- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
- اعتبروه أحد أفضل الأطباء.. يمنيون يشيدون بالدكتور المصري هشام إبراهيم (تفاصيل)
- عقوبات أمريكية على شركة سورية تموّل الحوثيين من إيرادات بيع النفط الإيراني
- دورات طائفية باشراف إيران للوكلاء الحوثيون الجدد!
- محلات عبدالغني علي الحروي تعزز تواجدها في السوق العالمي بالتعاون مع شركة هاير
- الحوثيون في إب يسجلون في مدارسهم طفل الصحفي القادري المخفي لديهم بإسم غير إسم أبوه
- علي سالم الصيفي ودورة في تمويل داخلية الحوثيين و الاستحواذ على 200 مليار ريال سنوياً
- إتحاد الإعلاميين اليمنيين يدين توعد قيادي حوثي بتصفية الصحفي فتحي بن لزرق
- بيان ترحيب من منصة (p.t.o.c) بفرض عقوبات امريكية على قيادات حوثية متورطة في جرائم منظمة وتهريب الاسلحة
- منصة تعقب الجرائم المنظمة وغسل الأموال في اليمن (P.T.O.C) تصدر تقريرها الجديد «الكيانات المالية السرية للحوثيين»
- إسرائيل تدعو السفن التجارية المتجهة لميناء الحديدة بتحويل مسارها نحو ميناء عدن
أختار أن أبعثر نفسي في خطواتي التائهة لأكون إحدى صور المفقودين على جدران الوطن.
عن ذاكرة اختفت خلف دقات الساعة. تحاول خلايا مخّه أن تجدها، يرى وجهه في المرآة، وتزداد في عينيه حيرة الغريب لإحساسه المستعار من معاني الأشياء التي تحيط به، ولكنه يحاول أن يمسك ظلالاً من الوقت الهارب، تخترق العقارب جمجمته، ربما تنجح في استعادة ما توارى في مكان ما من تلافيف مخّه، أو تستطيع التقاط آخر معركة اجتازها! وعبثاً يحاول أن يلتحم مع جسده، كل شيء فارغ من محتواه كما رأسه، عصب البصر يلتقط الصورة الوحيدة على الجدار، الصورة التي تثبت أنه كان هنا من زمن مضى اعترف بوجوده.
تهتز الصورة أمامه، في تجربة للبوح عن تاريخ سمعه ممن حوله، هو ذاك عندما توقف الزمن ثانية في هذه اللحظة من الالتقاط الخالد للصورة.
تدخل عليه المرأة البالغة من العمر خمسين عاماً، تحمل في يدها كوبا من الحليب، وتقول: كيف أنت هذا الصباح يا ولدي، أما زلت تنظر للصورة ككل يوم؟
- أحاول أن أتذكر كيف ومتى؟
- لا تقلق يا ولدي ستتذكر كل شيء، الآن اشرب هذا الحليب.
- قلت لي إنك أمي! وأنا خالد. هل أستطيع أن أشاهد شيئا من تلك المسيرات والمظاهرات التي قلت إنني كنت فيها دائما، من أول يوم خرجنا فيه؟
- سيعود لك الألم والصداع ولن تكمل مشاهدتها كما هو في كل مرة!
- سأحاول التركيز هذه المرة على ذاكرة من سجل الإعلام.
كان يجمع قواه وأمله في التذكر، والمشاهد تتوالى أمام عينيه.. وكلما ينتهي مشهد سرد لتلك الأحداث ينتقل إلى آخر، منذ بداية المسيرات والاعتصامات، والقنوات تعرض تلك الأحداث، الأصوات التي ترتفع بقوة، وتطالب النظام بالرحيل، كل تلك الأجساد المحتشدة بقوة، والأيدي المتشابكة لأداء هتاف واحد.
الشباب المحاصرون بالغازات ومسيلات الدموع، المصفحات التي تصد مسيراتهم وترش عليهم الماء الساخن لتفرّق جموعهم.
بدأت خلايا مخه تهتز قليلا، ترسم الأحداث بخطوط غير واضحة، تتوالى المشاهد، ويأتي يوم جمعة الكرامة، يتصاعد الدخان من خلف ذاك السور في الساحة.. يرى الجمعة تحترق، والحشود تتجه نحو الدخان الكثيف الذي بدأ يحجب الرؤية، بدأ صوت الرصاص يشق عباب الدخان ليحصد من كان حوله، من أعالي المنازل المحيطة بهم في الساحة أشخاص ملثّمون، يحجبهم الدخان، يصوبون بنادقهم، نحو الشباب، اخترقت رصاصة رأس أحدهم، يصيح بهستيريا، تحتضنه أمه، فينتحب بين يديها آآآآآآآآآآآآآه.
- لا تحزن يا ولدي إنه القضاء والقدر. سيأتي يوم تتذكر فيه. رغم أني لا أريدك أن تتذكر مما حدث شيئا.
- ما هذا يا أمي؟ وما الذي حدث؟
- لا بأس المهم أنك بين أحضاني بخير.
يدخل غرفته بخطوات يحسب آثارها الماضية على السجاد، هل كانت هذه غرفته؟ لا يحس بزمن ما في هذا المكان، هناك مكان آخر يراود ذاكرته الممسوحة. تمدّد على السرير بغربة رأسه المعتمة، ما معنى أن يحيا الإنسان مرتين؟ مرة واحدة يستيقظ فيها ليجد أنه كان يحيا دورا ماضيا. هل هو العذاب، هل كنت وسط تلك الجموع حقا! أين هم الآن، هل أذهب لأبحث عنهم؟ نعم، قد أجدني هناك إن وجدتهم.
يقوم باكرا قبل أن ينهض أحد، يرتدي ملابسه، يتجه إلى الباب وهو يستذكر اسم الساحة التي رآها تلتهب بتلك الأحداث، يقطع الشارع يسأل عن مكان الحافلات التي يمكن أن تأخذه للساحة المطلوبة، يصعد برأس فارغ، الشوارع مزدحمة، لافتات عديدة منتشرة مكتوب عليها.. بالحوار الوطني نبني مستقبل اليمن.. وعلى جدران أحد الشوارع مرسومة صور المخفيين وأسماءهم، وسنة اختفاء كل واحد منهم. لا يدري لماذا فكر أن يجد صورته على الجدار مثلهم، هو مفقود الآن عن نفسه، ولم يجدها بعد.
تقطع الحافلة شارعا آخر، تقف دقائق جديدة أمام جدار أيضا، ما بال هذه الجدران توثّق التاريخ الجديد؟ أعجزت الكتب عن توثيقه، أم أن الناس سينسونه كما نسوا تاريخ من أريقت دماؤهم من قبل، هو الجدار يرثي ببؤس رسوما لضحايا، بعنوان» ضحايا حادث العرضي» رسوم لشخصيات كانت تعمل في مستشفى العرضي أطباء وممرضين وجنودا.
كل ما يراه الآن يحتاج إلى تفسير، تسير سيارة مُعلّقة وراءها صورة شهيد، «وباص» صغير قد ألصقت على أحد جوانبه صورة شهيد آخر، والعديد من صور الشهداء متفرقة على الجدران وعلى أعمدة الكهرباء. يتوه بين الشوارع وبين صور الشهداء والضحايا والمخفيين، ويصطدم بجسر ما يزال العمال يبنونه، مكتوب على لافتة كبيرة بجانبه» جسر الشهيدين……و…….» وفي الميدان الفسيح الذي شهد حصار السبعين يوما لأجل الجمهورية، تعرض على الجدار المقابل للمنصة صور شهداء مجزرة السبعين، وقد نُصّب أمامهم تذكار لتكريمهم.
- ما لهؤلاء الشهداء في كل شارع ومكان، شهداء ماذا؟
- ألست من اليمن، ألا تدري؟
- بلى.. ولكني فقدت ذاكرتي.
- (مستغربا) آها وكيف فقدتها؟
- يقولون إني تعرضت لحادث أثناء المظاهرات الشعبية.
- ألا تتذكر شيئا وأنت كنت بينهم؟ هؤلاء الذين تسأل عنهم؟
- لا أتذكر.
- سبحان الله، هؤلاء كلهم ضحايا الثورة قبل ثلاث سنوات، وبعدها من أحداث متوالية من اغتيال وإرهاب وتصفية.
- وأنا أحد ضحاياها أيضا، ولكني الآن موجود وزمن آخر يعيد تكويني.
- هو الأفضل لك، حتى لا تتحسر على ثورتكم التي أشعلتموها.
- ألست ثائرا مثل باقي الشعب.
- لا.. كنت أراقب فقط.
وصلت الحافلة للساحة المطلوبة، التي كانت تضمُّ الثائرين، نزل ليسير بين شوارعها التي كانت ما تزال تحوي قليلا من تلك الخيام، أحس بغصة في حلقه، فهبّت رائحة المكان في أوردة دماغه، بدأ يشعر بصداع غريب، استمر في السير، ملصقات وشعارات أكثرها خضراء، تحمل كلمات» الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل».
وقف يحدق فيها، ويسأل نفسه. هل كانت الثورة ضد أمريكا وإسرائيل؟ أم أنها كانت ضد النظام الفاسد؟
وصل إلى المنصة فازداد الصداع، وصور قديمة تتزاحم في رأسه أصوات الميكرفونات، والأناشيد تطرق بقوة، الأيدي المتشابكة، الهتافات العديدة التي لم يميز منها شيئا، تمالك جسده حين شعر أنه سيقع، أغمض عينيه، حاول أن يركز أكثر في التفاصيل، واصل السير، يحسّ بيد تمسك به وأناس يسيرون معه، نحو ذلك الجدار، كان يراه والدخان يتصاعد منه بكثافة، صراخ الشباب، هرولتهم نحو الدخان، وصوت الرصاص المنهمر من أعلى البنايات، أولئك الذين يتساقطون بجانبه، محاولتهم للصعود لتلك البنايات المحيطة بهم لمعرفة من يطلق الرصاص بتلك الوحشية على رؤوسهم صدورهم، من أيدي قناصة ماهرين، لم يحسّ إلا بجسده يهوي من فوق البناية التي صعد إليها، وتلك الأيدي التي تحمّله وأصوات تغيب عن وعيه. بدأت الدموع تنهمر من عينيه وهو يرى الآثار المتبقية، جثا على ركبتيه أمام النّصب الذي شيّد مكان الجدار رافعا رأسه نحو صور الشهداء عليه، يقرأ أسماءهم، وحين رأى صورته بينهم تجمدت عروقه.
لكنه الآن يرى حشدا آخر يضم أسر هؤلاء الشهداء، يهتفون بحقوقهم التي وعدت بها الحكومة الجديدة، والأخذ بثأرهم من القتلة، يرى والدته بينهم، وهي تحمل صورته، باكية في حرقة، يحاول أن يصل إليها، أن يخبرها أنه هنا، في وطنه وبين أصدقائه.
يحاول أن يصرخ، ولكن لا جدوى، فقد استشهد الوطن هو أيضا.
وخلف تلك الدموع والصور. كان يصرخ فقط قائلا «أمي ارفعوا صورة هذا الوطن الشهيد»
منقولة من مجلة الجديد...
لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا
لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا
- نصوص
- اخبار أدبية
- آراء وأفكار
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر