الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
غربة شهريار : شهرزاد - علي السباعي
الساعة 14:44 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



-    يا ألهي . كم هي صغيرة هذه الحياة ؟
سرعان ما تجد نفسك في فلك لا متناه تدور ، تدور ضائعاً ، ضائع فيه رغم كل محاولاتك للخلاص منه . فجأة ! تخطفك مصيدة شباكها من حديد ، تصيدك رغم أنفك ، تقيدك ، كما تقيد خيوط نسيج شباك العنكبوت ، تشعر حينها بأنك لا شيء ، وشيئاً فشيئاً تدنو منيتك منك ، قالها شهريار ، وهو ينظر من شرفة قصره المطل على أحد شوارع بغداد ، تنهد ، وقال كأنه يتنبأ بشيء خرافي :-
-    ما أروع أن يكون البشر كائنات خرافية عملاقة . . . لفضلت أن أكون فراشة .
ابتسم ، ونظر إلى أعلى ، وجد السماء ، سماء بغداد صافية ، صافية وهادئة ، هادئة رغم كل الدخان القادم إليها ، والذي يطوف حولها بشكل دائري حتى يرتفع إلى ما فوفقها ، يحجب عنها الشمس ، ويلف سمائها الساكنة بعباءته السوداء ، يلفها بمهارة ، ويظل يتجول في شوارعها الأنيسة ، شارعاً شارع ، أبي نواس ، السعدون ، الجمهورية ، الرشيد من الباب الشرقي حتى باب المعظم ، المتنبي ، غازي ، عشرين المغرب ، حيفا ، محمد القاسم ، وشارع البنات – شارع النهر ، يحوم ، يحوم ملتفاً لافاً كل شيء وكأن هذا الدخان الغريب عن جسدها البغدادي البض الطازج النظر يريد ابتلاعها ، ابتلاع جسد دار السلام كلها ، ابتلاع حياتها ، حياتنا كلها بلقمة واحدة ، أضاف شهريار بصوت مسموع :-

 

-    إما أن أكون فراشة وكل البغداديين من حولي ورود . جاءه صوت من الغرفة المجاورة لشرفته ، صوت نسائي خلاب تكحل بحة بغدادية عذبة ، معقباً " الصوت " بمزاج لاذع  على كلام الأمير :- 
-     شهريار ! أنت فراشة وأنا زهرتك ، زهرتك التي تمتص منها رحيقاً عذباً عسلاً رائقاً . أتسمعني؟
أجابها ، والأمل يمازج نبرة صوته :-
-    نعم . أسمعك يا شهرزاد ، فإن ما في ممتلئ بنورك ،  ما بي يستمد نوره من رحيق ضياء محبتك الذي يشع من خدودك البيض التي تشبه شمس بغداد . . . شهرزاد . يا حبيبتي . يا بغدادي أنت . كل ما في أنت .
يسمع رقرقة ضحكتها ممزوجة مع صداح فيروز ، يستطرد قائلاً :-
-    يا بغدادي . يا دار سلامي . يا شهرزادي . صار كل ما أعيشه مأساة ، مأساة حقيقة ، كابوس ، كابوس أسود ، ك . . . 
قاطعته قائلة :-
-    ما بك يا سلامي ؟
أبتسم شهريار بأسى ، وسرح محدقاً أمامه في خراب بغداد ، بغداده التي كثر فيها السلب والنهب والاقتتال والازدحام والضجيج والخوف والذبح والمفخخات واللاصقات والكواتم ، والاحتراب والأحزاب . صار يرى بغداد خربة ، بلا سلام ، سلامها الذي يرفرف في قلوب أهلها ، فيجيبها قائلاً بمرارة :-
-    غربة . أنه الإحساس بالغربة ، ما أعيشه – الآن – يا شهرزادي . غربتي . 
قالها شهريار بلوعة وبكى :-
-    نحن غرباء .
-    رغم كل هذا المجد ، ومع كل هذه الكبرياء ، أجد نفسي غريباً ، أشعر بالغربة ، وأشد ساعات حياتي غربة تلك التي أكون فيها مع ناسي ، وأهلي ، وداخل بغداد ، بغداد عاصمتي ومدينتي . لذا . تمنيت لو كنت فراشة ، فراشة تطير بأرتعاشات عشوائية راقصة من زهرة إلى زهرة ، ومن حديقة لأخرى ، كفراشة أذهب صوب الضوء ، ضوء الحياة ، حياتنا البغدادية الساحرة .
ينظر شهريار ناحية السماء ، سماء دار السلام ، ليقول :- 
-    نحن فراشات غريبة تبكي بصمت عندما انطفأت كل شموس بغداد بغتة ، وكأن هذه الشموس شموعاً لأرواحنا . . . 
قاطعته شهرزاد بمودة :-
-    أنا فراشتك التي عزفت على أوتار قيثارتها أعذب ألحانك الحية  . ألحاناً حيةً خالدة . . .  
قاطعها معلقاً بأسف :-
-    ألحاناً حزينةً دوماً .  
عارضته بمرح  :-
-    بدون حزنك يا شهريار الحياة نموت ، نذبل ، نذوي . . . 
قاطعها معقباً بحدة :-
-    شهرزاد . ما نعيشه وتعيشه بغداد الآن عزف نشاز لحصاد ما زرعت . نعيش حصاد كل ما زرعناه في حياتنا الماضية .
تصغي شهرزاد بانتباه كبير :-
-    حزننا الذي يسكننا منذ زمن بعيد جاء الآن ليحصدنا ، يحصدني ، يحصد كل ما بنيت ، كل أماني  وطموحاتي .
تعقب شهرزاد بجدية :-
-    حقاً . كأننا فراشات غريبة ترقص على ضوء شمعة القدر ، قدرنا ، قدرنا العراقي ، نرقص غرباء غربتنا فوق لهيب حياتنا الحزينة . نرقص حزانى غربتنا عن بعضنا . . . 
يقاطعها شهريار بسؤال قاطع باتر مثل منجل حاد بيد القدر الجادة في حصدنا زراعاً :-
-    أتشعرين بالغربة مني يا شهرزاد ؟
أجابته إجابة باترة حازمة صادقة صادمة مثل منجل القدر وقد جمعت كل خساراتها وأحزانها وفقداناتها وغربتها وهي تنظر بعينين بغداديتين حلوتين صوب بغداد بدجلتها ، دجلة الذي يمر من أمام شرفتهما هادراً بالخير :-
-    نعم .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً