السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
دراسة :
آفاق الرمز والرؤية الجمالية في مسلة الأحزان السومرية للقاص العراقي : علي السباعي - عبد الهادي والي
الساعة 11:33 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 
 

في عشر قصص قصيرة ، هي التوالي : ( شارلي شابلن يموتُ وحده / رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام / إعلان وفاة ليلى / حقيبة الإرهابي ذي البدلة الأنيقة / كلكامش يغني لسليمة مراد / وحدها يدُ شهرزاد باسقة / كاكا عبد الحليم حافظ / بتهوفن يبيعُ أسطوانات الغاز / سيجارة الضابط العراقي / حوار في مرآة الذات ) . تضمنتها مجموعة القاص العراقي المبدع ( علي السباعي ) الجديدة ، الموسومة : ( مسلة الأحزان السومرية ) .
( شارلي شابلن يموت وحده ) القصة الأولى في المجموعة ، تعكسُ وعياً متقدماً ، إذ يحتلُ فيها النبل والتعاطف الإنساني مرتبة عليا ، وهي ترسم ملامحَ صبي منغولي ، بيده يحملُ ستلايت ، وجهاز تحكم من بعيد . يذهب بهما باتجاه مصلح للأجهزة الكهربائية . فيتعاطف معهُ المصلح ، ويقومُ بإصلاح جهازه وشراء جهاز تحكم جديد له ، فيطير الصبي " المنغولي " من الفرح ، وإذ يسيرُ بجهازه ، تحدثُ المفارقة القوية في القصة ، التي تهز فينا طاقة العاطفة والتعاطف مع البراءة ، حين يغتالها التسرع والغضب الأعمى ، والغليان الذي يطيحُ بالعقل . وفي ذروة الانفجار ، وتشظي الأجساد والأشلاء ، الذي حدث بسبب فعل إرهابي ، يستمرُ البحثُ عن المسبب لهذا الفعل البشع ، وحين يلمحون الصبي المنغولي ، وبيده جهاز تحكم الستلايت ، يظنونه هو الفاعل ، فتنهالُ عليه الضربات والرفسات التي تودي بحياته ، ليروح ضحية بريئة ، وهنا يسدلُ القاص المبدع ( علي السباعي ) الستار على لوحته ، بهذه الضربة الفنية الباهرة ، وهو يثير لواعجنا وتعاطفنا مع البراءة ، حين تغتالُ سهواً وغيلة ! وقد حاك القاص قصته بأسلوبٍ مقتدر ، يميلُ إلى الاختصار في العبارة ، والتلميح والابتعاد عن الحشو في الأسلوب ، الذي هو آفة القصة القصيرة .
( رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام ) القصة التالية في المجموعة ، هي سياحة فكرية تعجُ بالمشاهدات ، حول نُصب تذكارية ، في دار السلام ، لفنانين منهم جواد سليم ، وخالد الرحال / مع مزجٍ مدهش لمقولاتٍ ، تؤكد حكمة الأهل وما يختزنونهُ من خبرات وتجارب حياتية ، وتصويرٌ لتقلبات الجو ، المطر المنهمر ، وصحو الشمس ، وحركة المارة وتزاحمهم في ساحة الطيران ، وهاجسهم الدائم من أنفلات عبوة ناسفة ، أو تفجير أرهابي لجسده العفن . يقول ( مارسيل بروست ) : (( أننا لن نأمل عزاءاً ، عما يعتور العالم من فوضى ، وشذوذ وعقم ، وقهر ، إلا في الخلق الفني )) . وإذ ينقل القاص ( علي السباعي ) تلك التفاصيل الدقيقة ، وبلغة فنية ، بالغة العمق والنفاذ والتأثير ، وهو يتابع البطل الذي يركب سيارة الكيا ، لتقله إلى ساحة النهضة ، وهو يدسُ كيسه المعبأ بالكتب ، قرب مقعد السائق ، وحين تحدث الجلبة ، ويرتفع صوتٌ عالٍ بأن هناك عبوة ناسفة ، مخبوءة قرب مقعد السائق في سيارة الكيا ، وفي ذروة الهلع والفوضى التي تعمُ المكان ، واعتراف شخصية القصة الرئيسية ، بان تلك العبوة الناسفة ، لم تكن إلا كيس كتب الذي وضعه قرب المقعد ، تنهالُ عليه الصفعات والركلات من كلَّ جانب ولا تزال أصواتهم تقرعُ أذنيه بهتاف : إرهابي . . إرهابي !! إن زج عنصر المفارقة في القصة ، وبقدرة فنية عالية ، تؤكد سيطرة القاص على أدواته وتقنياته ، وهو يوظفها بأحكام ، ليثير فينا المدهش والمشوق . ويظل الموت ُ والتوجس منه ، يظلل كل الأجواء المحيطة بالناس ، فالإرهاب يتمدد في المدن وينمو ، تغذيه أيدٍ شيطانية ، لا تريد لهذا البلد ، أن ينعمَ بالأمن والاستقرار . لقد أولى الناقد الكبير ( تيسن ) رائد المذهب البيئي في ميدان النقد الأدبي ، أهمية بالغة لدور البيئة الاجتماعية ، في تشكيل المضامين والأفكار الكامنة ، في مجال الفن ، وقد آمن بأن العمل الأدبي والفني ، يتجدد بمجموعة من الملابسات الاجتماعية ، التي تمثلها الحالة العامة للتفكير والعادات المحيطة ، وقد أيدهُ في هذا المنحى ( بونالد ) في كيفية تفسير الأعمال الفنية ، فيرى : (( إن الأدب هو تعبيرٌ عن حياة المجتمع )) . 
في قصة ( إعلان وفاة ليلى ) : هي أمتدادٌ آخر لتصوير حالة الفوضى والدمار والفقدان ، التي حلت بالناس ، جراء معاناتهم الدائمة ، يبرز ذلك من خلال أحداث القصة ، التي تحكي سيرة إمرأة ، فقدت ولدها بإنفجار عبوة ناسفة ، عبر تسلسل أحداث متتابعة ، يزج بها القاص ليكتمل مشهد الحدث ، ويتوهج في نهايته المعبرة ، التي تفضح البشاعة والتخلف ، بأسلوبٍ ينأى عن المباشرة ، ويحلق في أجواء تقتربُ من عوالم الشعر المبهر ، المعبر عن المعنى العميق للحدث : (( سماءُ الزوراء ممتدة أمامي ، صافية ، صار الحرُ يطبقُ براثنه الملتهبة علينا ، لم يتبق لليلى سوى ذكريات الماضي . دمدمت بما قالهُ جواد سليم ذات لحظة تأمل . رمقتني بنظرة متفحصة ، وأجهشت بالبكاء . تلألأت دموعها في عينيها المغمستين بضوء النيونات . تابعتْ حديثها بصوتٍ واثق ، وهي توزع نظراتها المليئة بالدموع عليّ : هرعتُ إلى محله ، ومعي ثلاث نسوة من جيراني ، وحفيدي الذي أحمله على ذراعي ، ذي الثلاث سنوات . كان الوقتُ بين العصر والغروب . وصلنا وما أن أقتربنا من عتبة الدكان ، دوى صوتُ أنفجار هائل !! )) . لقد قصدت دكان ولدها ، في محله ، بعد ورود أتصال بها من أبنها ، يطالبها بالقدوم إلى المحل ، لكن المتحدث كان شخصاً غريباً . قال لها بعصبية : تعالي إلى الدكان !! 
في قصة ( حقيبة الأرهابي ذي البدلة الأنيقة ) تحتشد بمفارقة شديدة ، يقودنا فيها القاص ، بدربة فنان مقتدر ، ليصور من خلالها رجلاً ببدلةٍ أنيقة ، وبقربه حقيبة ، وبيده هاتف نقال . يتوهم الآخرون بأن الحقيبة لابدَّ إنها تكتنز بمالٍ وفير . يتظاهر الرجل بأنشغاله بالمهاتفه ، مع الطرف الآخر ، فاسحاً المجال للمغفل الذي يباغت الرجل ، ويسرقها ، ظاناً إنها تحوي مالاً وفيراً ، إنها مصيدة معدة من قبل الأرهابي ، صاحب الحقيبة ، وحين يلوذ السارق راكضاً بكنزه بين حشد الناس في الباب الشرقي ببغداد ، تنفجر الحقيبة ، لتتطاير الأشلاء والرؤوس ، في كل أتجاه . إن عنصر المفارقة المدهش يشدنا إلى القصة ، لننغمر بجوها وحبكتها المتقنة . 
في قصة ( كلكامش يغني لسليمة مراد ) سياحةٌ هي الأخرى في شوارع بغداد ، ينعطفُ فيها بطل القصة ، بأتجاه شارع أبي نؤاس ، متوجهاً صوبَ الكرادة ، مترنماً بمقطعٍ من أغاني سليمة مراد ، ليقترب من قمامة ، تحوم حولها مجموعة من الكلاب ، يحاولُ أن يلتقط حجراً ليبعدها ، ولما لم يجد حجراً ، أخذ يعوي مع الكلاب ، في محاولة مستحيلة للخلاص !
في قصة ( كاكا عبد الحليم حافظ ) من أمتع قصص المجموعة ، يشوبها الألم والحسرة ، وهي سيرة طويلة ، حافلة بالمعاناة والتذكر ، والتوثيق لحياة المطرب عبد الحليم حافظ ،  من خلال سردٍ مدهش ووافٍ ، يمر عبر تتابع صور ولقطات ، وأجواء طبيعية متقلبة ، في مدينة السليمانية الكردية ، مسجلة كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة ، عن حياة عبد الحليم ، تأريخ مرضه ، وأسماء أغانية ، والمستشفيات الكثيرة ، التي رقد فيها ، لتنتهي القصة ، بوفاته المفجعة في عام 1977 م ، وهتاف الرجل الكردي ، الذي يقلد أغنياتهِ وحركاته ، وهو يردد : ( كاكا عبد الحليم ) . 
بقية قصص المجموعة تعزفُ لحناً مشتركاً ، تستجيب فيه لأدوات القاص البارعة ، وهو يوظفها بمهارةٍ عاليةٍ ، في رسمِ ملامحِ شخوصه ، المستلبة دوماً ، والمضطهدة ، كاشفاً بذلك ظروفاً قاهرة ، أشتركت في صنعها أيادٍ ، أرادت الخراب والدمار ، أن تسودا حياة الناس . عبر كل هذه القصص ، أستطاع القاص العراقي المبدع ( علي السباعي ) ، أن يقدم لنا صورة متميزة ، عن إبداعاته في هذا الفن الجميل – فن كتابة القصة القصيرة – بأسلوب أمتاز بالحبكة ، وبجمال العبارة وسهولتها التي تمتازُ بدقتها وعمقها الذي ينفذ ُ إلى ذائقة المتلقي ، دون تعقيد ، ليحقق بذلك مكانة مرموقة له بين كتاب القصة القصيرة ، ليس في العراق وحده ، وإنما على أمتداد الساحة العربية ، مستخلصاً موضوعاته من أتون الواقع ، الملتهب بالصراع ، والمحتدم بالتناقضات ، ليشكل حضوراً فاعلاً ، في دعم قضية الإنسان ، وأحلامه في حياة حرة ، خالية من الجور والأضطهاد والتعسف . 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً