الجمعة 27 سبتمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 26 سبتمبر 2024
مساوى - وجدي الأهدل
الساعة 11:58 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

حمل (مُساوى) سنابل الذرة الحمراء المقطوفة في الصباح والمعبأة في صرة على ظهره، وخرج قاصداً سوق الربوع "الأربعاء" بخطوات حثيثة ليلحق أن يبيعها قبل أن يغادر الملاك الموكل بتوزيع الأرزاق. كان مساوى شاباً وسيماً في السابعة عشرة، أقعس وردي الشفتين، يزينه شارب خفيف وشعر أسود كثيف يتموج على كتفيه كالحرير. حين وصل اختار مكاناً مجاوراً لباعة القصب الأخضر الملموم في أكوام مخروطية، رمى الحمل الثقيل عن ظهره وقعد متربعاً، فتح عقدة صرته ودعا الله في سره أن يوفقه، ثم رفع صوته مروجاً لغلته. وكأنما انشقت الأرض وبزغت من جوفها راعية يتبعها قطيع من الغنم. كانت عجوزاً شنيعة المنظر، جعداء الشعر، رائحتها تثير الغثيان، وعيناها بلون الدم، فمها مائل لليسار، وقلبها جهة اليمين. في ساقيها دوالي زرقاء بشعة، وفي وجهها ثآليل تجعلها الأكثر قبحاً في سائر نواحي الجبل. كانت راكبة على حمار أسود، وبيدها هراوة غليظة، وعلى رأسها قبعة من السعف عريضة الحواف. اقتربت منه وسلطت عليه أنظارها، فتسارعت ضربات قلب مساوى وراح يرشح عرقاً بارداً من الرعب. أخذ باعة القصب الأخضر يصرخون في العجوز طالبين منها إبعاد أغنامها الشرهة من موقعهم، تقاذفوا سباباً فاحشاً اقشعر له بدن مساوى، ولكنه تنفس مرتاحاً وهدأ نبضه عندما لمح من طرف عينه العجوز تهش غنمها وتتخذ لقطيعها موقعاً في طرف السوق قرب الجزارين. كانت قارعة الطريق مزدحمة بالمئات من القرويين، والبائع والشاري بالكاد يسمعان بعضهما من عظم الضجيج الذي هو خليط من لغط البشر وعجيج المواشي والموسيقى المتنافرة للزمارين وقارعي الطبول وضاربي الصحون النحاسية ومنشدي المدائح النبوية.

كان مساوى يأمل أن يبيع ذرته الحمراء بسرعة ليتحرر من مرابطته في مكانه، ويذهب ليُسرّي عن نفسه بالرقص على شدو المزمار، ثم الطواف بالسوق للفرجة على الأصناف المعروضة، وأخيراً شراء الطلبات التي أوصته بها أسرته. انتبه أن العجوز راعية الغنم كانت تحوم حوله. وكان حين يقع نظره عليها يلاحظ أنها لا ترفع عينيها عنه، وحدقتاها بارزتان للأمام وكأنهما فوهتا بندقية مسددة نحوه. انشغل بزبون اشترى منه بعد مساومة مضنية عشرين عذقاً. ما إن ابتعد الزبون حتى ظهرت أمامه بغتة، أخذت عذقاً وسألته كم ثمنه، انعقد لسانه من الخوف وشحب لونه. ركزت أنظارها عن قرب في عينيه المفتوحتين على آخرهما، وشعر بوخزة وكأن شوكة دخلت في جسده. ضحكت العجوز وبانت أسنانها السوداء النخرة، لوحت بالعذق في وجهه منتصرة ومضت ولم تدفع ثمنه. أنهى مساوى شغله وقد توسطت الشمس السماء، وقفل عائداً إلى البيت وهو يشعر بثقل في قلبه. تناول غداءه بشهية فاترة في المطبخ، وما إن غسل يديه حتى شعر بدوار وضبابية في الرؤية. لحق بوالده شيبة الجبل إلى الديوان وأعطاه ما فضل لديه من نقود. وضع في فمه حفنة من أوراق القات وظن أنه سينشط ويتحسن. ومع اقتراب الأصيل من نهايته أصيب بتشنج وفقد وعيه. ومن بعدها ظل طريح الفراش، تعاوده التشنجات والإغماءات على فترات متلاحقة حتى أمسى هيكلاً عظمياً لا يستره سوى جلد رقيق، وفي آخر الشهر التاسع أسلم الروح. كانت وفاته ظهراً، وتم دفنه عصراً. ولاحظ الذين ألقوا عليه النظرة الأخيرة أن وجهه وحده دون سائر جسده كان مسوداً وكأنما لفحته النار.
في منتصف الليل أتت العجوز إلى قبره، ورشت تربته بدم كبش وهي تتمتم متوسلة سيد العالم السفلي أن يُسلم لها الأمانة، ثم دقت الأرض بقدمها ثلاث مرات، انشق القبر بدمدمة خفيفة ومن بين الغبار المتصاعد خرج كبش سمين بقرنين متألقين.

ثم عاد القبر للالتحام كما كان. ساقت العجوز الكبش بعصاها في ظلام الليل الدامس، وما كادت تبتعد مسافة آمنة حتى غلبتها غلمتها، فحولت نفسها إلى شاة وراحت تتحكك بالكبش الذي تهيج ونزا عليها عدة مرات، وكانت تلك ليلة أولى من ليالي أخرى كثيرة ستشبع فيها شبقها للنكاح بتلك الطريقة.
بعد خمس سنوات ظهرت العجوز مرة أخرى في سوق الربوع وأمامها قطيعها من الغنم، واتخذت مكانها المنزوي بجوار بائعي كروش الحيوانات. كان كبشها الأقرن يلفت أنظار المشترين ويعرضون فيه أسعاراً جيدة، ولكنها كانت ترفض بيعه قطعياً، وتتعلل بأنها تستبقيه لتعشير غنمها. وما كانت عيناها تغفلان عنه أبداً خشية أن تمتد إليه يد سارق. وحدث ما لم تحسب له حساباً.. فقد تسلط على السوق عسكري فظ له سحنة قاطع طريق زعم أن معه أمراً من الدولة بتأمين السوق، ومتذرعاً بهذا الأمر الذي لم يره أحد راح يفرض إتاوة على كل الباعة في السوق. ولما وصل عندها طلب منها أن تدفع له عشرين بقشة "نصف ريال ماريا تريزا" فرفضت، فأخذ العسكري أقرب شاة إليه وأراد أن يمضي بها، فجن جنون العجوز ولحقت به وكالت له صفعة مدوية على وجهه، وبسرعة تطور الخلاف إلى عراك حاد، وهرع الناس لفض الاشتباك بينهما ودفعهما بعيداً عن بعضهما. في هذه الأثناء ابتعد الكبش الأقرن العزيز على قلب العجوز عن القطيع، واتخذ طريقه صوب صبية حسناء كانت تبيع أقراص الخبز الحامض المصنوع من الذرة الحمراء. وقف الكبش أمام الصبية وراح يحدق فيها ثم سالت دموعه. استغربت (غالية) بكاء الكبش وأصابها اضطراب عميق. المحيطون بها توقفوا عن البيع والشراء وحل عليهم صمت مطبق، وأخذوا يراقبون هذا الحدث الغريب بفضول. اقترب شيخ له لحية بيضاء ويشع من وجهه نور لطيف وقال للفتاة: "ألم تعرفيه؟". ردت غالية والهلع بادٍ في صوتها: "لا". قال الشيخ: "هذا واحد منكم.. من عائلتكم". قالت غالية: "كيف هذا من أهلي؟؟". قال الشيخ: "هل مات لكِ أحد من أقاربك قبل مدة؟". تهدج صوت غالية وتندت عيناها بالدموع: "آه أخي.. مات قبل خمس سنوات". زم الشيخ شفتيه ومسح على لحيته: "أخوكِ لم يمت ولكن البده أخذته". انفجرت غالية تبكي غير مصدقة وتمنت أن تترك كل شيء وتختبئ خلف شجرة لتجأر ببكاء وحشي يخفف الأوجاع التي تحسها في صدرها. انحنى الشيخ على الكبش وقلع خشبة مربوطة بقماش وضعتها العجوز بين قائمتي الكبش الخلفيتين. قال الشيخ: "لعنة الله عليها عملت له شجاباً لتمنعه من سفاد الغنم وتحتكر فحولته لها وحدها". رمى الخشبة بعيداً وتطلع في الواقفين حوله وخاطبهم: "يا أهل الخير ساعدوني لنقبض على البده". دفع الشيخ بالكبش إلى غالية وأمرها أن تلازمه. ثم راح يفتش السوق ومعه نفر من الرجال الأشداء. عثر عليها وهي تتجادل مع العسكري، فصاح بأعلى صوته: "يا مسلمين اقبضوا عليها هذه بده". وما إن وقع بصرها على المنادي بالقبض عليها حتى اعترتها رجفة ودب الذعر في قلبها فسقطت على الأرض، وبقوة لا تصدق راحت تسف التراب في كل الاتجاهات، فأعمت العيون وأثارت زوبعة هائلة من الغبار، ولم يعرف أحد كيف اختفت.. 

 

عادت غالية إلى البيت والكبش يتبعها ومتى وجد فرصة كان يتمسح بها. بعد ثلاثة أيام حضر الشيخ بحسب الوعد، وطلب إخراج جثة مساوى من القبر. على مضض قام والد مساوى وأعمامه بنبش القبر، وكم تعجبوا حين وجدوا جثمانه سليماً لم تأكله الدود كأنما دفن بالأمس، وجلده نضراً ومفاصله طرية، باستثناء أنه كان بارداً كالماء في عز الشتاء. ثم طلب منهم الشيخ أن يذبحوا الكبش ويجمعوا دمه في طست. ونفذوا أمره رغم معارضة وتوسلات غالية التي بدا أنها قد تعلقت بالكبش تعلقاً شديداً. وُضعت الجثة في حجرة مغلقة، وأحرق الكثير من بخور المر. وعند الساعة الموافقة لوفاته قام الشيخ بتقطير نقط من دم الكبش في أذن مساوى، ثم خرج من الحجرة وأغلق بابها. وطلب من والد مساوى أن يقدم لحم الكبش الذبيح قرباناً لله فيحرقه بالنار ولا يسمح لأحد أن يأكل منه، كما أوصى بتبديل الاسم من مساوى إلى عبدالله.

حُمل الكبش المذبوح إلى قمة عالية من قمم الجبل، وأوقدوا النار تحته، وظل شيبة الجبل يحرس النيران طوال الليل ويؤججها بالحطب كلما لحظ تماوت لهبها. مع ظهور أول نور في المشرق هب شيبة الجبل مذعوراً من نعاسه القصير ليرى محرقته، وخرجت من رئتيه زفرة ارتياح حين أبصر النار ما تزال مضطرمة، والكبش قد أصبح رماداً. التفت إلى الأسفل وحاول تبين معالم قريته المتوارية في غبش الفجر وفي قلبه لهفة تكاد تزيغ عقله، وتمنى لو كان أثيرياً كالرياح ليصل إلى القرية في غمضة عين. وبينما كان الأب يحدق في قريته من قمة الجبل وتجري تلك الخواطر في نفسه، صعدت الأم فاطمة وابنتها غالية إلى الحجرة المغلقة وفتحتا الباب.. وفي نفس اللحظة ومع أول هبة نسيم تحمل عطر الصباح فتح مساوى عينيه وعاد للحياة من جديد.

 

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر