الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة نقدية في قصة"الغراب" الفائزة بالدورة الثالثة لمسابقة القصة الومضة"
القصة الومضة سليلة عصر السرعة والاختزال - مصطفى لغتيري
الساعة 16:42 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



تكتسب القصة الومضة كثيرا من مشروعية وجودها باعتبارها ابنة لحظتها الراهنة ومن مساريرتها لروح العصر كذلك. هذا العصر المتميز بالسرعة في كل شيء، فالإنسان في وقتنا الحالي تملكته بشكل غير مسبوق حمى العجلة، فالأحداث تتسارع وتيرتها محليا وعالميا، والاختراعات الجديدة بشتى أنواعها تتناسل في غفلة من الجميع، كما أن كل شيء ينحو نحو الاختزال والصغر، ولا يبدو أن الأمر سيتوقف في المدى المنظور، بل نلاحظ أن العالم سيتوغل أكثر فأكثر في السرعة ورديفها الاختزال، ولعل ذلك ما يبرر حديث بعض النقاد عن القصة الموضة بكونها جنس المستقبل، لأنها -في رأيهم- منسجمة مع هذه الأجواء الجديدة.
 

والأدب كأحد أشكال التعبير الإنسانية محكوم بهذا الجو العام الذي يطبع العصر، فالإنسان منتجه وموضوعه، فكان لا بد- والحال هذه- أن يتأثر سلبا وإيجابا بما يعتمل في حياة الناس، وقد كانت القصة الومضة بالفعل استجابة أدبية لهذا التطور المتسم بالسرعة والاختزال؟
 

وتعد القصة الومضة الفائزة بمسابقة غاليري الأدب في فن الومضة لكاتبها المبدع بوشعيب العصبي، تحت عنوان "غراب" نموذجا جيدا لهذا النوع من الكتابة،  فقد توفرت فيها أهم خصائص القصة الومضة، وأهمها التكثيف ، الذي جاء في الومضة قويا ومعبرا، إذ تنوب جملتا النص عن كثير من الكلام، الذي حتى وإن طال قد يحالفه التوفيق في التعبير عما اختزلته باقتدار هذه الكبسولة القصصية.


نص القصة:
 

غراب
مات في سبيل الوطن، دفنه أعداؤه.
 

في هذا النص اختار الكاتب أن تكون الجملة الأولى مختزلة إلى أقصى الحدود " مات في سبيل الوطن" ونلاحظ أنه قد تجاهل ذكر الشخصية، فناب عنها الضمير المستتر، وهذا ديدن كثير من كتاب القصة الومضة والقصة القصيرة جدا، ولا تسلم من ذلك حتى القصة القصيرة في كثير من الأحيان. مما يعني في أحد مستويات التأويل، أن الشخصية المفترضة للقصة هو الإنسان أينما تأبط أحلامه وعانق قيمه على وجه البسيطة، فحب الأوطان والموت من أجلها لا يتوقف على شعب دور اخر، بل هو قيمة إنسانية نبيلة، إذا تشبع بها الفرد تحلى بكثير من نكران الذات، ودفعه ذلك ليقدم حياته بشكل اختياري وطوعي قربانا من أجل فكرة نبيلة، تتجلى هنا في حب الوطن، أما الجملة الثانية " دفنه أعداؤه" فمرة أخرى نجد أنفسنا أمام استعمال الضمير، لكن هذه المرة بشكل مضاعف، ضمير يعود على المقاوم الذى 7دفع حياته فداء للوطن، وضمير يعود ربما على الوطن، وهذا التقدير في رأيي أكثر قوة لأنه يجعلنا أمام مفارقة قوية، موحية ومعبرة، بل وصادمة كذلك.، فأن يموت الشخص من أجل الوطن ثم يدفنه أعداء هذا الوطن، فتلك لعمري قمة التراجيديا، وهي تلمح مما تلمح له إلى عدم الاعتراف ونكران الجميل، الذي يعاني منه المدافعون عن الوطن وخاصة أولئك الذي بذلوا أرواحهم في سبيل انعتاقه من ربقة الاستعمار، والتمتع بشمس الحرية المشرقة.
 

كما أن القارئ لهذه الومضة لا شك سيلاحظ التكامل  البنيوي للقصة مع عنوانها، مما يدل على دربة الكاتب وخبرته بهذا النوع من الكتابة، لقد كان العنوان  ذكيا، وغير مباشر بالمرة،  اكتفى فيه الكاتب بالإحالة على قصة الغراب المعروفة في التراث الإنساني، كشاهدة على أول قطرة دم تسفك غدرا، وهذا التوظيف يفيد بأن الكاتب التجأ  إلى التناص، خلال كتابته لومضته، والتناص كما هو معلوم مجال خصب يمكن توظيفه في القصة الومضة على الخصوص، لأنه يعفي الكاتب من حرج بناء الشخصية، فالمجال الضيق في القصة الومضة لا يسمح بذلك، كما يمكن الإشارة إلى استعمال الرمز رمز الغراب، الحابل بالدلالات العميقة. وهذا مجال خصب كذلك، يفتح بابه على مصراعيه للمبدعي القصة الومضة والقصة القصيرة جدا من أجل استثماره إلى أبعد الحدود.
 

ويبقى في الأخير هذا النص عميقا ومتعدد الدلالة، مما يصعب معه الإمساك بكل أبعاده، خاصة خلال هذه الوقفة العجلى، المشروطة بسياق المسابقة، متمنين للكاتب مزيدا من التوفيق في القصة الومضة وغيرها من الأجناس الأدبية، التي يجيدها شعرا  ونثرا؟

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً