الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الفكاك من حوصلة العصفور هكذا هو عبدالمجيد التركي - جميل مفرح
الساعة 13:58 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

 

حقاً.. لن يكون في المساحة والزمن والجهد ما يكفي، لو أنني اعتزمت التوقف عند تجربته شاعراً، عرفته منذ نعومة حرف ورهافة فكره، ومع يفاعة حلم وانطلاقة طموح.. خصوصاً وأنه مبدع لا أكاد أتذكر أن لبداياته صفراً واضحاً أو خط انطلاق معيناً، وإن حضرت تلك البدايات في سن مبكر، شأنه شأن مجموعة متميزة من مبدعي جيله الذين اتسمت تجاربهم بالنضج والامتلاء والامتلاك لمفردات وجوامع الإبداع والوعي بها وبأنفسهم وبتجاربهم باكراً، نظراً لما توفر لهم وبهم من أسباب في مقدمتها الانفتاح على الحراك الثقافي والإبداعي في مساحاته المتسعة وكواكبه البعيدة، والذي أتيحت لهم فرص سبره واختباره وتجربته نتيجة لوجود الإمكانات والوسائل المساعدة على ذلك، بالتزامن مع بدايات وشبه بدايات متحفزة وشغوفة ومنطلقة، تربت وترعرعت في ظل وعز مرحلة مهمة من مراحل الإنتاج الثقافي والعطاء الأدبي، ومنعطف مغير ومتغير في الشأن الإبداعي النصي على المستويين المحلي والعربي.
 

 

لم ينل حظاً وافراً من الالتصاق بالمقاعد المدرسية والارتطام بالسبورات ومن يقفون إلى جانبها في صفوف التلقي النظامي، إلا أن ذلك برأيي لا يُعد أمراً ذا شأن أو قيمة، إذا كان مع مثل هذا الشاعر والكاتب المبدع، الذي استعاض عن ذلك بكل ما هو أنضج وأبلغ وأكثر جدوى في عوائده وفوائده، معتمداً على التلقي الحر من غيمات الإبداع ومناجم اللغة ومعامل ومناهل المنتج الثقافي والإبداعي.. وذلك في مجمله ما كون له ما يستحكم عليه في وقته الحاضر من ثراء بالغ في معارف ومدارك التعامل مع الكتابة وأحوالها وأدواتها.. كما لا أنسى الإشارة أيضا إلى واحد من أهم روافد هذه الثروة الهائلة، ألا وهي تجربة الاندماج في ضجيج وزحام التفاعل الثقافي والأدبي من خلال الاقتراب الوظيفي من واحدة من أهم وسائل ومنابر الإنتاج الثقافي وهي الصحافة والصحافة الثقافية.
 

 

عموماً.. لا أبالغ بالمرة حين أقول إننا إزاء مبدع متنوع، جر ويجر الكتابة من ياقتها وأجلسها ويجلسها بين يديه طيعة وذلك بموهبته الفذة وبقدراته الكبيرة في التعامل مع أدواتها وممكناتها.. استطاع أن يضع بصمته في الجديد وأن يتميز بسرعة لافتة شاعراً مقتدراً وكاتباً أنيقاً، يبرع في تطويع اللغة التي انهزمت له يوماً ما راضية، والتقاط الأفكار التي باتت لا تمل من مداهمته، إضافة إلى مسايرة الجديد بممتلكه التراكمي والذهني، وبمحاولاته الدؤوبة والفاعلة في إحداث ذلك التجديد والإضافة إليه والمساهمة فيه أيضا.
 

 

إنه الشاعر والكاتب المبدع عبدالمجيد التركي، الذي أجد نفسي بارعاً ومتمكناً، وإن لم أكن، حين أتوقف عنده، وأكتب عن شيء ما يخص إنتاجه وتبجربته الإبداعية، وذلك بالطبع نظراً لتتبعي الملازم لهذه التجربة القريبة مني جداً منذ ما قبل إصداره الشعري الأول “اعترافات مائية” بكثير وبزمن طويل، ومروراً بكثير من العطاءات الفارقة والمتجددة، ووصولاً إليه وهو يقدم نفسه للقارئ في إصدار إبداعي جديد قائلاً على غلافة الأول: “هكذا أنا” .. مقدماً ذاته المبدعة في مرحلة وتجربة جديدتين لم ولا يفارقهما ما تميز به سابقاً من اجتهاد وعزم وطموح وهو يقدم نفسه سابقاً: هذا أنا في إصداره الأول.
 

 

نعم.. هكذا هو عبدالمجيد.. شاعر مبهر يرفع اصبعه أمام عينيه ويصوبها باتجاه السماء، يشقها كجراح محترف ويفتش في ثنايا آفاقها عن نفسه وعما يمكن أن يكون زاداً لسفره المتعطش دائماً للابتكار، وعن طرقات أكيدة وإن كانت وعرة يعبرها صوب هدفه وباتجاه قارئه ومتلقيه..
هكذا هو أيضا وهو يعيد إصبعه باتجاه صدره ويعيد ويكرر عبارته حتى أمام نفسه: “هكذا أنا”.. وليكن ذلك ما يكون… افتراقاً وتنصلاً من كل ما هو حوله عدا نصه ونتاجه أو خيلاء وزهواً بما يقدمه، إيماناً منه وثقة في كونه منتجاً غنياً ومبهراً ويستحق وجوبا التوقف عنده واكتشاف ما ينطوي عليه حشد الكلام والحروف من أسرار إبداعية بات البحث عنها هواية لذيذة لدى كل من تعنيه الكتابة في شيء والحالان كلاهما ممكنان إن لم يكونا لازمين.

 

ووقوفاً عند إصداره الجديد هذا “هكذا أنا” الصادر مؤخراً عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة، بدا ويبدو عبدالمجيد وكأنه أسس بشكل مباشر وغير مباشر فيما يخص التلقي على العنوان، وانطلق منه وهو يكتب نصوصه النثرية الشعرية التي تمثل تجربة ذهنية وحسية وخطابية جديدة، وكأنه يريد لمحتواه من النصوص والقطع الشاعرة بكاملها معادلاً موضوعياً أو تفسيرياً لهذا العنوان، معبرة عنه وعن تجربته الجديدة هذه، مكتفيا بالطبع بهذا العنوان ليكون شاملاً لكل محتوى الكتاب بدلالة أنه لم يتوقف عند عنونات فرعية لجزئيات ومحتويات الكتاب من نصوص.
وهذا في حد ذاته ما جعل الشاعر يبدو مثقلاً بقلق فلسفي غير هين، وكأنه إنما كان يكتب كل سطر ويسطر كل حالة وصورة وتركيب وهو يتذكر أو يضع في باله “أنه هكذا.. !!” وذلك القلق الفلسفي المجحف جداً رغم لذته وجدواه هو ما جعله يبدو حذراً حذراً شديداً، وهو يجسد ذاته ويطبع الواقع من حوله في ثنايا وطوايا هذه النصوص المشبعة بالإحالات والإشارات والدلالات التي تهز كيانه الرؤيوي وتجعله بالتالي يتساقط ثمراً شعرياً جنياً ناضجاً، ولكن بقدر محسوب ومحكوم بإرادة حذرة وتعقل أكثر حذراً، وهو يقدم نفسه كائناً رائياً وحكيماً مفلسفا لكل ما بداخله من أفكار ورؤى ثم لكل ما من حوله من متعلقات ذاته الشعرية:

 

“أشعر أنني بداخل حوصلة عصفور
لم تعد هناك جهات..
سأبيع قسطاً وافراً من الليل
وابتلع التعاويذ..
سأضع عيني في علبة “أنيقة”
كي لا أشغل نفسي بتحريك جفني
ستكون هناك فتحتان كبيرتان في وجهي
مثل أفلام الرعب،
لا يهم…
سأحشوهما بالقطن
أو سأرتدي نظارة شمسية تليق بشبح”

 

ابتداء من هذا المقطع الذي اختاره الشاعر ليكون تحيته الترحابية يميزه بوضعه في الغلاف الأخير للكتاب.. يبدو ما أشرنا إليه من القلق والحذر، ليس من لفظة “مثل” الدالة على المشابهة كما لفت انتباهي وسأتناوله في هذه الوقفة الاستطلاعية وحسب وإنما أيضا من المعاني والتركيبات اللفظية في عبارات هذا المقطع والدالة في مجملها على تناثر وتشظ وارتباك يجعل المتلقي يتخيل وكأن الشاعر كتبه وهو يقف مرتعشاً متعباً روحه منهكة، وابتداء من شعوره أيضا بضيق العالم من حوله وعدم مبالاته بالليل المعادل الموضوعي للراحة والنوم والاسترخاء ومروراً بابتلاعه للتعاويذ ولجوئه إليها كتقية نتيجة لخوفه، مضحياً بذاته أو غير مبال بها، عدا بعينيه فقط وهما أداتاه اللتان لا يمكن الاستغناء عنهما كشاعر بالطبع..هنا نلحظ أنه لم يتنازل عن هاتين الأداتين اللتين قد يسلبه افتقادهما تلك الشعرية الرؤيوية الناحتة التي يحفر كل الوجود من حوله من أجلها.
 

على هذا القياس يظهر الشاعر، وإن بتمظهرات أو أزياء أو حدود مختلفة، يظهر معتمراً قلقه وحذره الشديدين من تقديم نفسه بالشكل الذي افترضه وفرضه بعنونة هذا الكتاب تحت هذا العنوان وهذا المعنى!!
ولعل أهم ملامح ومظاهر الحذر الذي كان يفدوا أحيانا مكبحاً ومقيداً وداعياً للتروي، يظهر بجلاء في الصيغ الحذرة حقاً التي غلبت على النصوص أو صبغت نفسها تلقائياً على المظهر العام للكتاب، وأبرز تلك الصيغ أو أهمها على الإطلاق صيغة المشابهة والمماثلة التي تسيدت هذه التجربة وكادت أو تكاد تغطي كامل أجواء وآفاق واتجاهات هذه النصوص .. وأقول هنا المشابهة والمماثلة حتى لا أسند ذلك كليا للتشبيه المتعارف عليه كفن بلاغي له خواصه وحالاته وأركانه واشتراطاته.. أريد أن أكون بعيداً عن كل ذلك الضجيج الدرسي والأكاديمي الممل لئلا أقدم نفسي وما أقراه وأكتبه على مذبح مجاني واكتفي بالحديث عن المشابهة والمماثلة كحالة شعرية وشعورية حرة ومطلقة ومنفلتة من كل تلك الحدود والمحددات، التي قد تحولني كما فعلت وتفعل مع كثيرين غيري إلى بناء معماري يحزم أدواته وفي مقدمتها مطرقة تكسير ضخمة، يحزمها في صرة ويذهب باتجاه نص يفرغ فيه قدراته في الإتلاف والانتقام من المظاهر الزائدة وإن كانت ثيمات ومقابض جمال هذا المنتج أو ذاك !! أريد وأنا أقرأ نصاً أن أكون بعيداً جداً جداً عن القراءات والرؤى والملاحظات المدرسية، لأكسر القيود والضوابط والمتعارف عليه، وذلك لأطفئ ظمأي إلى القراءة الحرة بإرادة حرة من جانب ولاستطيع مجاراة ما أقرأه وأتلقاه من منتج جديد، بات يضيع بما يسمونه منهجيات ومحددات وضوابط، فليس الشعر والإبداع معنيين بمثل هذه الترهات التي إنهاكه وتفكيكه ليس بحاجة إليه، وإلا لما وجد أصلاً..!! ذلك الإنهاك والتفكيك برأي يذهب بالمنتج الإبداعي ويروغ به بعيداً جداً عن الحالة الحقيقية لمعناه والحالة الصدقية للشاعر والكاتب يهطل حيناً ويتفجر حينا وينزف أحايين كثيرة أخرى!!

 

* هكذا هو .. عبدالمجيد في هذه النصوص أو هذه الحالة الإبداعية الجديدة يبدو على قدر كبير من الحذر وهو يتعامل مع جزئيات وكليات دفقاته الشعرية والشعورية، بل ومع مظهرها الدلالي والفلسفي عموماً محاولاً معادلة كفتها مع كفة العنوان، ليس الذي يقف على بابها وحسب كمفتاح حديدي قديم، ورانما الذي يتحلل جزئيات متها المختلفة وصولاً إلى تفاصيل الصغيرة والأصغر..
 

ومن أبرز ما اصطادته قراءتي لهذا الكتاب، ومنذ النظرة الأولى أي منذ التصفح السريع له عندما وصل إلى يدي، ذلك التهرب الذكي للشاعر من مسؤولية التعبير المباشر عن الأنا الذي يجب أن ينسرب تحت عنوان كهذا ” هكذا أنا” وذلك عبر الاتكاء على أسلوب المشابهة والمماثلة الذي وجد فيه مهرباً مناسباً من التعبير عن ذاته بطريقة مباشرة، ليس خوفاً من أية محاسبة خارجية أو داخلية ، ولكن من كون ذلك قلقاً من عدم التمكن من وصف نفسه الوصف المستحق ليس في عين القارئ...

ومن أبرز ما اصطادته قراءتي لهذا الكتاب، ومنذ النظرة الأولى أي منذ التصفح السريع له عندما وصل إلى يدي، ذلك التهرب الذكي للشاعر من مسؤولية التعبير المباشر عن الأنا الذي يجب أن ينسرب تحت عنوان كهذا " هكذا أنا" وذلك عبر الاتكاء على أسلوب المشابهة والمماثلة الذي وجد فيه مهرباً مناسباً من التعبير عن ذاته بطريقة مباشرة، ليس خوفاً من أية محاسبة خارجية أو داخلية ، ولكن من كون ذلك قلقاً من عدم التمكن من وصف نفسه الوصف المستحق ليس في عين القارئ وحسب، وإنما أهم من ذلك في عينه وتقديره هو في البداية والأصل.. وذلك برأيي هو قلق فلسفي وجودي.. قلق كون وتكوين وبحث عن الذات في ركام الذات نفسها.. وهو بالطبع قلق أكثر ما يكون ويتجسد لدى النخب والمتميزين وفي مقدمتهم الإنسانيون من مبدعين وشعراء وكتاب وفلاسفة وفنانين، والذين يظلون منذ بدء الوعي المعرفي والذهني وحتى الرحيل وهم يعيشون ذلك الصراع، صراع التكوين ويغشاهم ذلك القلق، قلق الوجود الفكري المعنوي النخبوي، المبتكر، المغير والمتغير، وليس الوجود الحسي الجسدي باعتباره وجوداً مادياً مفرغ المحتوى من الوجود في معناه الجوهري.. 
 

 

ذلك القلق الوجودي الحذر من تقديم النفس أو الذات في الصورة التي ينبغي لها أو يجب أن تكون عليها، يظل المبدع والمنتج الذكي والفطن حريصاً على فتح آفاق واسعة للمتلقي وتخيلاته، وجعلها ممتدة إلى ما لا نهاية، بعيداً جداً عن الوقوع في مغبة أن يسجن نفسه بين حاصرتين ضيقتين مقفلتين كـ"حوصلة عصفور" لأنه حين يفعل ذلك إنما يحكم على نفسه ووجوده بافتراضات منتهية، وكأنه لم يعد قادراً على التغير والإضافة، أي مبارحة الذات في الحالة والمستوى الذي وصلت إليهما في مرحلة معنية عادة ما تكون الأخيرة، أو النقطة التي توصل إليها المبدع لحظة إنتاج جديدة وعرض كينونته الإبداعية الكتابية.. فحياة المبدع الحقيقي وكينونته ورؤاه تظل مفتوحة الآفاق ومهيأة للمتلقي لأن يذهب بها إلى ما يطيب لتلقيه من الرؤية والتقييم والتوصيف.. ذلك المبدع الكائن فعلاً هو من يستطيع فتح الآفاق باتساعاتها لمتلقيه، وحتى بعد أن يكون قد توقف عن العطاء والإنتاج وحتى أيضا بعد أن يكون قد رحل بزمن غير معين إن لم يكن بشكل أبدي.
 

وهكذا هو عبدالمجيد في هذه النصوص، أو لأكون أكثر دقة ومصداقية هكذا أراه وأنا أتصفح بالقراءة الشاعرة والمتلمسة لتفاصيل هذا العمل لشخصية شاعرها وهو ينتجها..
وعوداً إلى موضوع القلق الوجودي وتركيزاً على سمة المشابهة والمماثلة التي لفتت انتباهي بشدة في نصوص الكتاب، فقد بدا الكاتب في منتهى الذكاء وهو يتسلل عبر المشابهة والتمثيل والمقاربة القابلة لأكثر من احتمال، متجنباً بحذر التأكيدات المطلقة، وذلك برأيي تهرب بارع من أن يقدم نفسه في صورة حتمية نهائية أو يقدم تجربته مقفلة بحواصر وحدود معينة.. مستخدماً عنوانها الكلي "هكذا أنا" كمفتاح دال عليها.. وبقد ما أراد أن يقدم ذاته تحت هذا العنوان، هو في الحقيقة ظل في كل ثنايا وأجزاء الكتاب تقريباً حريصاً على ألا يدفع بنفسه وبمنتجه كفكرة معنية أو نتاج نهائي الصفة والقيمة والتقدير، فنجده ارتكز بشكل كبير على استخدام أساليب المشابهة وما يدل عليها كالأدوات أو الألفاظ مثل "كأن، كما، كأي، كما لو أن، مثل، يشبه، كمن"، بالإضافة إلى الكاف الملازمة لجهة التشبيه والتمثيل ومن ذلك: "كعبث، كسذاجة، كصديقي، كطفل، كملف، كاعتياد، كقطة، كبرد"، وهذه الصورة أو الصيغة في التشبيه والتمثيل هي الغالبة في المشابهات والمماثلات التي يزخر بها الكتاب، إذ تحتل ما يقارب 70% من 220 حالة مشابهة مباشرة حضرت في 115 صفحة من الصفحات التي توزعت عليها نصوص الكتاب والبالغة 167 صفحة، وهي في اعتقادي نسبة كبيرة، ما يؤكد صراحة ما أقف عليه وأتناوله في هذه القراءة من حذر وجودي انتاب وينتاب كاتبها من جهة، وما يعكس من جهة أخرى قدرات الكاتب المميزة على التحكم في اندفاعه واندفاقه الشعري، وهو ما يبدو بوضوح من خلال علاماته وملامحه الظاهرة لكل قارئ حصيف ومتابع للمنتج الإبداعي والشعري المعاصر في مذاهبه وتمظهراته الجديدة.

 

 

من هنا ندرك جيداً أن التركي، ومثله كل مبدع حقيقي، يأبى أن يتعرض هو وإنتاجه للأحكام السريعة المؤكدة والتوصيفات الجاهزة والمقولبة كقدر نهائي ملزم لأن ذلك في تقديري وتقدير الكثير من الكتاب والنقاد وقبلهم المبدعين يشبه إلى حد كبير الحكم بالإعدام على التجربة الإبداعية.
 

لقد ظل الكاتب هنا يراوح بين المماثلة والمقاربة في رؤيته للواقع من حوله من جهة وفي تقديم نفسه لقارئه من جهة أخرى وذلك عبر قدر كبير من الحذر الذكي معتمداً على هذه الصيغ، التي وجدت، وأنا أتقصَّاها في محتوى الكتاب، أنها في معظمها تعود للتعبير عن الذات وعرضها كحالة شعرية شعورية وفلسفية وإنسانية ووجودية، ترتبط بكل ما هو حولها من مفردات الوجود وعناصره، بما في ذلك الآخر الذي يحتل من جانبه مساحة كبيرة من مساحات الخطاب الذي توجه إليه حاضراً وغائباً: "كأنك، كأنه، كأنهم، كأنها،..."، في الكثير من تفاصيل الحالة أو الحالات الشعرية التي تتدفق من ثنايا هذا الكتاب، أو فلنقل هذا النص المتفرع إلى حالات ونصوص فرعية، لا يمكن بأي حال التفريق بينها أو إثبات استقلالية أي منها.. خصوصاً وأن الكتاب كما أشرنا ورد تحت عنونة واحدة حملها غلافه "هكذا أنا" فبدا محتوى الكتاب وكأنه نص واحد، ليس اعتماداً على هذه العنونة فحسب وإنما على يقين كبير أوجدته القراءة المتأملة بأن هذا المحتوى في مجمله هو حالة شعرية واحدة، حتى وإن وردت موزعة على نصوص أو أجزاء أو عنونات فرعية.
 

وتأكيداً على فكرة الذات والبحث عنها من ناحية، والتهرب الذي يتقنه الكاتب ليتحاشى تقييد نفسه في رؤية معينة خلال كتابه / نصه هذا معتمداً على المشابهة والمماثلة والمقاربة وددنا أن نعرض للقارئ هذا الجزء أو النص الوارد في الصفحتين 45، 46:
"كجندي يحدث نفسه بالخروج من حقل ألغام
ويتوسل بآلهة لم يتصل بهم من قبل
كإمام يصلي بالفراغ، رغم خشوعه الذي يكاد يقتله..
كسمكة تلفظ آخر أنفاسها
وتتوسل الصياد أن يخرج السنارة من فمها
كي تقول أمنيتها الأخيرة..
كعجوز يعرف أن أسنانه لا تصلح أن تكون كسارة جوز،
كأسد فقد مخالبه فاضطُر إلى ارتداء جوارب، 
كحمار نسي أن يتصنع الموسيقى وهو يتحدث،
كحلم مليء بالجثث وخيالات جرحى الألغام
الذي يحملون أشلاءهم..
أشعر أنني ثقيل كسائق أبكم..
ثقيل كسيجار كوبي في يد مدخن مبتدئ
ثقيل كواجب مدرسي
كماء مليء بالطحالب
كحوت عملاق لا يتسع له حوض زجاجي
كشبح يتحدث عن ضرورة الريجيم
كمن يحتفظ بجمجمة طمعاً في أسنانها الذهبية
كمن يهدي زلاجة لرجل معاق
كعبث السؤال عن الأمنية الأخيرة لرجل محكوم عليه بالإعدام
كسذاجة هذا الرجل حين تكون أمنيته الأخيرة تدخين 
سيجارتين على نفس واحد
كأنا حين أكتب هذه الكلمات الآن"..
وكأن الشاعر التركي هنا يريد أن يقول صراحة وإجمالاً: كأنا حين أقول لكم هكذا أنا!!

 

 

وهنا أتوقف لأقول متأكداً إن عبدالمجيد التركي في كتابه هذا وصل بنا وبكل هذه "الكأنات" والمماثلات والمشابهات والمقاربات، إلى أبعد مما قد يخطر في بال قارئ عابر، أو ناقد قد يتوقف مقطباً حاجبيه عند هذه الصيغ "الكأنية" المحتشدة، في هذه الحالة الشعرية، مدعياً أنها لا تروقه، أو يفرد عليها عضلاته وأدواته ومطارقه النقدية.. غير مدرك أنها أبعد مما يخطر في باله بكثير جداً.. فهي تقدم تجربة جديدة لهذا الشاعر وللقصيدة، تجربة انتظمها قلق فلسفي وجودي كما هو الحال عند كل مبدع حقيقي لا يرضى لنفسه الأحكام المطلقة والتوصيفات المقفلة والنهايات بأقواس وحواصر وأبعاد تحدُّ من وجوده، مما هو عليه ومما يمكن أن يكون عليه في اللحظة التالية لكتابة كل مقطع وجزء ونص من منتجه الإبداعي الذي سيشهد الكثير من ملامح التجديد والابتكار اعتماداً على ما جاء في هذا الكتاب الذي يفتح بين التركي والمتلقي المزيد من الآفاق والرؤى والاحتمالات المفتوحة للانعتاق من كل منتج وزمنه ونسيانه والانشغال بما يمكن أن يأتي بعده.. وهكذا دائماً هم المبدعون مشغولون باجتراح دروبهم وابتكار الجديد والمتجدد.

 

منقولة من صحيفة الثورة...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً