الجمعة 29 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
المكيال السحري - وجدي الأهدل
الساعة 11:10 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


ذاع صيت (زُهرة) كقابلة ماهرة في توليد النساء المتعسرات الولادة. زُهرة أنجبت ستة عشر طفلاً، عاش منهم تسعة، تتمتع بصحة جيدة وهي على مشارف الخمسين، قصيرة القامة، قوية البنية وصلبة الشكيمة.

 

أكثر من مائة طفل من مختلف قرى الجبل ولدوا على يديها. كان القرويون يتحدثون عن سر إلهي لطيف في كفيها. النساء في كل القرى المحيطة كن يقدرنها ويتجنبن الدخول في مماحكات معها، لأنهن يدركن احتياجهن إلى خدماتها إن عاجلاً أو آجلاً. وحتى زوجة العامل "حاكم المنطقة" كانت تتودد إليها بالهدايا لأنها ولدتها ثلاث مرات، ومواليدها الثلاثة خرجوا أصحاء. في ليلة ماطرة باردة طرق شاب في السابعة والعشرين بابها وتوسل إليها راجياً أن تأتي معه لتولّد امرأته. كانت قد غفت لتوها مستمتعة بالدفء تحت لحافين من الصوف وتشعر بأنها أسعد امرأة في العالم. وفي الحلم الذي لم تهنأ بإكماله رأت نفسها تخطب في حشود عظيمة من البشر، نساء ورجال من مختلف الأعمار، ثم أشارت إلى قصر من طابقين، فاندفع طوفان من الناس واقتحموا المبنى المترامي الأطراف، ثم فجأة وقع شيء غامض.. الذين دخلوا المبنى اختفوا وكأنما تبخروا، فانقطع تدفق المحتجين وتراجعوا للخلف محافظين على مسافة آمنة بينهم وبين المبنى الذي بدأ يثير مخاوفهم. زُهرة التي صارت ـ ويا لغرابة الأمر حتى ولو كان حلماً ـ قائدة سياسية تقدمت إلى المبنى ترافقها جماعة صغيرة من الأتباع المخلصين، ركلت الباب ودخلت، واستغربت الصمت الذي يُنمّل الآذان، وخلو المكان من أي أثر للآلاف التي وصلت إلى هنا قبل دقائق.. فتشت ممرات المبنى وغرفه ولم تعثر على أحد، صعدت إلى السطح فوجدته خالياً، كان أتباعها ينتظرون منها أن تفعل شيئاً ما فأصدرت أمراً بهدم القصر كله كوسيلة أخيرة لمعرفة مكان المختفين.. ما إن خلعت باباً وألقته خارجاً حتى سمعت صوت خطوات صاعدة على الدرج، انتظرت هي وزمرتها الصغيرة بتوتر وصول القادم، وكانوا على استعداد للاشتباك والدفاع عن أنفسهم.. وفي هذه اللحظة الحرجة أفاقت زُهرة من نومها على الطرقات اللجوجة لذلك الشاب. تمنعت زُهرة وادعت أنها مريضة، كانت تشعر بالكسل وبرغبة في معاودة النوم، ولكن الشاب قطع عليها كل عذر عندما انحنى وقبّل يدها متضرعاً وهو على وشك البكاء. لان قلب زُهرة وسألته أين قريته، فذكر لها قرية بعيدة. أرادت أن تتراجع ولكنه حاصرها بنظراته التي فيها من الرجاء ما يجعل حتى وحوش البرية ترق له. لبست زُهرة ثياباً ثقيلة وتغطت بلحاف صوفي ليقيها من المطر، ثم خرجت تتبع لاهثة خطوات الشاب العجولة. وسرعان ما ابتل لحافها الصوفي وأخذ الماء يقطر منه، وتغلغل البرد في عظامها وأخذت تنتفض، وأنفاسها الخارجة من فمها كانت تتكثف وتصير بخاراً. عبرا العديد من مجاري السيول حافيين، كانت برودة الماء توصل الرعشة إلى عمودها الفقري. توقف الشاب أمام بيت من طابقين، وفتح الباب ودعاها للدخول. كان باب بيته يشبه باب القصر الذي رأته في الحلم.. استغربت كيف يمكن أن يكونا قد قطعا الطريق إلى قريته بهذه السرعة! ولكنها ألغت كل تساؤل ألح على عقلها وفكرت فقط في الاحتماء من المطر الغزير والحصول على دفء تحت أي سقف. فوراً استقبلتها تأوهات المرأة التي تعاني من آلام المخاض. رمت لحافها جانباً وشمّرت عن ساعديها. كانت الحجرة مضاءة بأربعة فوانيس معلقة بخطاطيف في الأركان، وفي الوسط موقد فيه جمر يشع منه دفء لطيف. بجوار الموقد كانت تجلس طفلة قدرت عمرها بثلاث سنوات، ولها فم عريض يمتد من الأذن إلى الأذن. اقتربت من المرأة وقعدت بين رجليها، بدت لها المرأة آية في الجمال وصبية لا تتجاوز السبعة عشر ربيعاً. لاشيء في ملامحها ينبئ بأصلها، ولكن زُهرة أدركت من ملمس جلدها الأملس الفائق النعومة أنها جنية، كانت أصابعها تغوص في فخذيها كأنهما عجينة رخوة ـ كانت قد سمعت من جداتها أن أجسام الجن تخلو من العظام ـ ولاحظت علو السقف وغرابة الأثاث فأيقنت أنها قد دخلت بلاد الجن برجليها. أحست بخوف غريزي يرج دمها، ولكنها تمالكت نفسها وتظاهرت باللامبالاة وانكبت على توليد الجنية بهمة عالية. كانت الجنية قد أتتها طلقات الولادة منذ يومين وما إن دخلت يومها الثالث حتى كانت في حالة إعياء تام وعلى حافة الموت هي وجنينها. أحضر الجني الشاب ما طلبته زُهرة، ثم انشغل بالسجود لصنم طوله ذراعان ونصف على هيئة الوعل، وراح يُقبل حوافره متضرعاً إليه بدعاء حار أن ينجي زوجته والذي في بطنها من الهلاك وأن ينطح ملاك الموت بقرنيه ويرده على عقبيه خائباً تأكله الحسرة. ومع بزوغ تباشير الفجر برز رأس الجنين فأمسكته زُهرة وسحبته برفق حتى انطرح بين يديها وهو يعوي بصوت بين البكاء وزمزمة النار، ثم قطعت حبله السري وغسلته بالماء الحار. كان ذكراً له عضو ذكورة بطول قدميه، وفم يمتد رأسياً كالهلال ويميل قليلاً جهة اليمين، وأنف يتوسط الوجه يرسل سناه كنجمة. لفته في قماط أخضر وناولته للزوج الذي أخذ يناغيه ويناديه باسم (ورقة) وهو يكاد يطير من الفرح. قامت زُهرة بدهن بطن الجنية بزيت الترتر "الخردل" الحار والضغط عليه للأسفل، وبعد عناء اندفعت المشيمة خارجاً، فانتهت أخيراً معاناة الجنية التي كفت عن الأنين وأزهر ورد الحياة في خديها من جديد. لمّت زُهرة الأوساخ في قدر فخاري وطلبت من الزوج دفنها، ثم رفعت الفراش الملوث واستبدلته بفراش جديد، وبيد خبيرة نظفت الجنية من الدم وأمرتها أن تقوم بإرضاع (ورقة) ليكف عن صرخاته الغريبة.

تلكأ الزوج في ترك المولود في أحضان أمه، فصاحت فيه زُهرة وطلبت منه أن يفعل، انصاع الجني للأمر ثم خرج. وعلى استحياء أخرجت الجنية نهدها من فتحة قميصها فتدلى ملامساً الأرض، ثم ألقمته صغيرها. بدا الذهول على وجه زُهرة وتساءلت إن كان نهدها الآخر بنفس الطول. مصّ (ورقة) الحلمة ذات اللون الذهبي حتى ارتوى وأغفى، فوضعته أمه جانباً وطلبت من زُهرة أن تساعدها على تبديل ملابسها، أخرجت زُهرة من سحارة خضراء شفافة كأنها زمردة قميصاً برتقالياً موشى بنقوش جميلة، ولما تعرت الجنية رأتها ترجع ثدييها الطويلين إلى الخلف فإذا هما يمتدان نزولاً على ظهرها. تأهبت للخروج وأخذت لحافها فوجدته جافاً! قدم لها الجني مكيالاً ممتلئاً حتى حافته بالبر الأبيض الغالي الثمن، وقال لها إنه مكيال مسحور إذا أخذت منه النصف أو أكثر قليلاً فإنه في الغد سيعود ممتلئاً كما كان، وهكذا يمكنها أن تأخذ منه كل يوم إلى ما شاء الله، وحذرها من أن تُفرغ المكيال من البر، لأنه إذا فرغ تبطل قوته السحرية ولا يعود يمتلئ مرة أخرى. شكرته على الهدية، وفتحت الباب لتنصرف، ودّعاها وهما يتمنيان لها العمر الطويل. عندما خرجت وأغلقت الباب خلفها وجدت نفسها واقفة عند حيد صخري لا يقدر أحد على تسلقه وليس فيه أثر لبيت أو كائن حي. كانت الشمس قد أشرقت والغيوم السوداء تركب حميراً بيضاء وتعد العدة للرحيل، نظرت حواليها فإذا هي على مسافة قريبة من قريتها. حكت للناس في كل مكان وطئته قدماها قصة استدعائها إلى بلاد الجن لتولد جنية تعسرت ولادتها، ولكنها لم تخبرهم أبداً عن المكيال السحري الذي حصلت عليه كمكافأة من الجني. في كل صباح كانت تخرج المكيال السحري من تحت سريرها فتجده يفيض براً. وفي أوقات خاصة، عندما كانت تخلو بنفسها، كان (ورقة) يظهر لها فيلف حولها مسروراً ثم يرمي بنفسه عليها، فتتلقفه وتقبله وتمسح على رأسه وتهدهده بترنيمة رتيبة حتى يتسلل إليه النوم ويختفي عن أنظارها.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
1
2015/01/03
وجدان الشاذلي
نص بديع
حين تصادف نص كهذا تعلم كم أنت محظوظ ..
شكراً أ/ وجدي .. على هذه المتعة .
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص