الجمعة 20 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قصيدة النثر في اليمن بين الشعري والروائي "مرقص الشيباني نموذجاً" - د وجدان الصائغ
الساعة 17:10 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

في المجموعة الشعرية الموسومة " مرقص- الليل محمل بحصته الثخينة" للشاعر اليمني محمد عبد الوهاب الشيباني الصادرة عن وزارة الثقافة – صنعاء 2004 تجد نسقاً جديداً لكتابة قصيدة تغادر فضاءاتها الشعرية لتغدوا أداة من أدوات السرد الروائي ، الا انها تنحاز الى تدوينها الطباعي ،لتعلن عن هذه المغادرة منذ النص الأول لهذه المجموعة الموسوم بـ"اليعسوب" اذ يثبت ردفه عبارة "ثابت معنياً بالرواية" وإنتهاء بالنص الاخير الموسوم بـ " هؤلاء" ويردفه بعبارة " الرواية ليست معنية بهم" ...
وحين ننتقل من عتبة العنونة الى عنونة نصوص المنجز ستجد مثلاً " أم ضياء/ البنات/ خليل/ بوسي/ فطوم/أحلام/ رامي/هديل/ الكابتن سين/ ناهد/ إقبال/...." هي نصوص أشبه ما تكون بمسارد روائية ، وحين ننتقل الى تفاصيل المتون ستجد إستبطاناً واعياً لتلك الأنوات ، التي تحركت على مسرح النص وترنحها تحت وطأة الحرمان والفقد الذي يشاكل ترنح الراقص على أرض المرقص.
هذا المكان الملتبس الذي يحيل الى تحولات الأمكنة الرامزة للهوية والانتماء وإمتساخها ، بل وصيرورتها مكاناً خصباً لغياب القيم وضياعها . تأمل ما قاله الشيباني في الشذرة الموسومة "علبة – الليل يمر ثخيناً هنا" :
حينما جهَّزت
شركة النفط
في المساحة المجاورة للمبنى
هنجراً واسعاً حتى يستطيع
موظفوها
إقامة شعائرهم
بالتأكيد لم يكن القائمون على
إدارتها يعلمون
إن شخصاً ما سيحوله بعد سبع من السنين
إلى (علبة ليل)
يزدحم في جنباتها
الباحثون عن المتعة
في جو تختلط فيه الموسيقى
وأصوات المغنين الهواة
بلحم الراقصات.
بل الإمتزاج الواعي بين أنوات المتون والنسق السياسي يضيئ الرؤى الراعفة التي تشهد امتزاج الكوميدي بالتراجيدي ، وهي حركة تبتعد عن المحلية لتناققش هموم الأنسان أنى كان... لاحظ مثلاً ما قاله عن نساء المرقص المحترفات:

ومن هنا إختفين
كل النساء
مع دخول أول أيام الصيام
تماماً كما اختفى الجيش العراقي من بغداد
في التاسع من نيسان.
المتن يوثِّق بهذه الصورة الكاريكاتورية لفجيعة المكان الرامز للحضارة "بغداد" ، بغياب مسانده الدفاعية وجنرالاته العتاة ،وتركه مستباحاً لأساطيل المارينز ومجنزرات الغزاة ، والمخيال النصي يعيده واعياً الى ذاكرة التلقي ليفضح جوهر الرمز الذي وقف عليه المنجز برمته...
ومثل هذا ينسحب مثلاً على" ليال الغازية بشعرها الأصفر وأسنانها المذهبة" تأمل:

هل خطر ببال الحاجة ليال
-بعد نجاتها من مذبحة بائعات المتعة
قبل حرب العراق الأخيرة -
أنها ستكون مسؤولة
عن إثنتين وعشرين فتاة
من بنات جلدتها (الغجريات )
يعملن كراقصات في أقصى الجنوب.

هل ارتسم بذهنها
شكل الطاولة الواسعة
التي ستجلس إليها لست ساعات
كل ليلة تمضِّيها في أكل القات
وتدخين (المارلبورو )الأبيض
وشرب "البيرة"
وتوجيه البنات، والرد على مكالماتهن .
من التليفونات المحمولة

وهل خطر ببالها أيضاً
أنها ستستأجر خزانة بنكية سرية
لتضع فيها بسبورات وعقود
عمل الفتيات الممهورة بختمها
الحديدي .

هل خطر ببال الحاجة – السمينة
بشعرها الأصفر وأسنانها المذهبة –
أنها ستبتكر جدولاً أسبوعياً
لكتابة جوابات اثنتين وعشرين
فتاة – أكبرهن في الثالثة والعشرين –
لا يجدن القراءة والكتابة
غير أنهن يجدن الرقص
وتبادل الملابس المثيرة
ويجدن أيضاً الدوس على العملات
الورقية
التي تُرَشُ على رؤوسهن بسخاء
من مهووسين وسكارى
وباحثين عن متعة لا تستطيع
فك شفيرتها
سوى ليال

اذ يمكنك مباشرة ان تلمح أصابع الشيباني وهو يشكل شخوصه المهيمنة على السردي والشعري المستجلبة من الواقعي واليومي .. هي شخوص تذكرك بشخوص نجيب محفوظ الملفعة بالرمز ، والتي ارَّخت كما ارَّخ الشيباني لأسباب هزيمتها المعاصرة ..
هو يرسم صورة كاريكاتورية ، لكنها للأسف لا تخز ضمير التلقي الذي تعايش معها ، وانما يستدعيها بكامل ملامحها من التراجيدية الواقعية العربية. فتجد في ليال الكينونة المغلفة بالعقيدة "الحاجة" والمتقشرة عن بشاعة الرؤى وغياب المعتقد وضياع القيم .
الشيباني في منجزه الشعري نجح في أن يخلق شراكة بين التلقي والمبدع، الذي اكتفى بنصف الصفحة، حين انتفى الهيكل التدويني لقصيدة النثر لسرد تفاصيل روايته - التي خرقت صفحاتها الثلاث والسبعين الحجم المألوف للرواية – ليمنح القارئ سانحة ملء النصف الآخر من الصفحة برؤاه وعذاباته، التي سيستجلبها من معايشاته الخاصة للحدث.

27 يناير 2006
منقولة من صحيفة الثورة - صنعاء

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً