الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
فيلم “في غابات سيبيريا” للمخرج الفرنسي صافي نيبو.. رحلة البحث عن المطلق والهروب من ضجيج المجتمع الغربي المادي- حميد عقبي
الساعة 15:53 (الرأي برس - أدب وثقافة)



  من أجل الشعور بالحرية يقرر تيدي (رفائيل بيرسوناز)، ترك كل شيء وراء ظهره وأن يعيش وحده في كوخ  على شواطئ بحيرة بايكال في سيبريا. هناك يجد نفسه حيا ويستمتع بحريته ووحدته حيت لا الجيران، لا صخب وأقرب قرية تبعد عنه عدة كيلومترات ولا وسيلة للمواصلات سوى المشي على الأقدام، وأحيانا التزحلق على الجليد وفي أحدي الليالي تهب عاصفة ثلجية قوية ويفقد وعيه خارج الكوخ هنا ينقذه ألكسي ( يفغيني سيديخين)، صياد روسي يعيش في الغابة منذ عدة سنوات هاربا بعد قتله رجلا، لا توجد قواسم مشتركة بين هذين الرجلين وتوجد الكثير من التناقضات مع ذلك تولد صداقة حقيقية.
 

استوحى المخرج صافي نيبو فيلمه  من كتاب “في غابات سيبيريا” للرحالة الفرنسي سلفين تيسون الذي حصل على جائزة ميديسيس في عام 2011 وحظي بنجاح جماهيري كبير.
أن تخوض تجربة خطرة لعدة أشهر وتظل كناسك متعبد في كوخ بعيدا عن المدنية وفي سيبيريا الباردة، فهذه مغامرة شاقة من أجل البحث عن النقاء ، ينطلق المخرج لنسكن هذه البيئة ويركز على الطبيعة الوعرة التي يصعب ترويضها وحولها هذا الصمت، قام المخرج بخلق هذا الصديق الروسي، الصياد والهارب، لكن أجمل المشاهد لتيدي (رفائيل بيرسوناز) المشي في الغابة وحيدا ثم الصراخ حيث يعلن حريته  ويتمرغ في الثلج على البحيرة المتجمدة، نعيش لحظات هذه المتعة البريئة لرجل ترك التمدن والتحضر ليعيش وسط الصمت السرمدي وكان الممثل بسيطا وصادقا حيث لا توجد حوارات مطولة ولا شخصيات أخرى يرتبط معها وعليه أن يخلق إيقاعا مقنعا وينجذب ويحاور هذه الطبيعة الباردة والصامتة ولكن بفضل هذه البيئة والمناخ بدت الأضواء ساحرة وعكست جماليات مدهشة.

 

 

تيدي يريد الهروب من ضجيج إلى أبعد نقطة في العالم فهو غاضب من المدينة ولم يخف من هذا العالم الساكن وهكذا يقضي وقته في المشي والصيد الذي لا يتقنه وشرب الشاي الساخن أو الفودكا ولم نحسّ به يشتاق أو يفكر في عالمه القديم ولم يحمل معدات ولا وسائل اتصالات حديثة ولا أي شيء تكنولوجي لعل هذا كله الهدف منه أن نتواجه ونعايش هذه الطبيعة وهذا الفضاء المختلف جدا عن العالم والمخرج هنا لم يضيع وقته ليرجع بنا في ماضي حياة البطل، يبدو أن هذه البيئة فتحت شهية الكاميرا لذلك ظلت تداعبها وتنوعت اللقطات البعيدة لتعميق الشعور بالحرية التي يشعر بها البطل وصورت لنا تيدي يغتسل عاريا ثم يخرج ويغطس في حفرة الماء البارد ويرى ذلك الدب الذي يأكل طعامه ولم يتحرك البطل ليقتله وفضل السلام، لم يتجه المخرج لخلق صراعات مع هذا الدب أو أي عنصر طبيعي آخر كوننا هنا للتعايش مع الطبيعة وما تملكه من روحانية وجمال وأي صراع سيفسد هذا الهدف.
 

تكمن قوة القصة في القصة ذاتها التي تعطي البطولة لهذه المناظر الطبيعية الغريبة والمخيفة في بعض الأحيان وحرص المخرج بعدم ضخ أفعال أو أحداث تتضارب مع المكون الطبيعي فضلت أفعال البطل عادية، نراه يمشي أو يحاول الصيد في الخارج وفي الداخل نراه ياكل ويشرب و يقرأ ويرمي بالخشب في المدفئة وينام ونرى لحظات يرتعد فيها من البرد أو يشعر بالخوف ، ظهور أليكسي لم يغير مسار الفيلم بل كان كعامل مساعد للتعرف أكثر على تفاصيل جغرافيا هذا الفضاء والحوارات كانت قصيرة وقليلة جدا بسبب العائق اللغوي ورغم الصعوبات اللغوية تحدث المعرفة ثم التفاهم لتتوج بالصداقة والمشاعر الإنسانية وهذا التقارب لم يُفرض أو يُجبر عليه أي طرف بل كان نتاج رغبة كوننا في فضاء رحب مفتوح ولا محدود يتسع ليأخذ كل واحد طريقه بسهولة، كما أن الحوارات لم تنحرف عن قضية الفيلم ولم تدخلنا في متاهات ثانوية، كذلك هذا الهارب جزء من المكان ومن خلاله يتعرف البطل على أسئلة وشكوك تراوده أو يجب طرحها عن الحرية والهروب ومناسبة هذا المكان لتحقيق الأولى ويدعوه إلى العودة للحياة بغض النظر عن صخبها وضجيجها كون الحياة في هذا الفراغ قد تتحول إلى سجن، كما يدين الفيلم جرائم قتل الطبيعة وظهور الأغنياء بطائرتهم من أجل قتل الدببة والهدف التلذذ بالقتل وتدمير البيئة كلعبة غبية وجريمة بشعة يجب وقفها وتجريمها.
 

 

تيدي هذا الشاب الفرنسي القادم من الصخب والتلوث وتعقيدات المجتمعات الغربية، هنا في رحلة البحث عن المطلق، جمال البحيرة وما يحيط بها من جبال وشخصية هادئة وصامتة لا تتحدث عن ماضيها ولا تتذكره هذه العناصر المثيرة للاهتمام لا تبحث عن المغامرة منذ الصور الأولى نجد الحماس من تيدي لمواجهة روعة الطبيعة وهنا يكون اكتشافه لحقائق الحياة في هذه الظروف القاسية.
 

كانت وما تزال الطبيعة والبرية تلعب البطولات في الحكايات والأساطير القديمة وكذلك الفنون الحديثة ويكون المنطلق الفلسفي “اعرف نفسك ” فالإنسان يفقد جماله وإنسانيته بجهله لنفسه أو خوائه الروحي ولعل هذا أحد أسباب العنف وتفكك العلاقات الإنسانية، هذا الفيلم  يستحق المشاهدة بالفعل للمناظر الطبيعية والموسيقى فهذه الحوافز كانت أكثر وضوحا، “في غابات سيبيريا”  قصة بسيطة ومؤثرة يأتي البطل إلى هذا الجانب الآخر من العالم بحثا عن العزلة، في حضن هذه والطبيعة يكتشف ذاته ويتحاور مع إنسان تحسبه الناس ميتا وهو يضحك من مستجدات الواقع في هذه الظروف الإستثنائية تتحول المعرفة إلى صداقة قوية ومخلصة.
 

الطبيعة مرآة تعكس المتناقضات فهذا أليكسي الهارب من المدنية خوفا من السجن، يجد نفسه مسجونا فيها ويحلم بالتحرر بعد ثلاث سنوات والعودة إلى عائلته لكن المرض ثم الموت تكون نهايته، وهذا تيدي القادم إلىها بمحض اختياره ويعتبر المدنية سجنا وقيدا مرهقا ويعتبرها جنة الحرية والسكينة لكن نموذج أليكسي ومصيره في النهاية يجعل ليدي التفكير ثم توديعها في النهاية وفي جعبته بعض من الحكايات والكثير من الصور لهذا العالم الساحر.
 

علينا أن نحس بما وراء الصور الجميلة في هذه المناظر النائمة في الثلج والمتدثرة به  وننصت إلى البوق السحري وموسيقى إبراهيم معلوف، ننسجم مع لحظات سينمائية حيث غابات الصنوبر لنتعايش مع ملحمة مجنونة وفلسفية، هذه المغامر لم تُشوه بالمؤثرات الصورية خلال المونتاج وظلت الصفعات المرئية والسمعية للطبيعة تصفق وترقص وتقول كل ما تريده.

منقول من رأي اليوم .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً