الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
حكاية الرواية الأولى
“قوارب جبلية”.. والأقدار المتقاطعة مع غونتر غراس - وجدي الأهدل
الساعة 10:43 (الرأي برس - أدب وثقافة)


أشعلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 شرارة العداء بين العالم الإسلامي والغرب. فجأة تلوث الجو بالضغينة في الولايات المتحدة وأوروبا ضد المسلمين. لذلك تداعى المثقفون من كلا الضفتين إلى عقد مؤتمرات توضح الحقائق، وتبدد الأوهام التي ساهم الإعلام في صناعتها عن الإسلام، كديانة تحضّ على العنف والدمار.
 

واحد من هذه المؤتمرات عقد في صنعاء أواخر عام 2002، بترتيب من مركز الدراسات والبحوث الذي يرأسه الشاعر اليمني الكبير د. عبدالعزيز المقالح، وأطلق على المؤتمر مسمّى “في البدء كان الحوار” الذي استمرّ لمدة ثمانية أيام متصلة.
الروائيّ الألماني “غونتر غراس” (1927 – 2015)؛ الحائز على جائزة نوبل سنة 1999م، أيّد بشدة فكرة الحوار بين الأدباء العرب ونظرائهم الأوروبيين الناطقين باللغة الألمانية، ولذا فقد لبّى الدعوة للحضور من دون تردّد، وحلّ ضيفاً على اليمن وبصحبته ثلاثون كاتباً وكاتبة، من ألمانيا والنمسا وسويسرا، بالإضافة إلى صحفيين يمثّلون وسائل الإعلام من تلك الدول. ومن الجانب العربي حضر المؤتمر عدد موازٍ من الأدباء العرب، وفي مقدّمتهم الشاعر أدونيس والشاعر محمود درويش.
وشاء القدر أن توضع أطروحات المؤتمر حول الحرية والرقابة على نار الاختبار، ومبادئ المتحاورين عن التسامح على المحك.. وذلك عندما استقبل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح الجميع في قصره، وأراد أن يمنح “غونتر غراس” وسام الاستحقاق، فامتنع الأخير عن قبول الوسام حتى يُلبّى مطلبه.. سأله المترجم عن مطلبه، فقال إنّه يطالب بإسقاط القضية المرفوعة من الدولة ضدّ الكاتب اليمنيّ وجدي الأهدل، والسماح له بالعودة إلى بلاده، وضمان حمايته من أية ملاحقات قضائية بسبب روايته “قوارب جبلية”. فجأة تكهرب الجو الودّيّ، وتوتّرت الأعصاب، نتيجة لتمسّك كلّ طرف بموقفه..

 

حاول “البعض” ثني “غونتر غراس” عن طلبه، ولكنه لم يتزحزح أو يلن، وقال لهم: “لو كنت محامياً وأتقن العربية لدافعت عن هذا الروائيّ من دون شكّ”.
طلب الرئيس السابق علي عبدالله صالح منحه مهلة من الوقت للتشاور، ثم خرج تاركاً الجميع في حالة من الاضطراب.. وبعد عشر دقائق عاد وأعلن موافقته على عودة الكاتب إلى بلاده مع ضمان حمايته من أية ملاحقات قضائية. وهكذا مرت العاصفة بسلام، وقَبِلَ “غونتر غراس” الوسام الرفيع الذي منح له. رغم الغموض الذي أحاط بالدقائق العشر التي قضاها الرئيس السابق علي عبدالله صالح بعيداً عن ضيوفه للتشاور، فإنّ الألمان اعتبروا هذا التصرّف دليلاً على حنكة الرئيس وحكمته.

 

في عام 2004 تمّ تنظيم الجولة الثانية من الحوار العربيّ – الألمانيّ، تحت مسمّى “وليستمرّ الحوار”. والتقيتُ للمرّة الأولى وجهاً لوجه بالروائي “غونتر غراس” الذي أنقذ حياتي من الضياع والتشرّد في المنافي. بعد انتهاء الجلسة الافتتاحية، كان “غونتر غراس” يتمشّى في القاعة لترييض قدميه وهو يدخّن الغليون متجهّماً. دنوتُ منه وبرفقتي الشاعر اليمنيّ أحمد ضيف الله العواضي الذي يتحدّث الإنجليزية بطلاقة. عندما عرّفته بنفسي احتضنني بحرارة صادقة كصديق قديم، وبدا عليه السرور والمرح وكأنّ روحه خرجت من قفص، وتبادلت معه حواراً قصيراً:
–    شكراً لك أيها العظيم على ما قدّمته من أجلي.
–    “ضحك” أنا حينما أذهب إلى أيّ مكان في العالم أهتمّ دائماً بالدفاع عن الناس المظلومين، لذا كان من الطبيعيّ أن أهتمّ بالدفاع عنك، لقد أراد الرئيس أن يقلّدني وساماً، ولكنّني فاجأته ورفضتُ قبول الوسام حتّى يأذن بعودتك ويضمن حمايتك.
–    الموقف الملتزم بقضية الحرية الذي اتّخذته من أجل الكفّ عن ملاحقتي وضمان عودتي إلى بلدي آمناً علّمني درساً مهماً.
–    لا تنعزل عن الاهتمام بقضايا الناس.. أتمنّى أن تنشط في هذا الجانب.
–    نعم.
–    أنا حينما كنت في مثل سنك، أي في الثلاثينيات، أصبحتُ أديباً مشهوراً، ولكنني شعرتُ بالضجر والملل من الشهرة، ولم تفدني من ناحية الكتابة، ولم تساعدني على مزيد من الإبداع، ولكنني سخّرتُ الشهرة لمساندة المضطهدين أينما وجدوا.

 

ربما لاحظ الروائي “غونتر غراس” بعينه الثاقبة وخبرته العريضة في خبايا النفوس البشرية أن قدراً من الغرور قد داخل الأديب الشاب الغر الذي يقف أمامه. كان الرجل بحكمته الراسخة ومن خلال تجربته الشخصية العميقة يحاول إرشاد شاب من دول العالم الثالث يحاول كتابة الأدب إلى الطريق الصحيح الذي ينبغي على المبدع الصادق المخلص للمبادئ الأخلاقية السامية أن يسلكه.
تابع قائلاً:
–    لا أريدك أن تعتقد أنّ الشهرة ستفيدك في التألق على مستوى الكتابة، بل هي ستحاصرك وتقيدك، وكل ما هنالك أن عليك استغلال هذه الشهرة في خدمة المغلوبين على أمرهم.
–    رسالتك وصلت، سوف أُسخّرُ قلمي للكتابة عن الضعفاء والمظلومين.
–    ابتسم “غونتر غراس” راضياً. ثم غيّر فجأة اتجاه الحوار وسألني:
–    كيف هي أوضاعك الآن؟
–    وضعي جيد، ليست هناك أية مضايقات تذكر.
–    أين تقيم؟
–    أنا مقيم في صنعاء.
–    هل أنت تعمل؟
–    أعمل موظفاً في دار الكتب.

 

وامتدّ الحوار إلى أن تمّت دعوتنا عبر الميكروفون للعودة إلى أماكننا لاستئناف الجلسات، أردتُ أن أشكره مرة أخرى قبل أن نفترق فقلت: “شكراً لك أيها الكاتب الشجاع”. قال بتواضع: “أنا لست شجاعاً.. وما قمت به هو واجبي”. وذهب وهو يلوح لنا بيده.
 

في اللقاء الذي جمع “غونتر غراس” بالرئيس اليمني حينها، قال الأخير إن مؤلف رواية “قوارب جبلية” مطلوب للمحاكمة لأنه كتب أموراً تنتهك العادات والتقاليد. قيل إنّ “غونتر غراس” غضب وقال للرئيس إنّ هذا الكلام يؤذيه شخصياً، لأنّه سبق واتهم بهذه التهمة الظالمة قبل حوالي خمسين عاماً في ألمانيا، وتعرّض للمحاكمة والتحقيق معه.
 

في المرتين اللتين حضر فيهما “غونتر غراس” إلى صنعاء، لمحاورة أنداده من الأدباء العرب، ظل يؤكّد على أن مهمة الأديب في الحياة العامة هي أن يقول الحقيقة، مهما كان الثمن غالياً والخطر عالياً. وقال “إن الأدب مهنة شديدة الخطورة، وعلى من لا يستطيع قول كلمة الحقّ أن يختار مهنة أخرى، فليعمل حلاقاً مثلاً”!
 

ونعلم اليوم أن “غونتر غراس” هو واحد من قلة من كبار كتاب الغرب الذين أدانوا إسرائيل علناً في مناسبات عديدة. ولقد تجرّأ على قول الحق، غير هياب من سطوة الإعلام الموالي لإسرائيل، ونشر في عام 2012 قصيدته الشهيرة “ما ينبغي أن يقال” التي قال فيها إنّ إسرائيل تمثّل تهديداً للسلام العالمي، فجلبت عليه هجوماً شرساً من المسؤولين الإسرائيليين والموالين لهم في الولايات المتحدة وأوروبا. وهم الذين انقضوا عليه، مطالبين بسحب جائزة نوبل منه، عندما اعترف في مذكراته بأنه كان في شبابه الغض جندياً في الوحدة الوقائية المكلفة بحماية هتلر “s.s”.
 

في حضرته لم أشعر مطلقاً بذاك الشعور الذي ينتاب المغمورين في حضرة المشاهير، ولم أحسّ للحظة بأنّني أدنى منه، أو أنه توجد فوارق بيننا – مع أن هذه الفوارق فلكية في واقع الحال- ولقد أذاب بلطفه وطيبته غير المفتعلة الفوارق جميعها، واستأنست نفسي بحديثه الصريح التلقائي، حيث يقول مباشرة ما يجول بخاطره غير مبالٍ بأية حسابات سخيفة تتعلق بمكانته أو بمكانة الآخر. إنه ببساطة وعفوية يُلغي الحواجز، حواجز السن واللغة والثقافة والتراتبية الأدبية – إذا جاز التعبير – ويغمرك بمشاعره الدافئة، ويأخذ راحته في الضحك والمزاح دون تحفظ.. إنه إنسان لم تنجح الحضارة المعاصرة في تحويله إلى آلة باردة المشاعر.
 

اليوم وبعد مرور سنوات طويلة على صدور روايتي الأولى “قوارب جبلية” أدرك أنني تجاوزتها فنياً، ولكنّني مدين لها بالحدث الأدبيّ الأهم في حياتي، ألا وهو أن يتقاطع قدري مع قدر واحد من أعظم كتاب الرواية في عصرنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

• وجدي الأهدل: روائيّ يمنيّ.

منقولة من الرواية نت ..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً