الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة نقدية
ماء الفلسفة :الحيرة والسؤال في "قليل من الملائكة" - حسن الرموتي
الساعة 16:48 (الرأي برس - أدب وثقافة)


ماء الفلسفة : الحيرة و السؤال في : قليل من الملائكة ..

حسن الرموتي

 

عبد الله المتقي قاص و شاعر مغربي ، له حضور مائز في المشهد القصصي المغربي خاصة القصة القصيرة جدا ، هذا الجنس الذي غدا له حضور واضح اليوم رغم النقاش الدائر حوله .الأدب في النهاية كائن حيّ يتنفس برئتين و يتجدد باستمرار ليواكب هذا التطور الذي يعيشه الإنسان ..و القصة القصيرة جدا وجه من وجوه هذا التطور . و المتقي واحد من أبرز كتاب القصة القصيرة جدا اليوم ، لأنه راكم تجربة مشهودا لها بالتميز و الجمال في خضم التراكم الكبير الذي يعرفه هذا الجنس

 

المحدث و الذي استسهله الكثير من أشباه الكتاب ...لكن بالعودة إلى تجربة القاص المتقي ، فإننا أمام تجربة عميقة تستمد خطاباتها من مناهل متنوعة ...ومن المسكوت عنه في نصوصنا مثل الجنس و الجسد و السياسة ... أو الواقع الاجتماعي من قبيل الهجرة السرية و الاستغلال و المعاناة و التهميش ، و أحيانا استلهام نصوص راكدة في المرجعية الثقافية للقاص حين يستحضر مثلا شهرزاد و همنجواي و صمويل بكيت أو شن و طبقة و فان كوخ و ديك الجن و سيزيف.. حافلا بالتركيز و الاختصار الواجب في ق ق ج هو تركيز يفتح أمام المتلقي أبوابا واسعة للتأويل و التأمل ... نصوص تبعث على الإدهاش ، نصوص مثل طلقات تصيب هدفها بدقة متوسلة بالتلميح و الترميز و الاقتصاد والمفارقة .... و تعد مجموعته القصصية – قليل من الملائكة – من أجمل المجموعات التي حاولت أن تلتزم بتقنيات هذا الجنس الإبداعي الجديد في ظل هذا الكم من المجاميع القصصية التي تدّعي انتماءها إلى ق ق ج .

 

قليل من الملائكة الصادرة عن دار التنوخي في ثمانين صفحة و تتضمن ثلاث و ستين قصة قصيرة جدا تشكل نموذجا جميلا لهذا الفن .حيث يتداخل الشعري بالسردي ، فتغيب الفواصل و الحواجز بين الفنين إلى حد الانصهار و التماهي ..فمنذ مجموعته الأولى الكرسي الأزرق إلى قليل من الملائكة يظل عبد الله المتقي يكتب قصصه من مرجعية شعرية ذات الحمولة الدلالية الشفافة المبنية على جمال الصورة و رهافة اللغة و الإحساس معا و المخضب بالسؤال و الجمال و العلاقات الإنسانية بين المرأة و الرجل و بروح الفلسفة .. و قد انتبه عبد الدائم السلامي في إشارته على ظهر الغلاف من أن هذه المجموعة تتأسس على دعامتين مهمتين : السؤال و الحيرة .

 

اعتقد أن السؤال و الحيرة من روح الفلسفة . في قصة - ماء الفلسفة –إذا كانت الأم تدرك الحقيقية العلمية لتكون المطر من خلال تبخر الماء و تحوله إلى سحب ، فإن الطفل يقف مشدوها لهذه المفارقة إن لم نقل هذا التناقض الذي يعجز عقله الصغير على أن يستوعبه ، و يضل الحوار مفتوحا على أسئلة أخرى يطرحها القارئ ، القاص هنا يلتقط مشهدا قد يبدو عادية بين الأم و الطفل ليحوله إلى رؤيا عميقة تفهمها الأم و يعجز الطفل عن إدراكها ، ليس لأن عقله صغير ، لكن ، من منطلق أن أضيق الأمر حين نفكر فيه نجده أكثر رحابة .

 

وقد نجح في توظيف تقنية الحوار و بلغة شعرية جميلة ، بل إن المجال البصري التي يعتمده في كتابة قصصه ، فكل جملة تحتل سطرا خاصا كما لو أننا أمام قصيدة شعرية و ليس ق ق ج ، يقول :
المطر ينقر زجاج النافذة خفيفا. ./ - الطفل : من أين يأتي ماء المطر؟ / - الأم : من السحب / - الطفل : ومن أين تأتي السحب؟ - الأم : من الماء / فغر الطفل فاه في حيرة بريئة، ولم يفهم..
في قصة الحذاء الأمريكي توظيف لقصة قيس و ليلى ، يسقط القاص قصة حب قيس لليلى في زمن مضى حيث كان القمر يلهم العشاق بنوره الجميل في الليل ، اليوم بعد صعود الإنسان و اكتشافه أنه مجرد جبال و تراب و غياب الحياة فيه لم يعد رمزا للجمال ... غضب ليلى المعاصرة له ما يبرره من منطلق معرفة حقيقة القمر ، فعندما يدنس الشيء و الذي نعتقده جميلا ، يتوارى الحب و الجمال عنه جانبا ، و يفسح المجال للقبح ليستوطن القلوب ، القصة تفتح تصورا ،هو تصور سياسي ، فنطرح سؤالا ، هل دنس الأمريكيون الصحراء العربية – خيام ليلى . ...تقول القصة : الحذاء أمريكي .ص 17
«التقى قيس بليلى العامرية في ليل حالك، / وقريبا من واحة زرقاء،/ قيس: « قمر أنت»/ غضبت ليلى، انكمشت أساريرها وصرخت: قمرك دنسه ارمسترونغ ؟ وانصرفت حزينة إلى خيمتها .

 

الوطن غائب ، أعطانا قفاه و انصرف في قصة - مجرد مدرس - ص 52 ..نهاية فارقة و حزينة ، إجابات التلاميذ كانت محددة و إن كانت حارقة تكشف هم دفين يحمله المواطن في ظل الاستغلال و القهر ، هو راية باهتة ، مومس ، حفنة جنرالات ..ماذا تبقى ، لا شيء سوى الغياب الشبيه بالموت بالبطيء.

 

علاقة المرأة بالرجل في قصة - بحيرة الشيوخ ص 20– تتأسس على العجز و الإحباط في العلاقة الإنسانية الطبيعية الممارسة فيصبح الحلم بديلا للواقع حين تعجز الأطراف على تحقيق هذه المعادلة . كلاهما يتنصلان من ثيابهما الداخلية ، كلاهما يرغبان في لذة يتوقان إليها ..لاشيء سوى أن ينام الرجل و يحلم بسمكة في الصحراء و تنام المرأة و تحلم أنها نفس السمكة تترنح خارج بحيرة ماء ..في الصحراء ..هكذا تغيب العلاقة الإنسانية المبنية على الانصهار ، انصهار الجسدان في الواقع لتحضر في الحلم ..الصحراء رمز للجفاف العاطفي ..نفس التيمة نجدها في قصة ماء الحكي ص54 لكن بطريقة عميقة و بعيدة الدلالة ... تجاعيد الأرض / دلو ماء غير مبلل / الصبار / شمس صفراء ..و رجل وامرأة ... رموز نقيض للخصب ، يعيشان الحرمان العاطفي في أقسى صورة ..
خلاصة القول إن قصص – قليل من الملائكة – بقدر ما تأتي قصيرة جدا بقدر ما تنفتح و تفتح أمامنا ليس فقط أبوابا للحلم و لكن لتأمل هذا الواقع المحفوف بالخيبة في العلاقات و بالعجز و الألم و النفاق وانهيار القيم ..لم يعد هناك سوى قليل من الملائكة ...و كثير من الأبالسة ..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً