الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مسامرة الموتى من أجل الأحياء "رواية للغربى عمران" - السيد نجم
الساعة 13:33 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


مدخل للقراءة:
هناك روايات تتعدى المطروح وتعبر عن طموح الكاتب والرغبة فى التجاوز، بل والسعى بوعى لتحقيقه. رواية "مسامرة الموتى" للروائى اليمنى "محمد الغربى عمران" واحدة من تلك الروايات التى تشى بقدر من الجهد الفنى و محاولة الإنزياح بعيدا عن التقليدى والشائع فى كتابة الرواية الآن (2016م).
 

بدت محاولات التجاوز فى عدة ظواهر فنية، و قد دعم تلك المحاولات، التناول الشعرى فى الصياغة السردية وبناء الشخصيات و غيره كالآتى:
.. اللغة السردية المستخدمة، تتسم يالشعرية و ليس المقصود هنا هو توظيف الخصائص الشعرية من تراكيب و خيال و مفردات، المقصود تحديدا هو البناء على المطلق، و كأن كل سطر فى الرواية يعبر عن ذاته، من أجل كشف المجهول الغائر فى أعماق الكاتب، و الداعم لحالة ما بنفس القارىء.. حيث يبدو و كأن الكاتب يرسم صورة لا نهائية بهدؤ.

 

 

.. سوف نتناول آليا بدايات الفقرات مع الفصل الأول (نموذجا) للكشف عن تلك البنائية الشعرية فى السرد: 
"ظهر "اليامى" فى سوق الوراقين يحفه خيالته... لم يترك لرفضى مجالا فحملنى عنوة إلى ذى جيلة... سار بنا اليامى من قلعة إلى أخرى حتى حصن "هران"... إعياء السفر المتواصل جعل كلا مشغولا بنفسه... أمر اليامى إحكام وثاقى..."
هكذا تتركب الصورة بروية وذكاء، بينما يبدو الأسلوب حياديا غير زاعق، يؤكد الحالة و يرسمها. و بالرغم من مأساة الشخصية المحورية فى النص (حوذر أو صعفان)، فلا نقرأ كلمات النحيب والحزن بقدر ما نشعر بحالته ونتلمسها فى كل تأملاته و حالاته.. فيبدو و كأننا أمام حالة ذهنية قبل أن تكون حالة واقعية.

 

و هو ما يثير التساؤل حول تلك السمة فى مجمل أعمال الروائى "عمران" (الروائية)، و لعلنا نجد الإجابة المناسبة بعد متابعة قراءة الرواية.
.. الصورة الذهنية للشخصيات، هى الملمح التالى، حيث أن مجمل شخصيات الرواية بلا أوصاف جسدية، مع إستثناءات قليلة (مثل شخصية السجان ذا الساق الوحيدة).. 
كما تبدو الشخصيات أحادية السمات.. القاس، المضطرب، العاشق، القوى، الضعيف، و غيرها من السمات الشخصية، بحيث تبدو تلك الصورة للشخصيات قادرة على فرض عالمها الخاص، غير الواقعى غالبا، فيتأكد العالم الشعرى للرواية.

 

.. التراكيب الشعرية الثرية والدالة التى تفرض نفسها على البناء الأسلوبى للرواية، مثل: 
ص26 "أذهب لزيارة قبر أمى..، لا أعرف ما على فعله غير أنى أشعر بمن يمسد شعرى و صوت يردد صلواته.. لذلك كثيرا ما قضيت جوار قبرها أحكى.. لتلفح أنفى رائحة وجهها". 
ص63 "و بذلك تزداد قناعتى أن العاشق شهيد حى و روح لا تموت".

 

 

عتبة النص "العنوان":
يبدو تعبير "مسامرة الموتى" و كأن الروائى يسعى إلى إبلاغ القارىء بداية، بحجم العزلة التى تعيشها الشخصية المحورية فى الرواية.. و إلى حجم البغض والكراهية التى يلاقيها من الآخرين و داخله.. فلم يجد غير الموتى يحاورهم.
 

لكن تقع أحداث الرواية فى أغلبها خلال الزمن البعيد (بين 470 حتى 532 هجرية) فى بلاد اليمن أو جزيرة اليمن حسب ما تكرر فى متن الرواية. و هو ما يشى بضرورة توافر قناعة أكيدة 
أن كل ما يدور من أحداث بين الشخصيات هى فى عتاد الموتى.
لكن (أيضا) أليس الراوى بالعمل ضمن شخصيات تلك الفترة، و هو ما يفيد أو يوحى للقارىء أن المسامرة والتحاور هى فى الحقيقة بين الراوى/ الروائى وشخصيات الرواية (التاريخية والمتخيلة).
و يبدو السؤال منطقيا الآن: ماذا يريد الروائى السارد من تلك المسامرة مع الموتى؟ حتى أنه قال فى ص151:
"أكثر من عشرين سنة عشتها فى عزلة سقف فسيح.. توصلت إلى وسيلة التحدث مع الموتى.."
مقاربة شكلية:
تقع الرواية فى 201 صفحة حجم متوسط، أظن أن الإخراج الفنى للرواية وطباعتها فى كتاب، عمد إلى ضغط بونط الكلمات والتنسيق الداخلى، حتى تخرج فى هذا الحجم الذى يبدو أصغر من حجمها الطبيعى، لأسباب تتعلق بالتكلفة الإقتصادية.. فهى من الروايات كبيرة الحجم متعددة الخصائص والملامح.

 

 

قسمت الرواية إلى ثلاثة أقسام: "أسماء -470هجرية"/ "سيدة -510هجرية"/ "أروى-532 هجرية".. كل قسم يحمل اسم واحدة من الشخصيات النسائية (من طبقة الحكم)، حيث تعتبر تلك الفترة من فترات النزاع السياسى والصراع على حكم جزيرة اليمن.. منها (الملك "ذى جبلة" و زوجته الحرة "سيدة"- أروى.. وشخصيات تاريخية أخرى من سلاطين وآمراء القلاع، فضلا عن تلك الشخصيات/الحكام من مصر وغيرها.
 

 

هل "مسامرة الموتى".. رواية تاريخية؟ 
.. تشى العديد من المعلومات التى نثرها الكاتب بين طيات الشخصيات والحوار والأحداث، أن الصراع على الحكم هو العمود الفقرى و محرك البعد الزمنى للرواية.
ها هو ذا رسام حروف الكلمات أو الخطاط "جوذر" و قد أصبح اسمه "صعفان" بعد حبسه فى قلعة الحرة "سيدة" دون جريرة إرتكبها، ما يعنى دخوله مرحلة جديدة و محتلفة من حياته، و هى سمة من تقاليد القصور الملكية فى اليمن. لكنه إكتشف أنه أصبح كاتب رسائل السيدة (الأولى) فى القلعة، و له دوره الهام تحت الحبس (لعشرين سنة)!

 

من خلال تلك الرسائل الملفوفة بالشرائط الحمراء والمطعمة برائحة الريحان، تتوالى بعض الأحداث التى هى فى الحقيقة من تاريخ اليمن الحقيقى.
.. كما إستخدم الروائى حيلة أخرى لرصد البعد التاريخى هذا، ألا و هى رحلة بحث الخطاط على حبيبته "شوذب" (ابنة المعلم صاحب الدكان، الذى تعلم على يديه وعمل في دكانه من قبل منذ طفولته، حيث كان يلعب معها، و كبرا معا).

 

ما حدث أن تم القبض عليه ثم علم بأنها (أى حبيبته) أصبحت من جوارى الحرة "سيدة"، لتبدأ رحلة البحث عنها بين الجوارى القادمات يوميا لتسليمه الرسائل، أو حتى بين من تصله لمحات منها مصادفة إذا تحرر من محبسه، لسبب أو لأخر.
ما سيق أتاح للروائى إمكانية سرد بعض الصراعات بين حكام اليمن، و نقل صورة عن شكل البناء السياسى والعسكرى فيها، سواء بما تحتويه من قلاع و قوات على شكل مجموعات تخضع لأمير ما. 
أو ذلك الدور السياسى و العسكرى الخفى الذى تلعبه الجوارى، سواء بتكليفات من الملكة لنقل معلومة أو خبر أو أمر ما.. ثم هناك الدور السرى العسكرى الذى قد تنهض به الجارية لأسباب تخصها، وقد تقتل بسبب فعلتها وتدخلها فى شئون الدولة عن جهل أو حتى من باب الإخلاص دون أمر مباشر لها!

 

.. يشى النص الروائى بقدر من التاريخ القديم لليمن، و مع ذلك هناك ما يشى إلى أحداث و أحوال و كأنها الآن، أو على الأقل تشير إلى وقائع آنية ترميزا و إحالة.. منها:
ص165 (كان رحيل "ذى جبلة" حدثا عظيما يجلجل أركان البلاد وليس القصر وحده.. فالصراع على الحكم باد فى تفكير كل أمراء القلاع، فكانت الفكرة ".. كلفت رسولا يحمل رسالة سرا الى أمير المؤمنين الأمر بأحكام الله فى القاهرة.. شرحت فيها خطر المناىئين للدعوة المستعلية.. و تطاول بعض الأمراء باعلان إتباعهم الدعوة النزارية.. متوسلة إنتداب مستشار لمساعدتنا..)
هكذا بدت الجماعات الدينية المتصارعة (تلك الظاهرة العربية القديمة والمعاصرة).. و بدت حقيقة تاريخية و هى طلب العون من القاهرة، ثم مهاجمة هذا التدخل من حاكم القاهرة، و هو ما يعبر عن بعض الإسقطات التى تبناها الروائى، و هو ما بدى فى المثال:
ص180 (أعلنت فصل دعوتنا عن مصر التى أمست نزارية.. و كان ذلك على نهج الملكة سيدة.. لتستقل جزيرة اليمن بدعوتها الطيبية.. كما أعلنت تكريس أنشطتنا فى الدعوة بعيدا عن التسلط، و بذلك ابتعدت بذى جبلة عن مخاطر التجاذب بين الأمراء و صراعاتهم المذهبية")

 

 

.. لعل الأحداث التى تشير إلى التاريخ القديم والمعاصر فى هذه الرواية، تغرى البعض بالنظر إلى الرواية بإعتبارها رواية تاريخية، بقليل من التريث يلاحظ القارىء ما ينفى الرواية تلك السمة، للأسباب التالية:
.. رؤية الكاتب طغت بحيث أتاحت له توظيف التاريخ دون كتابته (حرفيا أو حتى فنيا).. فقط عمد إلى التقاط ما هو مناسبا و معبرا عن وجهة نظره.
.. تمثلت رؤية الكاتب فى: التنقيب فى الماضى و كشف ما به من أحداث و أحوال، ربما تمائل بعض ما يرى من أحداث و أحوال آنية و معاصره، منها ظاهرة الصراعات الدينية أو صراع الجماعات الدينية- أن الصراع فى العالم العربى و منذ قديم الزمان، فى حقيقته هو صراع على السلطة، وليس على مصالح الشعب و تحقيق رفاهيته.. الإفتقار إلى الحرية، حيث تم القبض على "حوذر" وسجنه دون جريرة منطقية، بينما من هم خارج محبسه مكبلون بالأغلال غير أحرار و لا يرونها لكنها فاعلة فيهم، حتى يقتل بعضهم دون أسباب معلنة. 

 

بالتالى من طرف خفى، بستشرف الروائى المستقبل الخالى من منغصات الماضى تلك..
الوجه الآخر الذى يرسمه الروائى:
فى مقابل تلك المنغصات فى الوطن، بدا "حوذر" على صورة معاكسة ساعيا أن يتحرر من تلك المنغصات، وإان حاول بإعمال العقل والتفكير، و هو ما تبدى فى مجمل آرائه و أفكاره حول الأديان (كل الأديان).

 

*قضية الدين: قى ص33: تسأله ابنة المعلم: "أنت يهودى؟".. أجاب: "كنت أود أن أرد عليك بأنى لا أعرف لى دينا".. فقالت: "أعلم بأن أمك يهودية"
.. خلال الحوار نفسه ينفى عن نفسه صفة اليهودى، و أنه يجيد سحر رسم الكلمات، وهى تجيد أعمال الوشم وقراءة أسرار الكف والإستعانة بالنجوم.
ثم ذهب الكنيس اليهودى وقابل العيلوم (كبير الكهنة) وسأله: هل يؤمن بوجود الله، و أن الله فريد فى نوعه؟ ليس له جسم و هو أزلى؟ فلما كان يهز رأسه، طلب منه أن يذهب للصلاة.. إن الله يكافىء الأخيار ويعاقب الأشرار.. قاعة الصلاة يعلوها الضجيج ويتبادلون الحلوى فيها"
ص42: "شاركتهم الصلوات متذكرا نصيحتك: إفعل مثلما يفعلون.. إن طبيعة الإنسان تكمن فى غضبه و شهوته و كأسه.. إشرب لتكتشف من أنت؟"
وفى موضع لاحق تسأله الجارية: "ماذا تقصد؟ .. "أقصد بأنى لا أصدق بأنك تؤمنين بتلك الحكايات والأساطير، فلتكونى مسلمة أو يهودية؟ ألم تباغتك أسئلة دون أن تجدى لها أجوبة؟ ألم تتساءلى عمن يعبدون؟ و أين هو؟ و لم هم يقولون بأنه دين يخصهم دون الأغيار؟.. و لم علينا التصرف باسمه بينما يتشرنق فى غيابه؟

 

فى ص44: "ألم أقل لك بأنك مخير".. فمن تعبد..." لا أظنى أعبد أحدا.. كهنتهم يعون ما يصنعون من وهم، ولكنها مصلحتهم و جل المسلمين يعبدون محمدا و مراقدهم و إن أنكروا".. "و النصارى جاهروا بعبادتهم ليسوع، كائن حى غير موجود"
قالت: "أنت لست يهوديا".. فرد عليها معترضا: "لماذا وشمتنى و تعرفى أن اليهودى لا يوشم؟
لعل أوضح آراء "حوذر- صعفان" فى قضية الدين فى ص180 يقول:
"السلطان لا يؤمن إلا بنفسه .. يستخدم كل شىء بما فيها الأديان كوسيلة لتكريس ربوبيته دون أن يصرح بذلك.. و إخضاع رعيته و إستغلالهم.. بالدين يمنح نفسه حق القتل والإستغلال.. فيستخدم ذلك لمزيد من بسط سلطته.."

 

وهو ما يؤكد أن رؤية الروائى هى السمة الفاعلة روايته (وروايات سابقة) و ما التوظيف لبعض الأحداث التاريخية إلا وطئه يمتطيها لبلوغ هدفه/ أهدافه التى تتكشف للقارىء بعد الإنتهاء من السطر الأخير من الرواية..
الجديد أن أضاف الروائى هنا فى روايته "مسامرة الموتى" ما قد يوحى بالتمرد والمواجهة والبحث عن الخلاص فى فقرات خاتمة الرواية حيث يقول (بتصرف): "ذلك اليوم كان يقينى بنهاية "أروى" بالقلعة... ونهاية أيامى و أنا أمسك بمشعلى... لم أكن واهما حين إرتفع صوت الطفلة "طيبة" آمرا: لن نعود إلى توابيتنا... سنخرج ندعو الناس لنملأ الأرض عدلا... سريعا إشتعلت النار.. أنا الهث بإتجاه بداية السلم وصعدت السلم..."
إلى حيث نور الشمس صعد، ألم أشر سلفا أن الروائى الغربى عمران لا يكتب رواية تاريخية؟!

 

********

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً