الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
"تبادل الهزء" .. وغواية منتصف الطريق - قاصد الكحلاني
الساعة 07:58 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

انتهيت الآن من قراءة رواية "تبادل الهزء" للكاتب الكبير محمود ياسين. وأصفه هنا بالكبير وأنا أعني الكبير حقا. فطالما استمتعت بمقالاته وتمنيت أن أقرأ له عملا روائيا، ذلك أن بعض مقالاته تكشف لك بوضوح أن كاتبها يمتلك لغة روائية خلابة؛ لغة قادرة على الإخبار والتحليل والاستبطان والإدهاش في آن واحد ، فضلا عن أسلوب "الهزء" اللاذع الجاذب للتعاطف ، والذي لا يأتي إلا في المحل الذي تعجز فيه كل الأساليب الأخرى عن قول المراد. 
 

سعادة غامرة لم تفارقني وقد انتهيت من قراءة الرواية، بل إن درجتها تتصاعد في هذه اللحظات. من المجازفة تفسير هذه السعادة، لكن يمكنني القول إنها أول رواية يمنية تحلق بي في الأعالي. مسرور جدا لما استمتعت به من لغة شعرية عابرة للأساليب والأنماط، وقدرة فائقة على تصوير أعقد المشاعر وأشدها غموضا. فضلا عن التوظيف الناجح للتناصات، وإسهامه في رسم آفاق الحلم ومحطات التعثر والانخذال. 
 

تنتهي من قراءتها وترتاح كأنك عشت الحياة التي كان يجب أن تعيشها؛ كأنك تذوقت لذة الكفاح والمغامرة، وطعمت شهد الإمعان في ماضيك. 
 

تحب العزي لأنه أنت؛ مهما كانت الاختلافات بينكما في المستوى المادي أو الاجتماعي، إلا أنك تجزم أنه أناك الحقيقة ، وأنك لست سوى النسخة المقلدة منه. 
تحب العزي لأنه قدمك إلى نفسك، فتعرفت على حقيقتك. 

 

سرد كثيف من ذلك النوع الذي لا يغرقك بالتفاصيل، وإنما يأخذك إلى الجوهر، دون أن تحس بتعاليه أو بمغادرتك الملموس. 
سرد يدمجك بعالمه، آخذا بتلابيبك، طائفا بك على أزقة كثيرا ما اختبأت فيها أو اختبأت فيك. سرد يمر بك على الحواف دون أن يلقي بك إلى الهاوية. 

 

في الواية تشويق على نحو مختلف. عادة التشويق أن يستعجلك إلى النهايات، بيد أن التشويق هنا يغريك بالبقاء في منتصف الطريق. تقرأ وتقرأ وتخاف أن تنتهي حتى لا تعاقب بالسقوط من جنة السرد.
 

جمال هذا النص في كونه ملك نفسه، أقصد أنه يلعب على القواعد التي وضعها لنفسه، أو لنقل بشكل أدق، إنه نص روائي حر من كل القيود، وما يتجلى فيه من مظاهر قد توصف بالقواعد ليست إلا نتاجا لاعتمالات الحياة النصية، وظلالا لمعالم الناس الذين مر بهم العزي أو مروا به.
يتحدث السارد بضميري المتكلم والغائب، يتنقل بين أزمنته على هواه، يغادر أمكنته، بتداعيات لا تملك إلا الإذعان لها. لا يتملقك بتنميط شخصياته أو تزيينها. لا يهمه إيهامك بالواقعية، من شدة واقعيته، ولا تستطيع الفكاك من غواية خيالاته. 

 

يأخذك السارد إلى عوالم زلقة ما بين الرواية والسيرة الذاتية، يفتح عينيك ويغلقهما، لكنه يمنحك القدرة على الإبصار في كلتا الحالتين. 
قريبا من آخر الرواية، يقع السارد في مغبة النفي المقنع، وهو ما نجده لدى الروائيين المغامرين في أعمالهم الأولى، خاصة في مجتمع لا يتورع عن وصف ما 
يقع في النص بأنه نقل عن الواقع ليس إلا. 

 

هذه انطباعات عابرة من قارئ لا يريد تشويش غبطته وسروره بمحاولة نقلهما للآخرين، لذلك سأتوقف هنا، حتى دون تحية لمحمود ياسين ، سوى بالقول إن هذه الرواية قد أغوتني لدرجة أنني قبلت غلافها ثلاث مرات.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً