الجمعة 27 سبتمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 26 سبتمبر 2024
لعـــــــــــــبتي ..!! - نبيهة محضور
الساعة 16:25 (الرأي برس - أدب وثقافة)


                   
بدا الطريق الذي امشي فيه لا نهاية له.. تتعثر خطواتي المترنحة مرات ..تقودني قدماي الى المجهول ..ابحث عن مكان احط فيه رحالي المنهكة.. مشيت طويلا.. لم اعد ادري هل اسافر بعيداً أم أن الأماكن تسافر بعيداً عني ؟؟ بدأ الضوء هو الأخر يسافر.. يختفي خلف ظلمة روحي.. وصلت الى هناك حيث لا ادري اين أنا ؟

 

عند نهاية سور طويل ، كمشوار حياتي القصيرة الطويلة، ألقيت بجسدي المتهالك على بقايا ((كرتونه)) مهترئة ، يبدو أنها كانت مأوى لمن هم مثلي بلا مأوى لأرواحهم المعذبة.. جلست مستنداً على جدار ذلك السور .. رأسي يكاد يلتصق بصدري.. ذراعاي تحيطان بساقاي .. ..تكورت على نفسي ،جبال من الحزن تجثم على صدري ..الآلام تنهش لحمي .. الجوع يكاد يدمر امعائي.. لم اعد ادري منذ متى اسافر جائعا ..مواء القطط وعواء الكلاب وحده يشعرني اني لازلت على قيد الحياة ،روائح القمامة تسري في المكان ،تختلط مع رائحة بقايا البشر المتناثرة هنا وهناك ..يالها من نهاية !!
 

رفعت رأسي ..نظرت إلى هناك.. المدينة تسافر بعيداً عني ،فقط أضوائها الخافتة تتراقص امام عيناي الذابلتان التي تبتلعها الصفرة ،ويحيط بها السواد، سافرت ببصري بين تلك المساكن البعيدة ..الى هناك ..حيث مسقط راسي، " يبدو أنه هناك في ذلك الشارع ..لا اضن انه هناك في الجانب الأخر من المدينة ..اوه ..لم أعد استطيع تحديد مكانه ، آه منزلي.. كم اشتاق إليه ولمن فيه ، كم أحتاج أن تضمني جدرانه .. سنوات عديدة مذ هجرته ".
 

هذا المكان الذي تفوح منه روائح الموتى ، يشبه ذلك المكان الذي فررت اليه منذ عشرة أعوام ..يومها كنت في الثانية عشرة من عمري.. يالها من ليلة عصيبة بت فيها وحيداً ..خائفاً أصوات القطط مخيفة والكلاب كانت تفزعني.. ارتجفت أوصالي وانا أتكوم على نفسي كما أنا اليوم .
كنت العب وأترابي في حينا الشعبي حيث المساكن تتقارب وكأنها تناجي بعضها البعض ،صديقي سامي كان محضوضً، ألعابه ترافقه دائما.. اشترى له والده يومها لعبة جميلة ،هدية نجاحه في المدرسة ، وددت لو كان لدي مثلها ،اليوم التالي عدت فرحاً أحمل شهادتي بيدي، عرضتها على "والدي" .. والدي الذي لم يعرها أي اهتمام ..وددت وقتها لو يضمني إلى صدره.. أن يشتري لي مثل تلك اللعبة التي تتوق نفسي لامتلاكها .. توجهت لدكان العم صالح القريب من منزلنا.. تأملت تلك اللعبة وكل امل في اقتنائها .. 

 

اليوم التالي كنت فرحاً بها.. دخلت مسرعاً إلى غرفتي لألعب بها بدأت أتلمسها.. صوت والدي وقتها كاد يدك البيت دكا !
ـ ها أنتِ يا مرة.. اين أنتِ .. شلوك الجن؟
ـ مالك يا رجال صلي على النبي ليش هذا الصياح؟
ـ أين الخمسمائة ريال ذي كانت في جيب الكوت؟ تراها حق القات ؟
ـ  خمسمائة ؟ انا لم اخذها ؟
ـ اذا هو ابنك السارق  !
تسمرت مكاني..  انزويت  في احدى زوايا الغرفة وانا  احتضن لعبتي التي لم أداعبها بعد ..صوته كان يعلو.. يزمجر.. يقترب مني.. امي المسكينة تحاول منعه دون جدوى.. ركل الباب بقدمه.. الشرر يتطاير من عينيه، يده تقبض على خيزرانته التي اعتادت أن تلهب جلدي .. تقدم نحوي.. أوصالي كانت ترتعد من الخوف.. أنهال عليا ضرباً ..أمي تحاول دفعه عني .. لم تستطيع رمت بجسدها فوقي ليتلقى جلدها لسعات الخيزران.. لازلت أتذكر توسلها لوالدي دون جدوى.... سحبها من شعرها.. دفع بها بعيداً كانت تصرخ  طالبتً مني الخروج، فررت تاركاً المنزل وتاركا لعبتي وأمي تئن تحت سياط والدي.. تهت وأنا أركض في شوارع المدينة.. كنت أركض وأركض مذعوراً ، وكأن المدينة كلها تركض خلفي .. كانت الشمس قد قاربت المغيب.. لم اجد إلا ذلك المكان لأنزوي في احد زواياه، بكيت ليلتها كثيراً إلى أن استدرجني النوم ، استيقظت على صدى ضحكاتهم وترنحهم..
ـ ها.. لدينا ضيف الليلة.
ـ من يكون يا ترى؟
جلست مذعوراً.. خائفاً.. اقترب مني احدهم.. ربت بكفه على كتفي.. أمرهم بعدم الاقتراب مني، مد يده إلي قائلا لا تخف .. ما اسمك؟
ـ اجبته اسمي عمر .
ـ هل انت جائع ؟خذ هذا الطعام لتأكله..
سكنت روحي قليلاً حينما شعرت بتودده إلي.. ذلك الشاب كان في ضعف عمري، سقطت دمعة حارة من مقلتيه وهو يستمع إلى قصتي، بعد ان سألني عن سبب هروبي من المنزل ، وصفت له جبروت والدي وقسوته علي وعلى أمي المسكينة، لم نكن نعرف منه إلا لسعات الخيزران، حدثته عن صديقي سامي الذي كثيرا ما كنت أحسده على ألعابه.. على عطف والده عليه ..على حياته.. كم تمنيت أن يكون والده والدي ..تمنيت أن اكون هو..
صديقي الكبير حسن كان مختلفاً عن أصدقائه الآخرون، حزناً كبير يلف عينيه وطيبة كبيرة تسكنه.. طلب مني العودة إلى المنزل ترجاني على فعل ذلك.. اختنقت العبارات في حلقه وهو يقول لي "يكفي ما اصابنا من ضياع يجب ان تعود" ولكني رجوته ان أبقى معه، كنت خائفا من العودة .. صورة والدي الغاضبة .. وجهه المكفهر.. عيناه القادحتان.. صوت عصاه وهى تقطع الهواء لتسقط على جسدي .. منعتني من العودة.
بدأت حياة جديدة معهم مجموعة من المشردين فروا من سجن العائلة الصغير إلى فضاء الشوارع .. كلا منهم له قصة مع أسرته ، كانت سبباً في وجوده حيث أنا الأن .. مرت أيام .. شهور .. سنوات .. سكنا فيها الأرصفة الباردة والخراب القذرة .. نتقاسم في المساء حصيلة تشرد النهار.. كان حسن بمثابة الأخ الأكبر .. الحائط الذي استند عليه .. تلك الليلة لم يعد صديقي إلى المسكن حتى الصباح ، بحثنا عنه في اليوم التالي في كل الأماكن التي نعرفها ، لم نجده، عشت ليلة بائسة.. كئيبة ..بكيت كثيراً حينما علمت بنبأ وفاته بعد عن دهسته ناقلة في عرض الطريق ، شعرت بالوحدة ..بالخوف ، كالوحدة والخوف التي اشعر بهما هذه الليلة !
آآآه.. لم اعد أحتمل الجلوس .. حررت ساقاي من  ذراعي القيت بجسدي الهزيل على تلك الكرتونة الممزقة كروحي المبعثرة .. تمددت على ظهري .. فردت ذراعي النحيلتين .. بقعا سوداء تنتشر عليها..
صافحت عيناي وجه القمر .. تأملته ..يا لجمال سناه .. سنا القمر يشبه وجه أمي !!
أأه .. أمي الحبيبة، كم أحتاج إليك اليوم تخففين الالام روحي .. تمنيت رؤيتك أكثر من مرة ،، كثيراً ما كنت أقف على مشارف الحي متخفيا علي أراك .. كم أحن إلى رؤيتك الآن .. إلى صدرك الحنون .. كم أشتهي كعكك اللذيذ ليسد جوعي .
آآه .. ألآلم يكاد يفتك بي .. أين أنتِ يا أمي كم أشعر بالوحدة .. بالغربة .. بالوحشة .. دوائر تحلق فوق راسي ، أمي .. سنا القمر .. لعبتي ..
عيناي بدأت تنطفأن .. جسدي يسلب مني .. العالم يختفي رويداً رويدا .. روحي تحلق بعيداً وجه القمر يغيب مع وجه أمي ..
مواء القطط وعواء الكلاب الجائعة وحده يقطع تلابيب الصمت .

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر