الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
المقهى المكسيكي« و رواية القاع المغربية ـ الغربي عمران
الساعة 19:00 (أدب وثقافة)

"من يراني لأول مرة, قبل أن يتمعن جيدا في هيئتي ، يعتقد - بحكم بشرة وجهي الضامر وصلابة جذع هيكلي العظمي- أني مازلت شابا صغيرا يافعا وأنا الذي قوست ظهري وحدبته هذه العربة اللعينة"

 

الأسطر الأولى من رواية تذهب بنا إلى قاع المجتمع.. لنعايش شخصيات الهامش ..لأوضاع إنسانية أقل ما يقال عنها مطحونة وعيا.. اقتصادا اجتماعيا.. قدم لنا الكاتب من خلال تلك الجمل عدة صور متتالية تبين لنا وضع شخصية الراوي.. ككائن كادح بضمور هيكله وقصر قامته ليظهر عكس عمره.وهكذا الكثيرين لا تعرف لهم عمرا إلا إذا اقتربت منه.. وهنا يقربنا الكاتب إلى ذلك الكائن ومجتمعه ومحيطه وبيئته لنتعرف إلى تلك الشريحة من المجتمع وقد أبيح كل شيء فيها ليصورهم كضحايا لا كجلادين.

تلك الأسطر ليست بداية حكايته المشوقة.. ففي الصفحة العاشرة تسترجع ذاكرته بداية طفولته" اعتقدت بادئ الأمر أنها هي فعلا أمي وحسن السمين -كما يلقبه أبناء الحارة- أخي بيد انه مع توالي الأحداث الغريبة والمدهشة التي حصلت لي في مسار حياتي وسوء الطالع الذي لازمني طيلة طفولتي والفضول الذي اعتراني والأسئلة القلقة التي استوطنتني- كل هذا جعلني اكتشف بعد فوات الأوان, بمساعدة بعض الجيران- ومن خلال بعض المناسبات التي وخزتني كالسهام في أعماقي .. أن حسن فعلا هو أخي , لكن من اعتقدت أنها أمي لم تكن هي دادا زهوة إلا زوجة أبي" من هنا يبدأ الراوي قصة حياته..ليجد نفسه طفلا يعيش بين أفراد يتهامسون عن موت أمه ..ليتساءل هل ماتت بشكل طبيعي.. هو لا يعرفها.. حتى أبيه لا يراه إلا نادرا إما غاضبا أو مشوشا.

 

الراوي لا يستقر على نسق حكائي معين .. وهذا أسلوب يشوق المتلقي للغوص في تفاصيل تلك الحياة.. الكاتب يجيد الألاعيب السردية وتوظيف فنيات العودة بالذاكرة أو المضي قدماً ..كما يجيد زرع إيحاءاته بأن ما نقرأه حياة حقيقية لأشخاص من لحم ودم وليس محض خيال.. وهنا يصبح العمل جزء من وجدان المتلقي ..يتفاعل مع شخصياته وتلك الأحداث التي تتسارع . وأنها ليست حكاية متخيلة.. كفيح أصاب بهذه التقنية ليقربنا كقراء من ذلك الفضاء البائس.. من طفولة محرومة. صور لعملية ختان الصبي.. وتلك القسوة المصاحبة من الحجام.. تصرفات الأب حين يقدم له حذاء مستعملاً أكبر من مقاس قدميه وتارة أصغر.. ليهرب الصبي بعدها ويبتعد رغم محاولة أمه دادا زهوة التي لم تلده. لكن ذاكرته لم تتوقف عن استدعاء الماضي.. فمع تصاعد الأحداث زمنيا تعود بنا ذاكرت الراوي بين فينة وأخرى ليحكي ذكرياته مع فقيه المسيد الشاذ إلى مشاهد اللعب بالذباب واصطيادها بمخاط الأنف.. ليسوح بنا الكاتب في ذكريات طفولته المليئة بالقسوة والحرمان والضياع.. إلى تلك التفرقة في معاملته من أمه التي لم تلده عن أخويه حسن وعمر .. وأساليبها التبريرية في إقناعه بأنها لا تفرق بينهما.. إلى كرهه للأعياد التي تأتي ليرى الجميع لابسا للجديد إلا هو..الذي يختفي عن الأنظار حتى لا يراه أحد وهو بالملابس التي بليت منذ حين . ليكتب إلى (....) رسالة يطالبه بأن يبعث بملابس العيد حتى يخرج ليشارك الأطفال فرحته وليغيض من يغيضونه بملابسهم الجديدة.

 

أخذت مرحلة الطفولة مساحة مناسبة من صفحات الرواية التي تجاوزت المائة والخمسون صفحة .. كما هي مرحلة الصبا والشباب التي استحوذت على بقية المساحة .. وإن ظل الراوي يعود إلى ماضي الأيام ليحكي ما صادف أثناء هروبه من أوجاع وما امتهن من مهن: مساعد طحان ماسح أحذية .. نادلا ومساعد طباخ سائس حمير بائع ماء ثم عاملا في فندق من الطراز القديم ينزل فيه بائعو السكر والشاي بدوابهم وسلعهم لأيام ثم يمضون " على الواجهة كتبت بخط مهترئ يكاد لا يرى خطه الرديء (مقهى الشعب) لكنهم لقبوها بمقهى المكسيك " 
بهكذا كلمات يقرب لنا الراوي مسألة ذلك المقهى الذي ليس مقهى بالمقاييس التي نعرفها ..فهو يحدثنا عن مبنى كبير يأتيه نزلاء كثر . فاردا صفحات كثيرة ليجول بنا في تلك الأحياء القديمة ومنها حارة "بو عماير" وذلك المجتمع الصاخب ليلا الراكد نهارا.

 

وهكذا استقر الراوي بعد أن امتهن عدة أعمال بسيطة ليعمل تحت أمرة صاحب الفندق أو المقهى" الشيبة العاصية" وزوجته"العايدية" بدون أجر يذكر فقط مقابل المبيت ولقمة يسد بها رمقه.

 

يصور لنا المبنى القديم "مقهى المكسيك" وقد تجمع إليه الهاربين والعاطلين "استأنست بالعمل في المقهى وألفت حياة الفوضى بين رواده... فذلك المبنى القديم كان مأوى من لا مأوى له: الحشاشين..والسكارى والمشردين والمقامرين والسماسرة ولاعبي الثلاث ورقات والحمقى والمعتوهين والجواسيس والغرباء ومروجي الشائعات ... والشواذ..." 
يستعرض لنا أمه العايدية –هي أيضا ليست من ولدته- وما كانت تحكي له أثناء مرافقته لها إلى ضريح الولي وإلى القرية حيث تستقر ابنتها الخالدة ..التي فرت بعد حكاية مشبوهة مع زوج أمها " الشيبة العاصية" وما كان قد سرد لها من أحلامه وحكاياته. أثناء تنقلهم بين المدينة والقرية.. ثم قصة عنزة السيد "سوغان" ليدلل بها على محاولاته الخالدة استثارته باستعراض ممتلكاتها من أرداف رجراجة ومقدمة بارزة .. لتوقعه في غرامها وهو عديم التجربة .. ليواصل رحلاته الدائمة بين القرية والمدينة برفقة العايدية أو بدونها.

 

استخدم الكاتب تقنية العودة على بدء لمرات كثيرة فما أن يمضي قدما بأحداث الرواية حتى يعود بذاكرته إلى الأيام الأولى لطفولته.. ليضيف ما لم يحكه في السابق ..عن تيتمه بوجود والده وتشرده.. وتارة لأيام صباه الأول.. وأخرى يسرد لنا حكاية إحدى الشخصيات التي عاش معها. أسلوب القطع والعودة يبرز لنا قدرة الكاتب على جل حباكاته السردية بأساليب متنوعة وشيقة.. من خلال رواية الراوي إلى عوالم من الواقعية المرة .. مذكرنا برواية الخبز الحافي لمحمد شكري.. بل أن روائح مقاهي المكسيك أكثر قسوة وأكثر إدانة لواقع لا يرحم .. فالراوي يقاد إلى السجن بعد مداهمة الشرطة للمقهى ليكون هو الضحية.. ولفترة عرف السجن وحياته.. ثم يخرج بعد حين ليعود باحث عن أسرته.. لكنه لا يجد أحداً.. ليعود للتشرد في أزقة المدينة دون هدف غير ما يسد الرمق.

الرواية تصور لنا حركة المجتمع وتلك الهجرة من الريف إلى المدن.. وما يصاحبها من معاناة وعذاب.. ولم يكتف بل أنه أخذ يصور لنا أمزجة تلك الشخصيات وأساليبها في الحياة وحيلها في اكتساب لقمة العيش.

 

ولم يأتي عنوان الرواية "روائح مقاهي المكسيكي" جزافا بل أن اختياره كمقطع من قاع المجتمع المغربي كان جد موفقاً. مكان اتخذه الكتاب لتدور جل أحداث الرواية ..فضاء لتلك الشخصيات المسحوقة حيث قضى جزء من عمره ليأتي يوما يرحل عن ذلك العالم الغريب والمليء بالمتناقضات والشذوذ والجريمة وتعقيدات الحياة.. وفي ذلك المكان قد لنا مجتمعاً عنيفاً وضعيفاً.. لكن المتلقي لا يمكن إلا أن يتعاطف مع تلك الشخصيات وذلك المجتمع المهمش "غادرت مقهى المكسيك. غادرت دكاكين الخياطين في حارة بوعمير. غادرت وطني الضيق ذاك, وانطلقت في هجرة ثانية كبرى. لكن هذه المرة وأنا رجل مكتمل الرجولة. متزوج وما لدي زوجة, والدٌ وما ولد"
أسطر من الغلاف الأخير للرواية. وهو مقطع مجتزأ من متن الرواية. 

الرواية تعالج قضية من أهم القضايا المجتمعية ليس في المغرب وإنما في المجتمعات البشرية كافة. تلك المعضلة البشرية .. الطبقية والصراع المجتمعي.. الهوة السحيقة بين سكان الريف والمدينة في كافة الجوانب.

ولذلك كان اختيار الكاتب للشخصية الرئيسة رجل من هامش الحياة..يروي حياته من صبي يتيم في قلب حياة لا ترحم ابتداء بطفولته المتشحة بالبؤس.. الحرمان ..الاضطهاد. مرورا بصباه وشبابه. وهو بذلك يقدم لنا مجتمع التمايز الطبقي. كما يقدم لنا إدانة ودعوة لثورة تقود إلى العدالة والسلم المجتمعي"الثوار يذكرهم التاريخ الحقيقي في كل مكان وكل زمان, بغض النظر عن انتمائهم أو أعراقهم وأجناسهم ,عكس من تحصنوا بأحضان القصور الباذخة الذين يموتون جيفاً ككلاب ضالة " هذه عدة جمل من جمل كثيرة مباشرة وجمل تبث الدعوة للثورة بصورة غير مباشرة ضد أوضاع الإنسان المتسلط ..والاستبداد والفساد.
المقهى المكسيكي.. عالم ..أو مقطع تشريحي لمجتمع القاع المغربي.. ومجتمعاتنا العربية.

وأعترف بأن صديقي كفيح كاتب هذا العمل الرائع أوقعني في ربكة السياق الزمني لأحداث الرواية من القراءة الأولى.. لأعيد قراءة المقهى المكسيكي .. ولأتأكد من السياق الزمني .. بعد أن كنت اعتقده تصاعديا لأجد الراوي يحكي ليعود بنا إلى سنوات خلت من عمره.. يحكي قراءته لرواية أثناء رحلته على القطار.. وتلك حيلة رائعة تحسب للكاتب. عن شقاء واقعه . أو ليسرد لنا حكاية شخصية من الشخصيات التي عايشته ليزيدنا ويقربنا من واقع مر وأكثر بشاعة وقبحا ..كشخصية "العايدية"
الذي أجاد وصفها حتى لكأنها تتجسد من بين تلك الكلمات..أو أننا نعرفها من قبل قراءة هذه الرواية.. تعاملها مع محيطها مزاجها ..نظرتها لمن حولها تصابيها. واصفا سلوكها وأمراضها..دخولها الحمام.. وقفتها خلف قدور الطبخ.. استخدام أغصان النعناع لفرك أنفها.. تمخطها. وتلك المصطبة التي تعتليها كأنها ملكة متوجة.لتراقب ما يدور.

 

وما يقرب القارئ إلى أجواء ذلك المجتمع القاع.. تلك الحوارات الدارجة.. النابضة بالخصوصية.. ما يجعل العقل يسافر لاكتشاف تلك الأزقة وتلك الشريحة من البشر . 

 

أحد عشر كيسا من الكيف ومسدس عيار تسعة ملمتر.. ذلك ما وجدته الشرطة مخبأ في المقهى والشيبة العاصية المتهم الأول.. ليقاد تحت وابل من الضرب والشتائم .. صورة قوية وواضحة لمسن يتاجر في الكيف. كما تقدم لنا تعامل الشرطة وقسوتها .

 

مشاهد أخرى من الرواية حين يستعرض للمتلقي مدن أوربا وذكريات تنقله بينها وجنوحه على مقاهيها.. وبذلك التنوع ..بتنوع الأمكنة من المدينة إلى الريف ..ومن المغرب إلى مجتمعات أوربية.. ما جعل أفق المتعة لدى المتلقي أكثر بهاء وهو يواصل قراءة روايته.

 

وما زاد الرواية ثراء أن جمع الكاتب حكايات عدة شخصيات من شخصيات الرواية من حكاية العايدية إلى بوعزة السمعلي وحكايات سيف الدين الحلاق والشيبة العاصية والمكي بويديه والخالدية.. صحيح أن بعضها لم يتجاوز عدة جمل ..لكنها زادت من مساحة الإضاءة لتلك الشخصيات وقربتها أكثر من وعي المتلقي .. وبذلك اكتملت الصورة لتلك البيئة وذلك المجتمع الذي توفق الكاتب في اختيار شخصياته..وتلك الأمكنة التي جعلها مسرحاً لأحداث الرواية.

 

الرواية مشوقة ..وبها ما يدهش المتلقي .. وهي لروائي مغربي صاحب تجربة في الكتابة عبد الواحد ركيح.. صادرة عن منشورات سليكي أخوين في طنجة 2014. كما وأن له عدة إصدارات نذكر منها:"أنفاس مستقطعة" قصص.."رقصة زوربا" رواية.. "سحرة النجوم" رواية.."تلك الجثة" قصص. كما وأن له نشاطاً ملموساً على مستوى المشهد الثقافي المغربي من خلال مشاركاته الإبداعية الدائمة.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً