الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
محمد عثمان تجربة مقطرة - علوان مهدي الجيلاني
الساعة 15:35 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


اشتغال راق ، وتجربة مميزة لعل أكثر سماتها التأني والتقطير ، منجزه في الابداع والترجمة يشبه غذاء الملكات في عالم النحل ، وهو كذلك في سلوكياته وصداقاته ، جمال فائض محجوب دائماً خلف سحب التواضع والدماثة والخجل ، تلك الصفات التي تحرم صاحبها من حقوق كثيرة في الحياة وفي الحضور داخل معتركاتها وجوداً وحقوقاً مكتسبة .
 

محمد عثمان قامة من قامات اليمن الأدبية الكبيرة ، وقائمة جهده المطبوع لا تمثل إلا جزءاً من اشتغالاته التي تتوزع على السرد والترجمة والمقالات والشعر . وهذه قائمة إصداراته .
 

-جوم عن دائرة الإعلام والثقافة في الشارقة 1999م
- الفراغ المقابل عن اتحاد الأدباء والكتاب 2004م
- الرجل الذي خرج من حكاية جدي (رواية) اصدارات وزارة الثقافة 2004م.
- رجة تحس بالكاد عن دار عبادي 2008م.
-بلزاك والخياطة الصغيرة اتحاد الأدباء 2004م. وأيضاً طبعة ثانية عن دار نيوون للدراسات والنشر دمشق.
- لأنني أحبك عن المركز الثقافي العربي 2012م.
-فن التأويل" عن المجلة العربية 2015م

 

الكتابة عن محمد عثمان ميدان واسع لشغف مثير ،اليوم أريدكم فقط أن تقفوا معي لتحيته
قصة متخيلة (لا عزاءات) : محمد عثمان

 

بالأمس مات خالي (مرت ثلاثة أيام إلى وقت نشر هذه السطور) قبل حوالي نصف الساعة من وفاته حالفني الحظ لرؤيته. كان ممددا على فراش المرض الذي سرعان ما سيصبح فراشا للموت أيضا. وكان اصفر وشاحبا بينما كانت أنفاسه المستعصية تتلاحق في صفير مسموع (كانت المرة الأولى التي أتحقق فيها على وجه التعيين من معنى الفعل "ينُازع") كان المكان يزدحم بالزائرين فلم يتسن لي المكوث طويلا بجانبه. فقط بما يكفي كي ألمس جبينه ووجنتيه كتعبير عن أمنياتي العميقة والصادقة له بالتراجع نحو الحياة، قبل أن أخلي مكاني لزوار آخرين.
أما ما ملأني بالحسرة حقا فيما اتقهقر مبتعدا عن مكان رقوده، هو تنبهي إلى إنها المرة الوحيدة التي ألمسه فيها من على هذا القرب. لولا أنني تذكرت على الفور أنها لم تكن الوحيدة. كانت هنالك مرة أخرى. كان ذلك منذ ما يربو على الأربعين عاما. كان آنذاك قد عاد لتوه من أمريكا. وكان كل ما بقي لي من ذكرى تلك المرة، هو غابة الشعر الكثيفة التي تغطي ساقيه الرياضيتين، لحظة أن التقطني من على الأرض ورفعني عاليا إلى قبالة ابتسامته العريضة والزاهية كي يقبلني ويعيدني من ثم إلى الأرض. ما عدا ذلك، ما بين المرتين، ما من ذكريات حقا، ما من قبلات ولا ملامسات ولا قرب أيضا. وذلك لأن خالي كان قد انتقل عقيب تلك المرة مباشرة إلى عالمه الخاص، النائي والبعيد والمنفصل عن عالمنا هذا، عالمنا الذي –كما أخمن- لم يعد بالنسبة له أكثر من مجرد مصدر قميء للتهديد والوعيد المستمرين. فيما كنت قد استحلت أنا في ذاكرته الناكصة قهريا إلى مرحلتي الطفولة والشباب والمتوقفة هناك، استحلت إلى مجرد شباب أبي والذي علاوة على ذلك لم يكن يتذكر منه أكثر من شذرات صغيرة وغامضة!
هنالك أمر أخر بخصوص خالي.
كان اسمه الكامل محمد سعيد سيف.
اتذكر أنني كنت قد وقعت في منتصف الثمانينات، كنت حينها طالبا ثانويا في مدينة تعز، على عمود أدبي في صحيفة الجمهورية الصادرة هناك. كان عنوان العمود "نافذة" وكان متوجا بالاسم ذاته: محمد سعيد سيف!
كان العالم ما يزال صغيرا في عيني آنذاك بحيث تصورت بأن صاحب العمود هو خالي بالذات. وهكذا فقد رحت اتباهى أمام اصدقائي وكان جلهم من محبي القراءة بمعجزة خالي الذي يواري عبقريته الأدبية الفذة خلف مظهر من التعب والنأي عن الواقع، مضفيا عليه بذلك جاذبية وغموضا يحسد عليهما. لكن ذلك لم يدم طويلا، إذ كنت قد صرت في غضون ذلك كاتبا بدوري. كاتبا يطالب بحقه في اشهار موهبته. وهكذا حدث أن مررت على صحيفة الجمهورية وفي يدي النص الذي سأدخل بواسطته إلى عالم النشر الأدبي. ولقد شاءت الصدف أن يكون باستقبالي في الصحيفة شخص آخر غير خالي إلا أنه كان يحمل نفس اسمه. كان ذلك الشخص هو محمد سعيد سيف صاحب العمود الذي تحدثت عنه للتو والكاتب االثمانيني –صار منسيا الآن- الذي لم يكن من الممكن أن تُذكر القصة القصيرة في اليمن في ذلك الوقت من دون أن يشار إلى اسمه. والذي تمثل قصصه (شارع الشاحنات) و (صباح ودم) و (الحرف) وسواها من القصص ذروات عالية في فن القصة القصيرة في اليمن... والذي كما آمل سيستعيد مكانته التي يستحقها بمجرد ان يصل اليمن إلى اللحظة التي سيتوجب عليه فيها اقتفاء آثار الدروب الأدبية التي اختطها وصولا إلى تلك اللحظة..
عودة إلى موضوعنا لهذه السطور، أقول انه كان من شأن ذلك اللقاء وما رافقه من اكتشاف من أن محمد سعيد سيف الكاتب ليس خالي، وهو الاكتشاف الذي لم أبح به لأحد بما فيهم إلى محمد سعيد سيف الكاتب نفسه على الرغم من أنه كان قد أصبح انطلاقا من تلك اللحظة من أخص اصدقائي، كان من شأن ذلك اللقاء أن يصيبني بخيبة أمل كبيرة. 
لكن ذلك ليس سوى جانب من المسألة. جانبها الآخر تمثل في أن ذلك اللقاء قد مثل لي البوابة التي سألج من خلالها إلى عالم النشر الأدبي. بحيث يبدو لي الأمر الآن كما لو يتعلق بنوع من الرابطة الاشتراطية بين الجانبين: كان علي كي أكون كاتبا أن اكتشف أولا أن خالي لم يكن كذلك..!
لماذا اكتب كل ذلك الآن..؟!
لكي أقول بأن خالي الذي كان له بطريقة ما علاقة بدخولي إلى عالم الأدب أو على أقل تقدير، الذي حينما شرعت في رواية قصتي كانت قصته حاضرة بقوة هناك، إن خالي ذاك قد مات بالأمس من دون حتى أن يتسنى له هو الآخر أن يعرف شيئا عن هذه القصة. وانني حزين لذلك. حزين لأن الحياة كانت في كل مرة تنجح في لفت انتباهنا نحو مسارات كبيرة لا نقررها نحن وانما يقررها عنا آخرون متمحورون في الغالب حول اطماعهم وأنهم إذا كانوا قد تمكنوا من هزيمتنا في شؤون السياسة والسلطة فلأنهم كانوا قد تمكنوا قبل ذلك من هزيمتنا في قصصنا الخاصة قصصنا الهامشية والصغيرة وذلك حينما تمكنوا من صرفنا عنها إلى قصصهم التي تدور في الغالب حول السلطة والثروة وافهمونا بالتالي أن هذه القصص –قصصهم- هي وحدها القصص الحقة والمهمة التي تستحق الانتباه والاهتمام إليها أكثر من قصصنا نحن..!

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً