الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
(دور الحلم في الخروج من حصار المبنى إلى آفاق المعنى). مجموعة سيد الوكيل (لمح البصر) نموذجا- دكتور شريف عابدين
الساعة 17:39 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


العجائبية:
 

يتميز المحتوى الحلمي بالعديد من المظاهر التي تثير لدى المتلقي هوة إدراكية وتمثل دافعا يحفزه إلى تخطي الفجوة وإدراك المعرفة بـ مد الجسور إلى أفق التلقي . وقد جاء اختيار الكاتب إطار "السرد حلما" في مجموعته، تطبيقا متفردا على تقنية الخروج من حصار المبنى.
*

 

يمثل القص الحديث قيدا على الكاتب، ﻷن رهان التكثيف يفرض عليه اختزال مكونات القص الرئيسية سعيا وراء الحد اﻷدنى، لمواكبة تململ القاريء وانتقاص دافعه للتلقي وانشغال حيز اﻻستيعاب لديه على خلفية اﻹغراق المعلوماتي. 
 

إنها لعبة الكتابة التي تفرض عليه بالإضافة إلى تحديات إتمام مهمته البنيوية المكثفة؛ اﻻستحواذ على القاريء وتحفيزه ليقوم بنفسه بتنمية الحيز السردي؛ بمد الجسور إلى أفق تلقيه من خلال خلق هوة إدراكية.
 

إن تحقيق هدف اﻹمتاع، يتطلب وظيفيا اﻻندماج والمﻻحقة والإدراك المبتكر، لبلوغ حالة من اﻹشباع الذي ينعكس تركيبيا بالحاجة إلى كم معين من أدوات اللغة. والذي يعوضه الكاتب بخلق حالة من الإثارة تمسك بتلابيب المتلقي. أحد هذه التقنيات توظيف العجائبية، والتي استخدمها الكاتب ببراعة في العديد من النصوص وهذه بعض الأمثلة:
 

 

نص: "مكان ضيق"
من بعيد أرى كل شيء كأنه تحت قدمي.
أحمل جثته على كتفي وأمضي خلفها.
ينمو شعر مبلول تحت ملابسي، شعر أبيض وملوث بالدماء، يصعد إلى وجهي ويغطي عيني فلا أرى.
لا أعرف كيف سأفعل ذلك؟ ولكني أعرف أني سأفعله.
ألقي نفس العجوز مهشم الرأس لترتطم رأسه بجدار المقبرة، وأسمع آهة تخرج من بين شفتيه.
رجال مهشمي الرؤوس، يمشون على طريق الأسفلت، ويتبعون أثر السيارة عليه.

 

 

نص: "أسماء"
صرخت:
ـ احذري يا أسماء.
لكنها لاتبالي، وربما لاتسمعني ، حتى رأيت يقيناً سقوطها فصرختُ، ورأيتني في قاع واحد معها

 

 

نص: "شجرة الألعاب"
أسمع دفقات مكتومة، هينة، متتابعة. دفقات لا أعرف وصفها، ولكنى أراها كتلة كبيرة من الضباب، تتدحرج فى أول الشارع، كلما اقتربت تكبر. تكبر حتى تبتلع الشارع والسيارات المركونة على جانبية وأعمدة النور المطفأة والبيوت. تقترب حتى تبتلعني أنا والشجرة.

 

 

نص: "حافة الموت"
ردهة واسعة يغمرها نور لايتجاوز عتبة الباب ولا يتسرب إلى الطرقة، كأنه مقيم في الردهة فحسب.
رأيت الممرضة بوضوح، صرخت أناديها. لكن صوتي لم يصل إلى الردهة المضيئة.

 

 

نص: "خازن النـار"
كان كهلاً في الخمسين تقريبا، يؤدي مهمته في صمت، غير مبال باقتراب رجال الأمن، ولا بقبضات الثوار، فقط، كان ينقل الجثث في هدوء، ويلقي بها في شاروقة النار، أملاً في أن يتحرك القطار.
ملكني رعب، ماذا لو نفذت الجثث ولم يتحرك القطار؟
سألت الكهل: ما المحطة القادمة؟ لم يرد.
لا مفر من أن أساعده في إزكاء النار بالجثث، حتى اتبين بنفسي، ما المحطة القادمة. 

 

 

نص: "تايتنك"
كنت في قاع سفينة، وحشد من عبيد ترسف في أغلالها، وكنت مسئولاً عنهم، فيما كانت النار تحيط بالعنبر المكتظ بالصراخ والفزع، بينى وبينهم باب من أسياخ الحديد، موصد بجنزير وقُفل مفتاحه ليس معي، يصرخون وأصرخ مثلهم.
حولنا عشرات من جثث لعبيد ملفوفة في أكفان بيضاء. فيما كان الربّان يأمرنا أن نلقى بها في البحر، جثة.. جثة.
ها أنا بين الذين نجوا، أحمل جثة على كتفي، وأدور بها بين جنبات سفينة تشتعل في أسفلها، كانت جثة أبى، ولا أعرف ماذا أفعل بها. غير أن أدور، على سطح سفينة تحترق، وغالبا ستغرق.

 

 

نص: "مراسم الحداد"
غير مبالين برأس زوجها الموضوع بيننا. كان ملفوفا بجريدة تنشع دما، وتشيع رائحة كئيبة.

 

 

نص: "موت أخير للكتابة"
الست محاسن صاحبة البيت، تتدلى من السقف مشنوقة. المرحوم زوجها يجلس على مقعدي، يقرأ في كتاب ما، عندما رآني، طوى الكتاب، ووضعه على المكتب، ثم قام وأنزل الجثة، ووضعها على الأرض أمامي وخرج.
*

 

 

ونلاحظ في هذه المقتطفات من بين العديد من النصوص المبهرة كيف تنقل الكاتب بين آليات صياغة العوالم العجائبية من وجود كائن غرائبي/حدوث أفعال غرائبية/مواصفات غرائبية/ إلى الإعدادات الغرائبية كما في مشهد قاع السفينة في نص تايتانيك.
 

كما عمد الكاتب إلى التنوع في رسم التشكيل العجائبي، حيث اهتم بانفصال العوالم والكائنات: افتقاد التواصل، فالكائنات ﻻ تستمع باعتبار التبلد الحسي من سمات البنية الحلمية يتجلى في السارد الحالم وشخصية اﻵخر واﻹضاءة تنحصر في المكان Illusion/Sound proof /Light proof.
كما دمج بين الرؤية الرمزية والمشهد الواقعي. وبين السلوك المفارق والتقليدي في نفس المشهد.
إضافة إلى التقاطع بين المعنوي والمادي في "ﻻ أعرف": تعبيرا عن عدم المعرفة والفشل في اتخاذ القرار و"لا أقدر": ارتباطا بالعجز عن الحركة.

 

وكلها تعبر عن الحدس الذي يرتبط بالقصور النسبي في عملية تلقي الفعل واتخاذ القرار المنطقي ورد الفعل العبثية.
الذي يتجلى في نصوص "لمح البصر" ويعكس مﻻمح المحتوى الحلمي على البنية السردية والومضية.
*

 

 

تعقيب:
 

يقول أينشتاين أن المنطق يسمح لك بالتنقل فقط من اﻷلف إلى الباء وبدونه يمكنك التحليق مباشرة حتى إلى الياء. وبما أن الحلم يرتبط بإعدادات (عقل اللا وعي) الذي يعتمد بدوره على تنمية الحدس (العقل البديهي) من خلال تدوين انفعاﻻت وتصورات الحالم؛ يمكننا أن نستنتج من هذه المقولة المدى الشاسع الذي يسمح به التفكير اللا منطقي . والأدب العجائبي أو ما يسمى بالفانتاستيك حسب (تودوروف) يجعل المتلقي الذي لا يعرف غير القوانين الطبيعية، يجد نفسه أمام وضع فوق طبيعي حسب الظاهر. فعندما نجد أنفسنا أمام ظاهرة غريبة نواجه هوة إدراكية تصيبنا بالحيرة والتردد، ويصبح التخييل الذي يقترن بهذا التأثير العجائبي على المتلقي، حسب مقولة أينشتاين أيضا هو أكثر أهمية من المعلومات ﻷن المعلومات محدودة بينما يمتد التخييل ليحتضن العالم ومعها يمتد أفق التلقي. وقد يهتدي المتلقي إلى أن الأمر لايعدو أن يكون وهم الحواس أو ناتج عن الخيال وأن قوانين العالم لم تتغير، ورغم أنه يسعى دائما إلى تفسير عقلي ومنطقي، إﻻ أنه يخضع في النهاية للإيهام الحكائي وتأكيدا لمقولة أينيشتاين: ما الحقيقة إﻻ وهم؛ يستمر في المثول أمامنا حتى نصدقه.
 

 

من المؤكد أن العجائبية ﻻ تتسق مع المنطق، والهوة الإدراكية التي تثيرها لدى المتلقي تتفق مع توجهات القص القصير الحديث. وإذا كان المبنى السردي يخضع لشروط تكثيفية تختزل كينونته، فإن تضمين اﻷجواء العجائبية، بخروجها عن (قوانين الطبيعة) سوف يحث/يحرض المتلقي على الخروج من حصار البنية المادية الخانقة ليحلق في فضاءات وآفاق المعنى الرحبة. 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً