: سيرة مكان تَعاقَبَ عليه القتلة عبر التاريخ، تتداخل معها جزء من سيرة المؤلف باسمه المستعار صالح.

في روايات جان دوست، بدءا من «وطن من ضباب 2008» وحتى «دم على المئذنة» يمكن العثور على نموذج للفرق بين الحياة والواقع. وهو فرق أكد عليه د. هـ. لورنس في مقاله عن (الرواية والخلق). فالخلق الروائي ينعدم حين يكون واقع الرواية مطابقاً للوقائع على الأرض لكنه يفتقر إلى الحياة. فمهمة الروائي، خلافاً لمهمة المؤرخ، هي أن ينقل روح الحياة قبل وقائعها. والصدق شرط لتحقيق ذلك وبه يتحدد الفرق بين من يكتب بالحبر ومن يكتب بالدم والدمع. وجان يقتنص الحكايات وينفخ فيها الروح، فهو القائل في روايته «عشيق المترجم» إن «الحكايات طرائد فخاخها القراطيس».

تخوض رواية «دم على المئذنة» مغامرة الكتابة عن التاريخ والأدبمازجة الحقيقة بالخيال،وفق ما تقتضيه الكتابة التاريخية من حقيقة والكتابة السردية من خيال. وقد وظف السارد تقنية المونتاج فعمل على تقطيع الزمن بين الماضي والحاضر، من ثورة عامودا 2013 إلى ثور الخلافة التركي المريض في عشرينيات القرن العشرين، ثم إلى عامودا 2013 وانتقالاً إلى عامودا 1937. من الجد الملا عبداللطيف إلى الأبناء والأحفاد، من المستعمر الفرنسي إلى المستعمر السوري والكردي والقاسم المشترك بين هؤلاءهوالقتل.

من الملامح الفنية التي اتسم بها السرد (أنسنة الجمادPersonification).ففي فصل يحمل عنوان (سيرة حياة طلقة) مُنحت الطلقة صوتاً لتحكي ومشاعر لتشعر بالسأم والوحدة والملل، وأذناً لتسمع فواجع الإنسان، وعيناً لتراقب و«تخترق حجب الظلام». أنسنة الطلقة على هذا النحو أظهرالفرق بين الطلقةوالقاتل الذي أطلقها بدم بارد، ومن جهة أخرى وحَّدهابالضحية من خلال حلمهما المشترك:الحرية.سيرة حياة طلقة ذات طابع فانتازي، وتحكي عن طلقة الدوشكا: أوصافها الخارجية، عمرها، مكان ولادتها (1984)، وحتى وفاتها في رأس الفتى سعد (2013). ومن خلالها يعرض ومضات من تاريخ سوريا تحت الاحتلال الفرنسي، ثم الاستقلال، والوحدة السورية المصرية، والصراع العربي (السوري) الإسرائيلي والصراع الكردي الكردي (1991 ـ 1992) وتاريخ الأكراد الموزع بين سوريا وتركيا وإيران. طلقة صُنعت لتموت في جوف دبابة أو مجنزرة أو طيارة عدو مغتصب لكنها تلقى نفسها، بعد صبر طويل وممل، في رأس شاب صغير جريمته الحرية.

ويتميز السرد بخطاب تأملي ويمكن الاستشهاد بهذه الفقرة:«يمكن للمادة أن تتناقص حتى تصبح صفرا، أي تفنى وتدخل دائرة العدم تماما كالأرقام: تبدأ من اللانهاية وتتناقص حتى تصل إلى الصفر. أما الزمن فلا يتناهى إلى العدم مهما تجزأ إلى وحدات زمنية أصغر لأنه لو تناهى إلى العدم لما كان هناك وقت أصلا. فحاصل جمع عدم إلى عدم لا ينتج عنه إلا عدم، لكن الفاصل بين ضغط رامي الدوشكا ذي العينين الذاهلتين على الزناد مرة أخرى ثم تحرر الطلقة من سجنها المعدني وبين محاولة سعد أن يدخل إلى الشارع الجانبي الضيق ليغيب عن مرمى الطلقات كان فاصلا زمنيا قريبا جدا من العدم لم يشعر به لا رامي الدوشكا ولا سعد الذي سمع صوت خروج الطلقة من السبطانة العمياء مترافقا في نفس اللحظة بوخزة مؤلمة في مؤخرة قحفه» (الرواية).

وكمثال على التلميح أتوقف عند دلالة الوحدة في مشهد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا 1958 ومشهد استعانة الملا عبداللطيف بثلاثة من الأرمن لبناء منبره. وحدة سياسية بين العرب ووحدة اجتماعية بين الكرد والأرمن بعد المجزرة التي تعرضوا لها. وحدتان لم يكتب لهما النجاح لأنهما حصيلة إرادة فردية لم تتآلف معهما القلوب ولم تستوعبهما العقول التي لم تتقبل الآخر. وتعليق الملا، مخاطباً الحِرَفِيين، يدل على وعيه باستحالة صمود الوحدة السياسيةوإمكانية صمود الوحدة الاجتماعية لو أنها تأسست على البناء والتعاون. يقول الملا:

«أقسم بالله إن منبركم الجميل هذا سيصمد أكثر من وحدة هذا الرئيس الأسمر التي أعلنوها قبل أيام» (الرواية).واتسمت شخصيات الرواية بفرادتها وتنوعها وأبرز تلك التي تعلق في الذاكرة (مسينو الأهبل، أوسي شارو، الشاعر). الشخصيات وجماليات لغة الوصف تحتاج إلى وقفة مطولة، لكني سأكتفي بمثال عن الوصف والحوار في المقطع التالي:

وصل (الدم) في تلك اللحظة إلى الأرض وأخذ يسيل في أربعة خطوط رفيعة كأوتار كمان على الشارع الفاصل بين بيت اللهو بيت عبده التسعيني إمام الجامع الكبير. اقترب الثلاثة من الحشد الحائر وتقدموا حتى بلغوا باب المسجد وهم يطأون أوتار الدم لا مبالين بتحذيرات الآخرين الذين تحاشى كل واحد منهم موطء الدم المنساب على الشارع.

■ الأوغاد. إنهم يعزفون على الدم .قال مسينو الأهبل، الذي دأب على اقتباس كلامه من عبارات الشاعر النحيل حتى بات الناس لا يفرقون بين كلامه وكلام الشاعر. ثم مد رقبته الطويلة من جديد فوق رأس الروائي الحائر وأردف مستفهما منه:

■ أستاذ صالح أتعرف أي مقام هذا؟

■ إنه مقام الحيرة يا رئيس .

■ لست أسألك عن التصوف يا فيلسوف عصره. أي مقام موسيقي هذا الذي يعزفه الثلاثة المدججون؟

■ لا يهم. إنه نشاز على كل حال .

■ أما أنا فأعتقد أنه مقام كُرد. (الرواية)

يقول جان دوست: «الكتابةُ، جريمة تقتل مرتكبها». لكن الجريمة هنا تحيي وتيقظ الضمائر. فقد وضع الكاتب فيها روحه ودمه، مقتفياً بذلك مقولة المسيح التي وظفها السياب شعراً: «دمي ذلك الماء لو تشربونه ولحمي هو الخبز لو تأكلونه».الماء والخمر هنا يتحولان إلى حبر من دم ودمع والخبز إلى ورق. والنتيجة رواية واقعية بأسمائها ومجريات أحداثها لكن كاتبها ينظر كعادته من ثقب جحيم الواقع إلى جنة الخيال،ليمنح واقع الرواية روحاً، خلافاً لمن ينظر من ثقب الخيال إلى جحيم الواقع فيظفر بالواقع ويفقد الحياة. وكما بدأت الرواية بمزج الحقيقة والخيال فإنها تنتهي بخاتمتين: خاتمة تستجيب لإغراء الخيال فينهيها المؤلف الضمني (صالح) بأمل يطارد فيه الدم قتلته وينتقم منهم. وخاتمة يُبقيها (المؤلف الحقيقي) مفتوحة على واقع الثورة التي لم تُحسم وقائعها أو على واقعثورة حقيقية لم تبدأ بعد.

 

ناقد يمني.

مأخوذة من صحيفة القدس العربية .

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً