الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة لقصة " مؤاخذة الجحش بقضم الجزرة " للأستاذ الدكتور شريف عابدين - أحمد طنطاوي
الساعة 21:18 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


العدل .. و منطق الحيوان :
" لا يُسرق بيتك ونافذتك موصدة! ..
لا قبلة مختلَسَة دون تواطؤ ! "

 


أولا : النص :
 

ذلك الصبي الهادئ الخجول المتلعثم كان مملوكًا لشاهبندر التجار حين أهداه لكبير العسس في البلدة.. وحين عهد إليه الكبير بقيادة الدابة التي تحمل ابنته إلى كُتَّاب الشيخ، كان يؤكد ثقته العمياء.. والحقيقة أن أحدًا لم يختلف على ولائه وأمانته.. أشاد به الجميع وأثنوا على وداعته ودماثته.
***

 

لكم كانت جميلة تلك الفتاة الصغيرة.. رغم كل القيود الصارمة والتقاليد العتيقة كانت تتسم بالمرح والنشاط الدائب، لا تهدأ أبدًا عن المشاكسة وتدبير المقالب.. ويحرص الكل على ترضيتها وعدم مضايقتها؛ فقد كانت قرة عين الكبير.
***

 

ما حدث في ذلك اليوم لم يتوقعه أبدًا؛ فما أن هم بمساعدتها على النزول من الهودج في باحة الكتَّاب، حتى عاجلته بمد يدها نحو عينه معتصرة قشرة اليوسفي، بينما انهمكت في تلمظ ثمرتها الناضجة بتلذذ، وهي تقفز في رشاقة غير عابئة بما ألمَّ به.
***

 

ظل يدعك في عينيه حتى صارتا ككأسي دم تنسكب منهما الدموع، وحين حاول أن يلحق بها اصطدم بأحد الأعمدة وصاح من الألم فالتفتت إليه تتعجل إحضار حقيبتها.. سارعت نحوه.. فإذا بالغلام يئن في صمت، أخذت تربت على كتفه في حنو بالغ معتذرة عما اقترفته دون توقع ما حدث، لكن الفتى لا يستطيع الرؤية، يلوِّح فقط بيديه متلمسًا ما حوله حتى يكاد أن يترنح.
انخرطت الفتاة في البكاء في فزع، وانهمكت في تقبيل جبينه فاشرأبَّت إليها عنقه وتلامست الشفاه، وحين تذوق دمعها أخذ يرتشفه معتذرا بينما يلثم وجهها مجهشًا بالبكاء، واستغرقا في القبلات.
حين مرّ بهما الشيخ متوجهًا إلى حلقة الدرس، هاله الموقف صاح:
ـ أيها الشيطان ماذا تفعل؟
وأخذ يكيل له بعصاه الخيزران على مؤخرته؛ فقفز هاربًا، والشيخ يعدو خلفه متوعدًا.. لكن خطاه المتعثرة لم تسعفه لإصابته القديمة بشلل الأطفال فتمكن الفتى من الفرار.
***

 

اختفى الغلام تمامًا من البلدة؛ رغم جهود العسس، وانتشرت الشائعات في البلدة بأن “زلال عينها” أسكره حين ارتوى منه منسابًا على شفتيها فتسامت روحه وتبخر في الآفاق، بينما جرؤ البعض على اتهام الفتاة بإخفائه بعيدا عن أعين أبيها.
***

 

لكن واجبه ككبير العسس حتّم عليه أن يبلغ الواقعة إلى قاضي القضاة، خاصّة بعدما شاع الأمر وتناقله العامة والخاصة.
قال له قاضي القضاة:
ـ الأمر لا يستحق.. لا يتجاوز جزرة قضمها جحش!
***

 

لو لم يذع الخبر لانتهى كل شيء، لكنها صحف المعارضة ومصورو (الباباراتزي) ممن يقتفون أثر الفتاة التي لم تخف روعة تلك القبلات وأسهبت في وصفها لصديقاتها.
غمغم الكبير:
ـ لو قُبض عليه؛ لقمت بتصفيته في سكون!
ثم زفر طويلا:
ـ لو لم ينتشر الخبر كالنار في الهشيم!
ردد البعض:
ـ لابد أنها كانت تمزح كطفلة حين اعتصرت ببراءة قشرة اليوسفي.
وصرَّح البعض الآخر بأنها كانت تود أن تجلو عين الفتى التي تتجنب رؤيتها حتى ينتبه إلى جمالها .. بينما أشاع الكثير من الناس أن عين ذلك الفتى القارح كانت تستدعي أن تصوب لها رصاصة لا أبخرة زيوت اليوسفي العطرية لأنه كان يختلس النظر إلى فتنتها.. لكنهم اتفقوا على أنهما لم يفترقا، وأن الفتاة لو أبدت أية شكوى منه لأرسله والدها إلى ما وراء الشمس.
***

 

لم تتوقف البلدة عن الخوض في سيرة الفتاة ورسم العديد من السيناريوهات المثيرة، وصارت أمثولة القاضي بالجحش الذي قضم الجزرة رمزًا للتهكم على العسس فكان الناس يمطون (بوزهم) كلما مرّوا بأحدهم، وينقشون مخطوطًا صوريًا للجحش على الجدران صار رمزًا للتهكم من السلطات.. وصاروا يطلقون المثل على كل المواقف التي تتماهى أو تفتقد أي علاقة بالسياق على سبيل التهكم، وأصبح الجحش أيقونة للتندر والطرافة.. واجتاحت صورته الرمزية في وضع القضم شبكات التواصل الاجتماعي.
***

 

هرع كبير البصاصين إلى القاضي مناشدًا وضع حد لتلك المهزلة فأجابه مجددا:
ـ الأمر لا يستدعي حنقك، هي بالفعل جزرة وقضمها جحش.
استشاط غضب الكبير:
ـ كيف والبلدة تتحدث عن تقبيل ابنتي؟.. لابد من ردع ذلك الآثم.
رد القاضي:
ـ تلك مهمتك.. لقد فرَّ من أيدي رجالك.
قاطعه الكبير:
ـ إذن لابد من ردع ذلك الجحش الذي يطاردنا الدهماء بأمثولته.. لابد أن نغلق الملف.. أين عدالتكم الناجزة؟
***

 

اجتمع قاضي القضاة بمستشاريه، أخبرهم باستياء الكبير، واقترح عليهم ترضيته بعقد جلسة عرفية لمحاكمة الجحش الأقرب لمحل إقامته. قال الجحش:
ـ قضمتها ولم ألتهمها.. نلت الجزء وليس الكل، ثم أنها جزرة وليست تفاحة، كما أنني حمار صغير.. لدي العذر أنا! حمار موسوم بالغباء.. وصغير.. أي لم أَرْقَ إلى درجة تخلف الحمار اليافع.. ولا تتعدى المقولة إعدادات مجازية لحسم الخلاف وإنهاء الجدل، ثم أنها لا ترتبط لدينا سوى بنموذج الجزرة والعصا في تراث المفهوم اللوجيستي.
***

 

عاتبه صاحبه حين أخبره المحامي بإمكان تحمله غرامة مالية:
ـ حرمت من المدمس.. أعيش على الفول النابت لأوفر لك القشر.. وأنت تأكل الجزر!.. لا أحرق التبن لتقتات أنت.. بينما أتوق إلى الدفء.
رد الجحش:
ـ يا سيدي هي قضمة افتراضية.. جدال محتدم بلا معنى في أمرٍ منتهٍ!
***

 

اعترض الجحش على التشبيه:
ـ ما علاقة الجزرة بالقبلة؟
تلك الأمثولة تذكر في سياق الجدال عندما يكون أحد الطرفين غير مقتنع ويلقي اللوم على الطرف الآخر.. ثم أن القبلة هي غذاء الروح.. بينما الجزرة غذاء للجسد.. الجزرة هي هبة الطبيعة.. القبلة هي هبة الحب.. يمكنك أن تتناول الجزرة سيرا.. لكن أثناء القبلة يتوقف الكون.. القبلة لا تُختلس، لا تُسرق!
***

 

عندما ألمح الجحش إلى أن هناك شبهة تواطؤ أراد القاضي أن ينهي الأمر حتى لا تتورط ابنة كبير العسس
ـ يا حضرات المستشارين لم تكن الجزرة سوى الحلم الذي داعب جحشنا.. مثلما كانت القبلة حلم الفتى
وقد توصَّل يقين المحكمة بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر لا يتعدى قضم الجحش للجزرة متماهيًا مع اختلاس القبلة.. وعليه قررنا الاكتفاء بعقوبة جلد الفتى.. وقياسًا عليه يدفع ولي أمره الغرامة إحقاقًا للحق العام ويُجلد الفتى ترضية للمتضرر.
***

 

لكن هروب الفتى عقَّد الأمر.. وإمعانًا في تحسين الصورة أمام المنظمات الحقوقية، وحتى يُسلِّم المتهم نفسه للعدالة، انتدبت له المحكمة محاميَّا؛ فانبرى مدافعا:
ـ سيدي القاضي.. إن السياق لم يكن وديًّا البتة بين الفتاة وموكلي الغائب؛ فقد كانت تجبره على تناول شطائر الحلبة التي لا يطيقها، وأن ينسخ لها محاضرات الشيخ، كما أنها استعارت منه أعدادا من مجلة “تان تان” لم تردها حتى الآن!
لقد عُهِدَ إليه بمرافقتها قبل أن يخضرَّ شاربه، واستمر إلى الآن مكلفًا بمرافقتها على أجمل وجه إلى الكتَّاب بإشادة الجميع وشهادتهم.
***

 

في نهاية الجلسة أعلن القاضي:
ـ تتم محاكمة الجحش بدلًا من الفتى بالقياس!
صاح الجحش:
ـ لن أكون كبش الفداء.. البشر يفعلونها ونحن نتحمل نتيجتها
واستطرد:
ـ سيدي القاضي لم أختلس الجزرة من حقل الجار مثلما اختلس الفتى القبلة من ابنة كبير البصاصين.. لم أفعل.. هي تهمة افتراضية وقياس مجازي! نعم.. تهمة افتراضية وقياس مجازي.. لم أختلس الجزرة من حقل أحد!
***

 

يتمتم الجحش:
ـ ثم أن الأمر مفهوم جدًّا، ولا يصعب على جحش حصاوي مثلي فهمه.. إن التهيؤ لوضع القبلة سيدي القاضي يتطلب التموضع الإرادي للشفاه.
يصيح النائب العام:
ـ أحتج سيدي القاضي!
لقد كان ينوي تقبيل جبينها تعبيرًا عن الاعتذار وطلبًا للعفو.
يقاطعه الجحش:
ـ من يعتذر لمن؟
ـ ألم يفزعها عندما استشعرت أنه فقد الإبصار؟
حين اضطربت وأشاحت برأسها للخلف برزت شفتاها قبالته!
يقاطعه الجحش صارمًا:
ـ إن اقتراف الفعل تم بالتواطؤ.. ليس هناك ثمة سرقة أو اختلاس كما تدعون..
علق القاضي:
ـ تعني لا ضرر ولا ضرار؟
صاح الجحش:
ـ لا يسرق بيتك ونافذتك موصدة!
لا قبلة مختلسة دون تواطؤ!
***

 

لكز كبير العسس القاضي:
ـ تبًا لهذا الجحش سيقلب الطاولة تماما.. سيورط الفتاة
فلتسرع في حسم الأمر..
يعلن القاضي:
ـ يُجلد الجحش 50 جلدة.. يدفع صاحبه غرامة مالية.. يودع في خزينة المحكمة للحق العام 500 درهم.. رفعت الجلسة!
محكمة..
***

 

عند تنفيذ الحكم..
إذا كان عقاب القبلة رمزيا بجلد الظهر امتهانًا لمن امتهن كرامة أنثى.. بمعاقبته كالدابة وإهانته كما أهانها.. فليكن عقاب الجزرة واقعيا منطقيا بجلد البطن التي التهمتها..
انقلب الجحش على ظهره كالسلحفاة! متشبثا بالأرض!
زجره القاضي بعدما استشاط غضبه:
ـ هيا انهض أيها الجحش..
لم تتعد على شرف الجزرة لقد التهمتها ماديا استأصلت جزءًا منها.. لم تقتصر على كينونتها المعنوية كرامتها أو شرفها.. بل التهمت جزءًا عينيًا منها والعين بالعين.
نهق الجحش معترضا:
ـ ذلك هو الظلم بعينه! هل يتساوى قضم قمة مخروط الجزرة مع قاعدتها؟
وأردف قائلا:
ـ يا مولاي ليس من العدل أن تختزل القبلة (تلك الحديقة المثمرة من أشهى الفاكهة) في قضمة جزرة.. ألا يتجاوز تأثير فعل القبلة منطقة الفم؟
تمتم والد الفتاة:
ـ أيها اللعين!
وقاطعه القاضي:
ـ يُسجن الجحش لحين بت لجنة الحكماء في جواز قطع رأسه بدلا من ذيله بالقياس مع الجزء الذي قام بقضمه من أعلى الجزرة.


 

ثانيًا: القراءة 

 

 

 

الدكتور شريف عابدين فارس من فرسان القصة القصيرة جدًا , و أحد أعلامها البارزين فى العالم العربى , و قد تناولت أعماله فيها بالدراسة و التدقيق كتابات
كثيرة جدًا حاولت أن تحدد تخوم و معالم رؤاه , و منهج تناوله الخاص و معالجته لها ..و الآن.. نحن فى مساحة جديدة من مساحات الرسم و التحليق الإبداعى له ..
 مساحة تؤكد  مفهومى على الأقل _ و إيمانى الشديد بوحدة الفنون فى نفس
المبدع , و أن المجالات الأدبية المختلفة _ و ربما الفنية أيضًا _ تكمن
 فى روح الأديب المتميز , فتمكنه من خوض الأودية المختلفة القريبة ,
 و ارتياد واحات التعامل الإنســـــانى التصويرى لو أراد .. و هو ما أكده
 بامتياز كاتبنا المدهش بحق .

 

القصة القصيرة جدًا  و القصة القصيرة , كلاهما يتعامل في النهاية مع الموقف 
و اللحظة .. إلا أن الاختلافات تتسع بينهما بعد ذلك في كيفية هذا التعامل و حدوده
و هدفه النهائى .. ما ينعكس بالتالى على الاختلاف البنائى الخاص بكل منهما .

القصة القصيرة جدًا سؤال الدهشة الذى يبدأ بنهاية القصة _ كما عند بريخت فى
 مسرحه الملحمى التغريبى _ .. فهى لا تجيب .. بل تستثير التأمل و تدعو
 إليه بإلحاح .

 

أما القصة القصيرة فتقوم بالدور العارض لشريحة من شرائح الحياة عبر تفاعل 
يتصاعد فى شكل هرمى إلى رأس المثلث و قمة التأزم ثم _ فى حركة عكسية _
يتغير المسار هبوطًا فى الخط النازل المقابل وصولا إلى لحظـــــــــــــــــة
 التنوير النهائية التى تنفك عندها الخيوط و التشــــــــــــــــــابكات التى
 احتدمت قبلا فى نمط أرسطى تطهيرى ..

 

إذًا الموقف فى القصة القصيرة جدًا شديد البؤرية و التكثيف و المركزية
و الميكروسكوبية , بعكس القصة القصيرة التى تتعدد فيها الأحداث
 و الشخصيات_ مقارنة بالقصة القصيرة جدًا _ و إن كان هذا التعدد
 ليس هو التعدد الروائى المنفصل غير الرابط فى سلسلة طويلة, بل هو
 التوسع فقط فى الظلال المحيطة بالحدث الرئيسى و الموقف الواحد .. فهو
 ليس تعدد مواقف , بل تعدد ظلال , و هو ما ســــــنراه فى هذا العمل
 الفلسفى المميز الذى بين أيدينا .

 

 

ثنائية الشكل

 

بالرغم من صعوبة التفرقة بين الحكاية و القصة _ فكلاهما حكى _
إلا أن الأمر قد استقر فى النهاية على عنصر الواقعية فى القصة .. و عناصر
 الأخلاقية و الحكمة و الخيال و الأنسنة و طرق الموضوعات الأسطورية
 و الملحمية و قصص الحيوان فى مسعى للاقتراب من الحس الشعبى و فلسفته
التى تتناقلها الأجيال فى الحكاية , و تجسيدها الكامل " الحكاية الشعبية " 
تقاطعًا مع التراث الشفاهى الفولكورى و الحكمة المستقاة { كألف ليلة و ليلة
و كليلة و دمنة }
..............

و هذا النص الماثل قد زاوج بين الشكلين بمهارة تستعصى على التصنيف الحاد :

[ القصة الحكاية ]

فهى قصة _ تجنسيًا _ لمن أردا التدليل و الإثبات , و هى بالمثل حكاية لمن أراد
 التوقف عند هذا الشكل و الاستمساك .

و لا شك أن البراعة فى هذا الاستخدام للشكلين _ مزاوجة و تركيبًا و صهرًا
فى منطق جديد _ لهو مما يجسب لهذا الكاتب النشِط , و هو أيضًا ما ارتآه ضروريًا
لمعالجة هذا الموضوع _ موضوع العدالة _  بشكل يخالف نمطًا قديمًا معروفًا فى
معالجة " كافكا " لها مثلا  فى روايته { المحاكمة } , أو معالجة المحاكمة
نفسها فى رواية [ الغريب } لألبير كامو .. فكلاهما كانت الشخصيات الإنسانية
هى الأساس , و ليس الحيوان فى مقابل الإنسان محاجاةً و مجادلة .. فالموضوع
فى قصتنا هذه هو موضوع بسيط للغاية , تطور ليصل إلى حد الموت عقابًا , 
و ليس للفاعل الأصلى , بل لمثيل و شبيه _ كما فى السحر إذا وقع الضرر عليه
فكأنما وقع على الإنسان المقصود _ أو كأنها " عروس النيل " يلقيها الفراعنة 
قديمًا استرضاءً و قربانًا كى يفيض النيل , و كل هذا يقتضى الارتكان إلى نمط
الحكاية _ فى هذا القص _ المفعم بالرؤى و التساؤلات الفلسفية .

 

 

اختار السلطان المملوكى فى مسرحية توفيق الحكيم ( السلطان الحائر ) القانون
ليحكم فى مشكلة أحقيته بالحكم بينما هو عبد , و أنه كى يكون
جديرًا بالحكم فلابد أن يكون حرًا , فلابد إذًا أن يُشترى أولا ثم يُعتق
بعد ذلك .

و رغم أن الفكرة تدخل فى إطار الفنتازيا المشوقة الأقرب إلى عدم التصديق
( أن يُعرض فى مزاد و تشتريه عاهرة ) , إلا أنها منطقية فيما يتصل بتطبيق العدل
 من ناحية العلة و المعلول و الأسباب و النتائج, و كان السجال القانونى فيها يتسم
 بالقوة و العقلانية المطلقة , إلا أن المحاكمة العبثية هنا فى هذا النص
السيريالى _ و هى مرحلة عند توفيق الحكيم أيضًا تمثل تيار اللامعقول 
متمثلة فى مسرحيته " يا طالع الشجرة " _ كانت محاكمة تفتقر إلى أى منطق للعقل ,
و لم يفز فيها [ عقليًا ] إلا الحمار الصغير على جحافل الظلم الأبله المشوه
عند بنى الإنسان

 

الشاطر حسن و القبلة الملتبسة

فكرة القصة تقوم على جرم اقتناص قبلة _ مع التشكك فى كونها مقتنصة _
فهى بالفعل تواطؤ تم بفعل قدرى مفاجىء غير مرتب له

الفعل غاية فى الغرابة , و رسم الكاتب له يعد من علامات المهارة فى الصياغة
و التصوير الذى يستوجب كل الثناء , فالفعل يقف على الحافة الحرجة بين كل زوايا الحلم و التحقق و الإمكان و الاستحالة و الإرادة و التواطؤ و المفاجأة
 و الدهشة _ حتى لأصحابه _ و الشجاعة و التهور الانتحارى .. إنه فعل
 يحتوى مئات المعانى , و يماثل فورة الأمواج العاتية التى تضيع فيها كل
موجبات الفهم والعقل .. إنها كتلك اللحظة التى يرى فيها قاتل بالصدفة نفسه
و السكين فى يده يقطر دمًا و آخر ملقىً على الأرض , و لا يعرف كيف و لا
 متى قتله فى غمرة  غيبوبة الفعل المحتدم .

 

جموح الفعل هو أن" الشاطر حسن " هنا _ الخادم الفقير المتدنى المكانة 
و الحال _ قد تجرأ و قبَّل من هى فى وضع الأميرة , و الأكثر صعوبة
 أن براعته قد جعلتها تسبح معه فى عمق البحر المضطرم غير آبهة مثله .

اللوحة تمثل أيقونة من الفنتازيا الساحرة .. أن يفعلا ذلك فى عرض الطريق
و أمام المارة فى ملمح أسطورى بالفعل :

{ "زلال عينها” أسكره حين ارتوى منه منسابًا على شفتيها فتسامت
روحه و تبخر فى الآفاق }


كما أن البراعة أيضًا تلامس فكرة التعاطف الإنسانى الذى يلائم مثل تلك الفتاة
التى تربت فى خدر ناعم زاد روحها المرحة الطفولية بهاءً و سحرًا

هى أيضا على أعتاب الأنوثة وتفجراتها متعددة الألوان , و لا شك أنها قد سمعت
 حكايا ألف ليلة و ليلة , و راودتها _ و لو من بعيد _ دوائر الحب المزدان بغرابة
 الخيال الحكائى , و ذلك الفارس الشجاع المتحدى الذى يخوض المخاطر ببسالة

أنا أقف طويلا أمام هذا الفعل [ الأيقونى ] الذى يجسِّد لوحده , كما ذكرت , لوحة  
تماثل فى بهائها لوحة الجيوكندا متعددة الزوايا


 

القياس و حيلة الإزاحة :
 

ذروة العبث

قضية أخرى تفرعت و نتجت عن القضية الأم ليتحول الأمر إليها فعلا افتراًضيًا :
{ متهم فى فعل لم يقع } 

فى رواية " كافكا" لم يعرف المتهم لمَ تم القبض عليه , و لماذا تتم محاكمته ,
كما لم تحدد الرواية جريمة ما , وهذا أمر يستثير التساؤل و الغرابة و الدهشة ,
لكن ما يثير الضحك الحزين أن يتم اختراع قضية بالقياس الافتراضى ,
و تسير القضية كأنها قد وقعت فعلا , ليصل الحكم المتوقع بعد ذلك إلى الإعدام .

أما تداخل القضيتين ( الأساسية والافتراضية المصطنعة لفعل و متهم آخرين )
فهو فعل حكائى فى منتهى البراعة التى تصل للذروة المهنية لكاتبنا العظيم :

فتى وقبلة مُختلسة [ واقعًا }
جحش و جزرة مقضومة { افتراضًا }

و هى طريقة امتزاج الحقيقة و الوهم و قد عولجت بمهارة , كما حدث فى
مسرحية " ساعة الغذاء " _ ذات الفصل الواحد _ لجون مورتيمر { مدير عابث
 يستغل ساعة الغذاء لقضاء وقت مع السكرتيرة فى الفندق القريب الذى يمتلكه
 صديق له , و فى أحد الأيام غاب الصديق فاتفق معها أن يمثلا دور زوج 
و زوجته لتسمح لهما زوجة صديقه بالصعود للغرفة , لكن السكرتيرة
 بعد فترة من التمثيل تلبس _ وهمًا _ دور  الزوج الفعلية  و تستمر فى أداء
الدور  بعد ذهاب زوجة صاحبة الفندق رغم محاولات المدير لاقناعها أنهما
كانا يمثلان ذلك.. ثم انتقلت العدوى بعد ذلك  له , و انتهت المسرحية بإسراعهما
 لاجضار ابنهما { الخيالى ] من المدرسة !! }

 

 فى النص الحالى أيضًا , اتخذ المسار هذا المنحى الوهمى ( المصطنع  ) ,
و أُكملت الأحداث بناءً عليه .

فى علم النفس هناك ما يُعرف بآليتى الإزاحة

- Displacemen
وهى توجيه الأنفعالات الشديدة نحو أشخاص أخرين , و التحويل
- Conversation 

و هو تحويل الصراعات الإنفعالية أو الدوافع المكبوتة وتعبيرها عن نفسها خارجـًيًا 
تهييبًا اوخوفًـًا و عجزًا عن مواجهة المصدر الأصلى , و هما تندرجان تحت
 مصطلح { ميكانيزمات الدفاع } عملا لاشعوريًا و إنكارًا للواقع و تزييفه , 
وتعنيان أيضًا اتخاذ هدف آخر أكثر سهولة , لكنه هنا كان  فعلا متعمًدًاهو ما تمثله آلية {كبش الفداء } كما وضَّحها علم النفس الاجتماعى , والتى تستخدمها الجماعات حلا للصراع و المشكلات القائمة, و هى أيضًا
على المستوى السياسى , اختراع أزمة لتحويل الانتباه إليها , و شغل الناس 
عن القضية الرئيسية , كما يستخدمها التفاوض كآلية من آليات استراتيجياته ,
لكن  الحمار الصغير كان منتبهًا وواعيًا تمامًا لـــ [ اللعبة ] , و فهم ما لم يفهمه
 القوم , لكنه مع ذلك تحمـَّل تبعة غباءهم تلاعبهم و سيىء خداعهم .


 

تمثل كل من القصة القصيرة و القصيرة جدًا منهجًا فى الرؤية
المكثفة أو رؤية نعيد بها الاكتشاف و النظر الواعى , 
و تجعلنا نقبض على الجوهر الصافى لكل ما نمر به _ أو يمر به
غيرنا فى الحياة عن طريق تثبيت اللحظة الفارقة .. اللحظة الكاشفة ..
. اللحظة الإنسانية الخطرة , فنرى التجربة الإنسانية بعد ذلك بشكل مغاير 
ما كان لها بدونها أن تبين

.........................

 

عن القصة القصيرة :

تتكون القصة القصيرة من بناء .. و نسيج 
البناء يشمل العناصر الرئيسية ( الشخصية - الحدث - البيئة )
و النسيج يشمل
( اللغة - و الوصف _ و الحوار _ و السرد )

و لنحاول أن نطبق هذه المفردات على هذه القصة لنرى
كيف وظف الكاتب هذه التقنيات 

 

أولا : البناء :

الشخصية الرئيسية :

هى هذا الحمار الصغير , و ليس الفتى أو الفتاة اللذين كانا فقط
 أداة لاشتعال الحدث لتتحقق أزمة البطل الأساسى الذى قد يُنفذ فيه
حكم الإعدام قريبًا  بغير ذنب جناه ..
الأنسنة هنا متوفرة تمامًا فى سجال الحمار مع القاضى

الحدث :

جنون معاقبة الغريب لجرم ارتكبه قريب هرب ,
و باستحضار فعل مشابه فى جوهره ( فعل الاختلاس ) , لكنه مضحك 
فى بلاهة القياس و خطئه فى افتقاد الحد الأوسط الرابط بين المقدمتين 
كى تكون النتيجة صحيحة 

البيئة :

مجموعة من العتاة بيدهم السلطة و القانون يكيفونهما كيفا أرادو
و يتلاعبون بالقانون و بمنطقه بكل الاستهتار , و يرتكبون الظلم
بسهولة محاولين أن يغلفونه بأسباب التعقل و الرصانة ..

هى إذًا بيئة مناسبة جدًا لاشتعال حدث و أزمة


 ثانيًا : النسييج

أولا : اللغة

تنوعت طبقًا لمجريات الأمور لترسم أجواء كل حال و مناخه التأثيرى بين الشاعرية فى وصف وهج القبلة , و بين المنطقية التى يتطلبها حوار الحمار فى مقابل القاضى

ثانيًا : الوصف
جاء موظفا لخدمة ما أراده الكاتب .. و معبرًا عن الجو و الخلفية التى تدور فيها الأحداث :

ذلك الصبي الهادئ الخجول المتلعثم كان مملوكًا لشاهبندر التجار.
ما حدث في ذلك اليوم لم يتوقعه أبدًا
انخرطت الفتاة في البكاء في فزع، وانهمكت في تقبيل جبينه فاشرأبَّت إليها عنقه
 وتلامست الشفاه،
اختفى الغلام تمامًا من البلدة
وانتشرت الشائعات
ـ الأمر لا يستحق.. لا يتجاوز جزرة قضمها جحش!
ـ إذن لابد من ردع ذلك الجحش الذي يطاردنا الدهماء بأمثولته.
عندما ألمح الجحش إلى أن هناك شبهة تواطؤ

و هكذا...

استطاع الوصف أن يرسم صورة كاملة عن أجواء و مناخ المكان و الشخصيات
و الأزمة _ أو تشابك أزمتين _ أحدهما اشتُقت من الأخرى , ثم زاملتها, ثم أصبحت
هى المشكلة الرئيسية

ثالثـًا : الحوار

شمل نصف القصة تقريبًا , فى شكل يِّقربها أيضًا من مسرحية الفصل الواحد ,
_ تتماثل القصة القصيرة و مسرحية الفصل الواحد فى العناصر و البناء , لكن 
الاختلاف هو فى عنصر الحوار الطاغى و الشامل فى المسرحية_

فرض الموضوع القائم على السجال و الحدال التوسع فى الحوار . ليبين كل طرف
حجته , و لو تم الاستعاضة عن الحوار بالوصف لما تحقق التأثير المطلوب الذى يُحدثه
تكلم الأشخاص أنفسهم عن أزمتهم.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً