الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تلاوين الأنساق المتفردة في السرد في قصص : إيقاعات الزمن الراقص للقاص العراقي علي السباعي - عبدالهادي والي
الساعة 15:00 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

عن منشورات إتحاد الكتاب العرب / دمشق – 2002 م ، صدرت للقاص العراقي ( علي السباعي ) مجموعته القصصية الموسومة : (( إيقاعات الزمن الراقص )) . تحتوي على قصص قصيرة ، وبعض القصص القصيرة جداً . هي على التوالي : إيقاعات الزمن الراقص / عرس في مقبرة / الخيول المتعبة لم تصل بعد / هكذا وجدت نفسي / طائر الهزار / قطار اسمه غاندي / ورقة / دم أخضر / آخر رغيف / صيد حديث / مظلومة / رجل أنيق / ورود الغابة / مملكة الغضب / بندقية الحاج مغني / النافذة / الأيادي المتعبة / ضريح الأمس ، ضريح اليوم / كلب / رياح / المدينة . 
 

يبدأ السرد القصصي عادة ، من فعل يتنامى بأستمرار ، لتحقيق صيرورته ، من خلال نسيج القصة ، الذي تتعاضد فيه ثيمات متنوعة ، تسعى لتشكيل صورة مضمونية لحدث معين ، أو أستذكار لحالة راسخة ، في حركة توصيف ، لرصد أدق للعناصر والجزئيات المبثوثة ، في عالم غريب ، يعج بالمتناقضات . يتحاور فيه الشخوص مع كائنات غير بشرية ، حيث تلتئم مجموعة من المتضادات ، في جدل متواصل ، لتعكس فرادة الواقع وغرائبته . نلمح ذلك الالحاح الدائم ، لرصد عالم الموت والفقد ، بتأن يعكس حرفية أسلوبية ، وقدرة ظاهرة ، على تلوين الصورة القصصية بثيمات تبعث الحيرة ، وتجنح بالخيال بعيداً ، عبر إستلهام مفردات وعناصر غرائبية ، يمتليء بها الواقع . يغلب في قصص القاص العراقي علي السباعي ، الجانب الفكري ، وإشتعال الأسئلة حول المصير وفلسفة الحياة ، فهي قصص تزخر بالهم الجمعي ، الذي يفلسف الواقع ، ويبحث من خلال إشكالاته ، عن حلول له عبر طرح التساؤل الدائم ، حول معنى وجودنا ، ومصداقيته . حيث يتراجع الحدث غالباً في قصصه ، لتحل  محله أسئلة كونية ، تتبارى في جدل مستمر للبحث عن حلول تظل تعوم في عالم الكابوس والغرابة . تطالعنا القصة الثانية في المجموعة : ( عرس في مقبرة ) وهي ترصد مكاناً موحشاً : إمرأة في ثياب عرس ، تلج مقبرة موحشة ، حيث تتداخل المرئيات وتزدحم في دوامة من الصحو ، وغياب الوعي ، ليرسم القاص لنا من خلال ذلك الماخ ، واقعاً كالحلم تماماً : (( كنت أحسب أنني أعيش في عزلة موحشة ، كل ما في ينتمي إلى الماضي ، حتى أنفاسي فإنها تصدر عن الوحدة المتفردة بداخلي ، أكتشفت من يشاركني وحدتي ، أنظر إلى الشمس الغاربة ، كأنها قرص أحمر ملتهب ، شرخ حياتي إلى نصفين ، عزلة وخذلان هكذا . عندما أقوم بجولتي في تفتيش المقبرة خوفاً من عبث السراق ، إمراة في عقدها الرابع ، تلف حول وسطها عباءة ، بدا جسدها مترهلاً ، تسحب أنفاسها بصعوبة ،خزرتها قائلاً : ماذا تفعلين ؟ - أفزعتني إلا تراني أتزين لك في ليلة زفافنا )) .

 

نتابع من خلال السرد  رصداً لعالم الغياب والوحشة ، والإحساس العالي بالفقد ، يبرز كحالة تعويضية ، للخوض في كوابيس حلمية لا تنتهي . وفي قصة : ( هكذا وجدت نفسي ) . تبدأ القصة : (( شيء لا يصدق أن تجد نفسك ، تحدث حماراً مسكيناً ، يحاورك بكل طلاقة ، حيث تتجمع في ديوان السماء غيوم بيض ، تتصادم مع بعضها ، تتألف أضواؤها الفضية لامعة ، تخرج من جوفها غضباً مكبوتاً ، طوال سنين مضت . تساءل ( وجع ) بحدة :- كيف ؟ أجابه الحمار :- بتغيير ما بأنفسنا . بادره ( وجع ) متذكراً كلمات زوجته المتوفاة :- إنك تذكرني بزوجتي رحمها الله ، رغم فقرنا المدقع ، كانت تشد من أزري ، وتأخذ بيدي بقولها :- (( معك يداً بيد نصنع حياتنا الجديدة )) . كنت أجيبها ، وكان شيئاً قد هتف بداخلي :- (( أحقاً ترغبين بذلك ؟ وهل لديك القدرة على صنعها )) . لكنها تبتسم رغم حزنها الشديد وتقول لي :- (( نعم معك أملك قوة ليس لها حدود )) . يستغرب الحمار هذا الكلام ، وإذا به يسأل بسأم :- (( ياسيدي عم تتحدث ؟ )) . وهل في عالمكم شيء حقيقي ، أسمه : - الحب ؟ يضحك  ( وجع ) من جديد ويقول :- (( أجل ياحمار ! )) . لدينا شيء اسمه الحب  ، وينهق الحمار ، وقد ألم به وجع كلمات سيده . من خلال هذه الحوارية ندرك ما يعتري واقعنا من بؤس ، يتجلى بصورة أوضح من خلال جدل المتناقضات ، وحوار المتضادات ، حيث تتجمع جملة خصائص فنية ، تعكس درجة من الرهافة في التعامل الفني مع الحدث ، مع إنضباط لغوي محكم ، وقدرة واضحة في تلوين الجمل التعبيرية ، بطاقات شحن ، تجعلنا مشاركين وضالعين مع الحدث القصصي الذي يبرع القاص العراقي ( علي السباعي ) ، في رسم مشهديته ، بحرفية وتأن تشد المتلقي وتبعث فيه طاقة التواصل والأنغمار مع الجو السائد ، دون أي إحساس بالسأم أو الملل من إكمال المتابعة مع السرد القصصي الأخاذ .

في قصة :- ( بندقية الحاج مغني )) يبرز الصراع فيها قوياً ، عبر إحتدام الأرادات والتمسك القوي بالزوجة المعشوقة الأخيرة للحاج مغني ، التي حاول الأبناء ان يختطفوها عنوة ، ويبعدونها عن أبيهم ، وأمام أصراره وذلك بإشهار بندقيته التي سعى ليحارب بها ، حتى لو أقتضى الأمر محاربة الأبناء العاقين الذين يحاولون أن ينتزعوا منه  ما يعشقه ويهواه بالقوة والإكراه ، وقبل ان تحدث المواجهة ! بين الأب وأبنائه ، يتدخل أحد الشيوخ ، ليفض النزاع مخاطباً أبن الحاج مغني :- (( أذهب يامطرود ، لإحضار زوجة أبيك ، لأنني سأحل القضية واتعهد بذلك أمام الجميع )) . وحين يسترد الحاج مغني حبيبته يخاطبها بقوله :- (( ها انذا الآن أمامك ياعزيزتي )) . فردت عليه برقة ولين ، ونشوتها عامرة بالحب :- (( ألهذا الحد تحبني ياحاج )) قال بكلمات دافئة :- (( كنت مستعداً لأن أقتطع جزءاً من الليل لأصنع لك عباءة تحميك من الأعين الحاقدة )) . يحاول القاص العراقي علي السباعي من خلال قصصه الأخرى ، إضاءة مناطق مختلفة من وقائع يعج بها الحاضر العرقي وما يمكن ان يوظفه من تجارب الماضي والتاريخ ، ليكشف من خلال رموزه وأسقاطاته المتعددة ، ما ينتاب الحاضر من أوجاع وإستلابات ، تسهم في تأزيم الفرد وزيادة عزلته ومعاناته ، التي تنبع من صراع دائم ، لا هوادة فيه ، مع مواضعات لا يمكن التحكم بها ، مساهماً عبر ذلك من إستقطاب صياغات جديدة ومتنوعة ، وأساليب في القص ، تمتح من تقنيات ، يكاد يتفرد بها القاص العربي المبدع علي السباعي ، موظفاً صياغاته الجديدة ، ليدفع بالقصة القصيرة ، إلى آفاق رحبة تتسع للأستزادة من روافد عميقة ، تدفع بالفن القصصي العراقي إلى فضاءات شاسعة ، أكثر أصالة وعمقاً ، عبر لغة غنية بالأستخدامات اللغوية ةالفنية مستعيرة طرائق جديدة ، واشكالاً متطورة ، تكتنز بالدلالات والايماءات التي تشد المتلقي إلى عوالمها المدهشة ، وإيقاعاتها المنتظمة ، ليسهم كل ذلك في عملية التوصيل والأمتاع .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً