الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
ظـــــلّ مشــــــوّه..! - وجدان الشاذلي
الساعة 13:43 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


فتحت عينيّ هذا الصّباح على عنكبوت بسقف الحجرة، تعمل بهمّة ونشاط على نصب شراكها لحشرة صغيرة تعيسة الحظّ .
لوهلة ، خيّل لي أنّها تنظر صوبي.. ومن ثمّ تشرع تخاطبني:
أيّ امرأة أنتِ ؟ أوَلم تدركي طيلة عشرين عاماً أنّ الحياة ظلّت تنصب لك شراكها ؟
وأنت كحشرة كبيرة تقفزين من شرك إلى آخر..! 
أيّ متعة تلك الّتي تجدينها في القيام بدور الضّحية ؟
- أنا لست على ما يرام . تمتمت بيني وبين نفسي.
وكأيّ زوجة ريفيّة تبدأ يومها عند الغبش بمكنسة تجوب بها أروقة ودهاليز المنزل، التقطت ُمكنستي وذهبت اُربّت بها على كتف التّراب في محاولة لإيقاظه، ودفعتُه برفق إلى الخارج، ليمارس هوايته المعتادة في الالتصاق بأحذية وملابس وأجساد المارة .. لكنّه يعود دائماً ليتمدّد بكسل في نفس هذه الأروقة والدّهاليز.
كلّما أتأمل حركة وسكون هذا التّراب الّذي يحتلّ منزلي وينكّد عيشتي، أستدرك كيف أنّه من الصّعب إلقاء القبض على مشاعر البشر والتّحكّم في ومضاتها وسكناتها، أو حتّى مجرد إصدار الأحكام بشأنها .. أولسنا من تراب ؟!
بالسّرعة المعتادة تعدو المكنسة ذهاباً وإياباً في أرجاء المنزل لتعود بعدها مستلقية خلف الباب كحارس كسول في مكانها المعتاد.
أذهب - أنا - صوب الفناء الخلفيّ للدّار وألقي تحيّتي الصّباحية المعتادة على الدّجاج والأغنام، وفي طريقي أربت على جذع شجرة الليمون .. لماذا أفعل ذلك؟!
هل أحاول إيقاظها أو كسرها؟(ألواح الخشب لا تكسر،وحدها الأرواح قابلة للكسر ) ..
يبدو كلّ شيء حولي في حركة دؤوبة ما عداي ..
اخترت الرّتابة أم هي من اختارتني؟! 
في الواقع لا أعلم ، فكل ّشيء بداخلي ثابت، . الزمن وحده يزحف على جسدي من الخارج عابثاً بأنوثتي الرّابضة خلف حطام السّنين، صانعاً نتوءات شحميّة في عدّة مواضع حسّاسة ، وأخرى ليست ذات أهميّة على اعتبار نظرة الرّجل.!
كلّ شيء أقوم به هنا، أفعله على وجه الاعتياد، وبطريقة آلية .. مثلما يحدث كلّ شيء في هذه القرية برتابة مملّة ..
الأحداث الخارقة للعادة التي تنتشر في سماء قريتنا لها السرعة نفسها التي تنتشر بها رائحة (اللّحمة ) الّتي تشوى أوّل جمعة من كلّ شهر في بيت الشّيخ ..
حدثان إضافيّان لجمعة الشّيخ .. ميلاد أحدهم أو وفاة آخر ..
بعض العادات حين يصادف تكرارها امرأة مثلي، يمكن عدّها نوعا ًمن أنواع التّرف. ولكنّها لا تحدث إلّا في خيالي.
كلّما أمالت الشّمس رأسها خلف ذاك التّل ، أرسلت بصري في مداه إلى سفح الواديّ حيث تلوح من هناك خيالات رجال آيبين متوشّحين معاولهم ، وذاك خياله. خيال الرّجل الّذي لا أفتأ أسأل نفسي كم عام مضى وأنا برفقته أحاول جاهدة أن أعلّم ذاكرتي التقاط بعض ملامحه، وأدرّب مسامات جلدي على إلقاء القبض على بعض أنفاسه الشّاردة حين يجود بها، وأحنّط ملابسي كلما حظيت بشيء من عطره أو عرقه ؟
كم عاما مضى وأنا أرتّب صباحاتي وأعيد صياغة أبجديّاتها بما تمليه عليّ اللّحظة، وأدير ظهري لمساءاتي كلّما ألّحت علي ّبسؤال الحاجة ؟
كم عاما مضى منذ أن أطفأت قناديل مسائي،وعلّقت رغباتي على مشجب الأمل حتّى بليت ، فبتّ أعرض عنها كلّما صادف أن أشيح بصري صوبها؟
لِمَ أحاولُ جاهدةً حصر تلك الأعوام؟ هو عمر وكفى. عمربدأ منذ أن اقتناني ذاك الرّجل كأي زينة في منزله .. 
الفرق الوحيد أنّني كنت كائنا حيّا يتحرّك لا ينفك ّيذكّره بعجزه الحقيقيّ، الّذي لا يستطيع أيّ رجل احتماله. 
ذاك الكائن الّذي أتى به ذات مساء تحت كومة ملابس ومساحيق بات اليوم أسوأ كوابيسه، وأيّ كابوس أسوأ من اقتران عجز رجل بأنوثة امرأة تفتّحت للتّو؟!
ظلّت أمّي توسوس لي :
"ظلّ رجل ولا ظلّ حائط" . 
فوجدت نفسي ذلك المساء أومئ برأسي لأبي بالقبول، رأيته حينها مثل قشة في بحيرة مبهمة الحدود، فمنّيت نفسي بالنّجاة قبل الأفول ، هاربة كنت من شبحين ظلّا يطاردانني ردحاً من العمر، شبح العنوسة الذي رأيته يلقي القبض على أختي، وشبح آخر كان ينقضّ علينا جميعاً بين الفينة والأخرى، هو شبح العوز والفاقة .
كانت أمنيتي أن أغادر دارنا . إلى أيّ مكان ، لا يهمّ. فأيّ مكان على وجه البسيطة لن يكون أكثر سوءً من تلك الهوة السّحيقة.
لم أكن أدرك أنّني كنت تماما مثلما أخبرتني تلك العنكبوت هذا الصّباح؛ أقفز من شرك إلى آخر، بوعي أو بدونه، أي ّلذّة تلك الّتي أجدها في القيام بدور الضّحية ؟! مازلت أتساءل..
حين كفّ عن محاولاته وخرج من هذا الباب تاركاً إياه مفتوحاً للشيطان الّذي دلف يغرس خنجره في خاصرة منزلي . ويستدعى ذويه وأبناء عمومته فظلّوا يعزفون ألحانهم ويمارسون الرّقص فوق ذاك الرّأس الأقرع في غفلة منّي ..
كنت معرّجة ما بين السّقف والعنكبوت ،المكنسة والتّراب، جذع شجرة الليمون ولحمة الشّيخ ،صوت أمّي والحرائق الّتي يشعلها أبي كلّما نفذ عتاده من لفافات التّبغ ،الحائط والظّلّ، عجزه ونظرات الشّكّ والارتياب، مشجب الأمل الّذي ينوء بثقل رغباتي وشبح مستجد تلوح بعض ملامحه في الأفق ..
معرجة ما بيني وبيني حيث لا سماء، ولا بحر، ولا بر، ولا أفق في مداي ..
وفي رحلة البحث عن بعضي فقدت نصفي الآخر .. وعدت من رحلتي خاوية؛ جسدا بلا روح، بات من السّهل أن تطاله أنامل العابثين ..
الشّكّ وحده قسم ظهر صبري الّذي لم يتمخض سوى عن صقيع يجوب أعماقي، ولم يفرّخ غير أحزان جرّها ذيل ثوبي ذات مساء وأنا عائدة إلى مسقط رأس وجعي وخيباتي ..
- لماذا..؟! سألت أمّي
- فأجابت دموعي بفصاحتها المعتادة . 
وبقيت أنا ألوك عاميّتي بتمتمة يتردّد صداها في أعماقي حتّى اللّحظة :
"عدت لأنّي لم أجد الحائط ولا الظّلّ الموعود . كلّ ما وجدته هناك : ظلّ مشوّه."

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً