الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تقديم ديوان "خلف البياض" للشاعر الفلسطيني حسن العاصي - مصطفى لغتيري
الساعة 23:40 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


في رحلتها الطويلة منذ انطلاقتها البكر في صحراء العرب، مرت القصيدة العربية بمراحل عدة، استغرقت في بعضها زمنا طويلا، كما حدث مع طغيان عمود الشعر كمعيار للصوغ الشعري، فعمر طويلا، وحدد الذائقة الشعرية العربية، بل أثقلها بكثير من القيود، التي قد تكون قد أفادت الشعر العربي في بعض النواحي، كتحصينه من الضعف والركاكة مثلا، لكنها من جانب آخر ضيعت عليه الكثير، وخاصة الانطلاق نحو الأفق العالمي الرحب، الذي كان -بلاشك- سيضيف لها الكثير، غير أنها في غياب ذلك ظلت محافظة على محليتها بكثير من الإصرار المبالغ فيه، ولم يتأت لها بعض من الانفتاح إلا مع قصيدة التفعيلة، التي سمحت لرياح التغيير بأن تهب على الشعر العربي، بسبب المثاقفة مع الغرب بالخصوص أولا، وبسبب التحولات الاجتماعية المتسارعة في القرن العشرين ثانيا، تلك التحولات التي لا يجادل أحد في تأثيرها العميق على الإنسان العربي، بما في ذلك ذوقه الفني والشعري.
 

 

ومن حسنات قصيدة التفعيلة أنها فتحت الأبواب واسعة لقصيدة النثر، التي ورثتها جماليا، لتذهب بعيد في الاغتراف من معين الشعر العالمي الذي لا ينضب ، لتطال القصيدة العربية نتيجة لذلك تحولات عميقة طالت بنيته وبناءه، ومست لغته وإيقاعه، وأثرت على فلسفته ورؤياه.
 

وفي رأيي المتواضع أن أهم فتوحات القصيدة النثر المعاصرة اهتمامها بشيئين مهمين في غاية الأهمية، وأقصد بهما الصورة الشعرية ، التي أضحت مكونا أساسيا ومحوريا في بناء القصيدة، والانتقال من سيطرة البعد الشفاهي على القصيدة إلى الاهتمام البعد الكتابي، الذي أخذ تدريجيا يفرض سطوته على جميل القول، أقصد الشعر.
 

ولعل التجربة الشعرية للشاعر حسن العاصي من خلال ديوانه هذا الذي ارتضى تسميته"........" تبرهن إلى حد بعيد على ما ذهبنا إليه بخصوص الصورة الشعرية ، التي تبدو من خلال قراءة أولية للقصائد أنها مهيمنة بشكل كبير على بناء النصوص، فلا يكاد المتلقي يتجاوز سطرا أو سطرين حتى يفاجئه الشاعر بصورة شعرية اجتهد في جعلها قوية وأخاذة، حتى ليمكننا الحديث مع هذا الديوان عن إيقاع الصورة الشعرية، الذي يبدو أنه يعوض تدريجيا الإيقاع التقليدي بنوعيه الخارجي الممثل في البحر الشعري أو التفعيلة والإيقاع الداخلي الذي يتجسد في محسنات البديع ، كالجناس والطباق و السجع وغيرها.
 

وتتميز الصورة الشعرية في الديوان بخصائص أهمها عدم الركون إلى التشبيهات التقليدية المعرفة، كما أنها تمتح من تصورات فنية وفكرية متنوعة كمدرس العبث واللامعقول مثلا.
ويمكن أن نأخذ بعض النماذج، التي تدل على هذا التناول المختلف للصورة الشعرية، والذي يراهن على الذهاب بعيدا بالخيال إلى الحدود القصوى المفترضة ، يقول الشاعر:
تفور النقاط والفواصل

 

وتتلاطم الكلمات
يعبرني بخار الوجع الكامن
وتشتعل البحار.

 

فلنتأمل هذا الصراع المضطرم في جوف الكلمات والنقاط والفواصل، وكيف لبخار الوجع أن يعبر الشاعر، لتشتعل البحار. هكذا يخاطب الشاعر من خلال صوره الشعرية لاشعورنا الكامن مستخدما لغة أقرب إلى لغة الأحلام، التي لا يتأتى تفكيك رموزها للجميع.
وفي صورة أخرى تمضي على نفس النهج، يقول الشاعر:
في البدء كانت النوافذ
بلا ظلال بلا ذاكرة
وكان النهر إرث المزارعين
والنوارس تمزٌق الماء
وتبعثر صيحات الأطفال
وكانت الميادين تستحم
بالأسماء المعلٌقة

 

لا بد ان القارئ ستستوقفه غرابة الصور الشعرية الكثيفة التي يتضمنها هذا المقطع من القصيدة، وحتما سيفتتن بذاكرة النوافذ لأنها تحيل على بعد رمزي حابل بالمعاني وظلالها المتوارية في أعماق الدلالة، وحتما سينشغل بتلك النوارس التي تمزق صفحة الماء وتبعثر صيحات الأطفال، في الوقت الذي تأبى فيه الميادين سوى أن تستحم، نعم تستحم لكنه ليس أي استحمام إنها تستحم بماء الأسماء المعلقة.
 

إنها سمفونية الصورة الشعرية، التي تتألق بغرائبيتها وبصوغها الجميل وبمعجمها الذي غالبا ما يمتح من الحقل الدلالي للطبيعة، كما هو الشأن في هذا المقطع التالي، الذي تكتظ فيه الصور الشعرية على عادة قصائد الديوان، يقول الشاعر:
أقدام البحر تخشى السفر
فأنصب أشرعة الرحيل
على حد البرق
الموغل في العتمة

 

هكذا نلاحظ أن الصور الشعرية استحمت مع أقدام البحر بسطوة الطبيعة، حتى وإن كان تخشى الرحيل، عكس الشاعر الذي ينصب له أشرعة على حد البرق، الذي يلمع فجأة في عمق الظلمة الكثيفة، تلك التي قد تحد البصر لكنها أبدا لا تحد البصيرة.
 

إنها الصورة الشعرية حين تصبح مدمكا للشعر وأساسه و لبنات يبني بها الشاعر قصيدته، غير هياب من تجاوز الذائقة الشعرية التقليدية، حتى وإن لم تستسغ هذا النوع من التعاطي الشعري المعاصر.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً