الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
أشواك - علي جعبور
الساعة 12:38 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

طالما أغراني مالك الحزين بريشه الأبيض الناصع كسحابة في أول الصباح، لم أكن قد شاهدت أجّمل منه حتى ذلك الحين. 
كنتُ في التاسعة، وكان لي صديقة جميلة اسمها زهرة: اعتبرتها لعبة أهدتنيها السماء. 

كل صباح، بعد أن أستيقظ، كنتُ أتوارى خلف البيت، أُنزلُ سحّابة البنطلون وأسقي لوزة صغيرة مسيجة بالشوك. لم يكن مسموحًا لي ريّها بماء “الحنفية”، لذلك كنتُ أشربُ كثيرًا حتى لا تشعُر بالعطش.
كانت زهرة قد جاءت بها من الحقل وغرستها بيديها الرقيقتين هامسة في خيالي بعينيها البرّاقتين: عندما تكبر لوزتنا، سنصيرُ عصفورين؛ نعتلي أغصانها الطويلة ونطير بعيدًا عن العالم.

بعد ذلك أقفزُ المنحدر هابطًا إلى بيت صديقتي القائم أسفل بيتنا.

 وذات يوم، اشترطت ابنة الحصاد أن آتيها بمالك الحزين وإلا لن أشاركها اللعب مجددًا. 
كانت زهرة الابنة الوحيدة لحصاد جبلي مرح، حلّ بجوارنا مؤقتًا ليعمل بأرض جدي طيلة موسم حصاد الذرة ثم يعود شرقًا إلى الجبال الشاهقة، حيث القات والبرد والحرب، كما كان يردد دائمًا.

أمضيت نصف ليلة أفكّر في خطة للإمساك بمالك الحزين، وغلبني النوم ولم أهتد لطريقة. 
وفي الصباح الباكر لمحت سرب الطيور البيضاء المهاجرة تحط رحالها بين قطعان الغنم الكثيرة، ما عدا واحدًا فضّل الهبوط فوق ظهر الثور ذي القرنين الكبيرين والذيل المتحرك باستمرار كأنما كُلّف بطحن الهواء.
ألقيتُ بدثاري ونهضت من فوري مسرعًا، التقطت حجرًا وقذفته نحوه، ولما كان حظي عاثرًا، فلم يكن مستغربًا أن أُخطئ الطائر وأصيب الثور.
وما عتّم أن استشاط جدي غضبًا وهوى عليّ بعصاته الطويلة ليقرعرأسي الأشعث، لكن قدميّ الصغيرتين كانتا أسرع، بكثير، مما يتصور.وهكذا كنت أختلق كل يوم طريقة وحيلة جديدة للاصطياد ولكنها باءت جميعًا بالفشل. 
كنتُ عازمًا بإصرار الولهان على إرضاء رفيقتي المليحة وتحقيق مطلبها بأيّ ثمن. 

والحقيقة، يا سادتي، أن ألعابها النادرة، وحدها، ما كانت لتجذبني لولا ابتسامتها الرائعة وكحلاً لا يفارق عينيها وغرابة وعذوبة في لهجتها، ولشدّ ما طَرِبَت روحي حتّى الأعماق لصلصلة أقراطها ودمالجها وخلاخيلها الفضيّة كلما جرينا سويًا، كتفًا لكتف، في حصيدة الذرة الواسعة. 
ويومًا إثر يوم، شعرت أن الوقت يفلت مني ومالك الحزين يرفّرف ساخرًا من حماقاتي وزهرة تهزأ من عجزي. لذا غدوت حزينًا أكثر من مالك الحزين نفسه. 
وحين دنا موعد رحيلها أشرق وجهها بابتسامة وضاءة وهمست تعدني: سنعود وقد كبرت اللوزة. 

لوحتُ لها مودّعًا وقرفصتُ وحيدًا بلا ريش ولا رفيقة أحملقُ في السماء متوسلًا لعبة أخرى، واللوزة الصغيرة قضت حزنًا ولم يبق سوى الشوك.
 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً