- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
- مركز ابحاث: يكشف تغييرات الحوثيين للمناهج الدراسية لغسل أدمغة ملايين الطلاب والطالبات (تقرير)
- اعتبروه أحد أفضل الأطباء.. يمنيون يشيدون بالدكتور المصري هشام إبراهيم (تفاصيل)
- عقوبات أمريكية على شركة سورية تموّل الحوثيين من إيرادات بيع النفط الإيراني
- دورات طائفية باشراف إيران للوكلاء الحوثيون الجدد!
- محلات عبدالغني علي الحروي تعزز تواجدها في السوق العالمي بالتعاون مع شركة هاير
- الحوثيون في إب يسجلون في مدارسهم طفل الصحفي القادري المخفي لديهم بإسم غير إسم أبوه
- علي سالم الصيفي ودورة في تمويل داخلية الحوثيين و الاستحواذ على 200 مليار ريال سنوياً
- إتحاد الإعلاميين اليمنيين يدين توعد قيادي حوثي بتصفية الصحفي فتحي بن لزرق
- بيان ترحيب من منصة (p.t.o.c) بفرض عقوبات امريكية على قيادات حوثية متورطة في جرائم منظمة وتهريب الاسلحة
- منصة تعقب الجرائم المنظمة وغسل الأموال في اليمن (P.T.O.C) تصدر تقريرها الجديد «الكيانات المالية السرية للحوثيين»
تنطوي سيرة (الأستاذ فرحان ) مدرس التاريخ في ثانوية بغداد على سلسلة غير متناهية من الكوابيس , ساهم تكرارها مع مرور الوقت في تشكيل مجموعة من تبعات نفسية مجهدة وعوارض صحية اقّلها خطورة هي إصابته بالصلع المفاجئ ,ثم بالرعشة النهارية التي جعلته غير متماسك حتى في حمل ( استكان الشاي) إلى فمه , أصيب أيضا بما يسمى باضطراب الهندسة اللغوية ,فقد كان يعاني من انهيار المعنى في بناء الجملة فتبدو الرموز والإشارات التي تصدر منه عصية على تقديم شرح واضح لما يودّ توصيله , رافقت ذلك بعض النشاطات الغريبة , منها مرا قبة الغيوم التي يكوّنها من نفثه المتواصل لدخان السجائر , حيث إن بصره يظل معلقا وشفتاه تتفاعلان بصيغة الهمس مع كائنات يجدها تمتلك قوة توجيه الخطاب الدرامي وسرد النكات أيضا , السؤال الذي طرحه في آخر صفحات هذه السيرة على زوجته , يعبّر عن هذه المأساة بشكل مكثف, وكان يدور حول الكيفية التي يكون فيها المرء موجودا في مكان ما ولا يعرف بالضبط اختلاف ذلك عندما يكون في مكان آخر, وكيف يحدث التماثل بين عالمين منفصلين في الحركة والتعبير , حتى يختلط ما هو خاضع لاشتراطات العالم الداخلي , بما هو محكوم بقوانين الفيزياء التي هي سمة لعالم الواقع .
لقد تجاوز الأستاذ فرحان الستين بعدة سنوات , لكنه لم يستطع التخلص من الغلاف الرمادي الذي يصبغ أوقات نومه المؤلمة , أوقات سببت له ثقوب كبيرة تشبه ما تقوم به رصاصات تطلق عن مسافة قريبة على الجسد الآدمي , انتشرت هذه الثقوب في وجدانه ولم يدرك الا فيما بعد إن الأمر لا يتعلق بمشاعر تتفاعل في بركة النوم الضحلة فتترك ثقوبا واسعة , بل إن وجدانه الواقعي أصبح هو الآخر مليئا بمثل هذه الأشياء التي لم يتمكن من طمرها , و بسبب ذلك بدأ يعاني من اضطراب شامل في فكرة الاستيقاظ نفسها , وفي فترة لاحقة , عانى من صعوبة تزداد يوم بعد يوم في استعادة حياته الواقعية حتى انه في فترة صعود الخط البياني لكوابيسه لم يعد يعرف بالضبط هل إن أولاده السبعة وبناته الثلاث أنجبهم في النوم أو اليقظة , هذا لأنه لم ينكر تحقق في أيّ من المكانين تلك اللحظات الحميمة كاملة المتعة مع زوجته , لم ينس انه يقوم بحركات لا تخلو من المهارة , وتتطور دائما بفعل مشاهدته لأفلام( البورنو ) , حركات يقوم بها في كلا العالمين تتعلق بهذا الموضوع و على أكمل وجه , في النهاية قادته هذه الكوابيس أو الأحداث الى نوع من التواطؤ في الفهم حتى تشكلّ لديه ما يشبه الإيمان بأن مرحلة النوم نفسها هي حقيقة الوجود, أما ساعات الاستيقاظ فهي الإقامة في العمى , او أنها فواصل , مجرد فواصل سريعة تحدث فقط من اجل الاستعداد للغوص بعمق اكبر في فضاء وجوده الأصلي .
زوجته تعاملت مع حالته باعتبارها مرضا نفسيا و رحلة البحث عن حل بدأت منذ وقت مبكر , لم يمانع الزوج من توظيف الصلاة لله و النذور التي تعد زوجته بها ربّ العباد , لم يرفض الذهاب في زيارات مكوكية إلى أضرحة الأئمة والأولياء وتجريب البكاء عندهم ,على الأقل تعاطفا مع الزوجة المسكينة , وافق لحمل أكثر من حجاب كتبه شيوخ وسادة وبعض من يشتغلون في أعمال السحر و حتى العارفين بخلطات الأعشاب , في النهاية شارك الأطباء المتخصصون في علاج الكوابيس وما شابهها من اضطرابات النوم في البحث عن حل , لم يجدوا أيضا سوى بعض الحبوب التي قالوا إنها لعلاج الاضطراب الوجداني ثنائي القطبية , زوجته تصالحت مع حظها أخيرا واعتبرت إن حياتها يمكن أن تستمر مع رجل لا يعرف انه نائم أو مستيقظ , ميّت أو حي ّ .
في البداية كان نمط الكوابيس هو تدوير لمشاهد السحل في الشوارع , السلسلة التي رافقت هذه المرحلة تظهره غالبا ويداه مربوطتان بحبل طرفه الآخر معقود في مؤخرة سيارة أو ملفوف على عضو حصان ,أحيانا يكون الحبل مربوطا الى قرن (تيس كبير ) مجنون , أو إلى عربة بجرها حمار سمين تناول علفا جيدا للتوّ , يستغرق المشهد الواحد عادة وقتا طويلا ولا يسمع خلاله تنفيذه غير زغاريد النسوة وتكبيرات الشيوخ و(ضراط الصبية ) قبل أن يستيقظ فيحسّ إن جسده خارطة من الكدمات والثقوب ,عظامه ملحوسة بسبب احتكاكها على الإسفلت ورأسه عبارة عن كرة تنتشر فيها (النتوءات ) وعلى جسده رائحة روث الحيوانات وبول كلاب , زوجته كانت تساعده على النهوض , يدخل الحمام ويتغوط كل شيء , مشاعر الخوف , رائحة الدم ثم يتقيأ بقايا الصراخ قبل أن تنتشر انبعاثاته الفاسدة في فضاء المنزل , تدخل للجيران من النوافذ أو تغادر فتدخل المقاهي والأسواق والمدارس أيضا ولم يعترض احد , فمعظم الناس كانوا متفهمين جدا ومتصالحين مع الحدث .
في مرحلة لاحقة كانت سلسلة الكوابيس تحتوي على تفاصيل غنية ومشاهد مصنوعة بذكاء , يحدث مثلا أن يصل بعض الرجال ذو الشوارب الكثة , كائنات لا يتمتع أي منها بأقل ما يمكن من اشتراطات اللياقة , يدخلون كأشباح من النافذة , أو يخرج احدهم من التنور مثل( الطنطل ) أو يهبطون من السطح, حتى إذا حدث وان دخلوا من الباب فهم لا يعرفون الطرق عليه , بل يركلونه بأحذيتهم ويبصقون معجما كاملا من البذاءات , يقتادون مدرس التاريخ النحيل (فرحان ) وهذا يحصل باستمرار إلى أماكن مجهولة يخمنها بناء على معطيات مسبقة بسبب خبرته في كوابيس كهذه, يفتشون بيته ويأخذون الكتب الماركسية الذي يحتفظ بها قبل تحوله في مرحلة لاحقة للفورة اللاهوتية ليس سعيا إلى الثواب بل لان العالم يتغير فحسب , يأخذون الأوراق والمجلات الإباحية وكتاب الأدعية الصغير الذي تحتفظ به زوجته وكاسيتات الأغاني وأشرطة الفيديو , ثم يجد نفسه في عتمة تنتشر في نسيجها الرطوبة وعفن الذكريات ورائحة (الخراء) ودبيب القمل , يحدث كل هذا قبل أن يقضي ما تبقى من ليلته معلقا مثل خفاش ضخم , يستيقظ بطريقة السقوط من على السرير , يشعر حينها أن قدميه متورمتان بسبب اندفاع الدم من الأسفل إلى الأعلى , بينما فظاعة الألم تسري في أظافره , ألأزيز أو ما يشبه ذلك يسري كموجات كهربائية في عضوه التناسلي وإبطيه , أشد ما كان يؤلمه إحساسه بما يخلفه سقوط هراوات على كل جزء من بدنه وحرقة كبيرة في مخرجه .
الحقيقة إن كوابيس (الأستاذ فرحان) كانت تتمتع بسمات فيروسية من ذلك النوع الذي يطور نفسه باستمرار , في هذه ا لمرحلة مثلا , تظهر السماء فيها مشبعة بالدخان ورائحة البارود الخانقة وربما الغازات السامة أيضا , وهدير مدافع ضخمة من النوع النمساوي يجعل أذنيه عاجزتين عن فهم الكثير من الأصوات , مرة رأى إن النيران تشتعل في جسده , شم رائحة لحمه المشوي فقام يركض بجنون باتجاه نهر تخيّله قريبا , مرة , تأكد له انه أسير , معزول في أعالي سجن جبليّ , حزنه كان كبيرا في ذلك الكابوس , يبكي في جميع أوقاته لفراق أولاده وزوجته الحبيبية , وكان كلما أستيقظ يحتضنها كما يحدث لرجل فارق زوجته عشرون عاما , يبحث في البيت عن أولاده وبناته فيجد أنهم لم يكبروا كما ينبغي للأب الذي يغيب لزمن طويل عنهم , تدور عيناه للبحث فيتأكد أن أم عياله لم تتزوج أحدا في رحلته التي كان يعرف إنها مجرد كابوس بما كان يحمله من خيط رفيع من العقل يستطيع تميز به الأبيض من الأسود , أحداث كثيرة مرت على فرحان تتخللها بعض أوقات النوم الخالية من أي حركة , رحلة كأنها الفراغ أو العدم , بعض الأوقات تمر وفي داخله شعور قاتل بالجوع , مرة واحدة شاهد نفسه أمام صف أطفال موتى أجسادهم جافة تماما , وفي مرات كثيرة صادفته نساء عاريات ربي كما خلقتني , نساء واضح على وجوههن إنهن مصابات بفقر الدم والتهاب اللثة وجفاف الجلد , يشرن للعابرين بعلامات يعرفها الجميع خاصة من يقود شاحنة طويلة , وضباط الشرطة ( والميكانيكيين) , في مرات عديدة شاهد بعض الناس يتسلقون الأسوار, الحقيقة أنهم كانوا يتزاحمون على صعود السلالم وكلّ كتابه في يمينه , فكّر أن يقوم بهذا الفعل لولا أن زوجته وأولاده , قبضوا عليه , قيّدوه جيدا , قالوا له , إن كوابيس كثيرة لم تزل بانتظاره .
بعد اقل من ثلاث سنوات من مغادره آخر الكوابيس العظيمة , دخل المرحلة الأكثر رعبا , سلسلة الكوابيس التي جعلته ينسى حتى ميتاته التي تحققت سابقا كلّها , كان يرى الجثث تنزلق بخفة مع مجرى النهر , يصف لزوجته كل يوم هذا المشهد ويضيف , أنها جثث منفوخة وبوجوه مشوّهة , جثث بدون رؤوس أو برؤوس مثقوبة أو مهشمة بحجر أو بآلة حادة , وحتى أنصاف آدميين مثل أكياس سوداء من البلاستيك المعاد , لم يتحمل كل هذه المرارة حتى انه وظف الفواصل بين الكوابيس كطريقة لخلخلة المشهد , كان يجعل مؤقت الساعة يرن كل خمس دقائق , يقوم و يدخن طوال أيام متواصلة , يأكل ويشرب , يشاهد التلفزيون وكان مليئا بالجثث أيضا , يسمع الأحاديث وكلها تدور حول نفس الموضوع حتى صارت الفاصلة كابوسا مكثفا والناس كلهم بالضرورة يفتقدون الى النزاهة فضلا عن أي أمل في خيط من القدسية وأن العلامات التي حفظها خلال تاريخ حياته تتحول الى غابة محروقة , في آخر أيام ( فرحان ) أختلط عليه تماما ما كان حركة تنبعث من الداخل أو ما هو يأتي من الخارج , انطفأت عيناه ولم تعد حواسه تعمل بشكل منتظم , تحت ضغط هذه الفوضى التي جعلت سيرته بدون فواصل , خرج ترافقه عتمة العمى وظلام الروح ولم يعد يعنيه فيما إذا كان الظلام قد تسلل إلى كل زوايا المدينة أو إن ثمة مسرب صغير للنور يدحض الصورة الشاملة للانحطاط , سمع شيئا ينبعث من مكان ما , شيء يعرفه , لقد صادفه في كوابيسه على مدى ستين عاما , أحس بأنه يخترقه ,ولم يمرّ سوى وقت قصير حتى وجد جسده في النهر , أحسّ ببروة الماء , و لأول مرة يتذوق طعم الفاصلة القصيرة , الحياة التي بين ميتتين واسعتين , بينما جسده كان خفيفا , خفيفا كريشة حرة وهو ينزلق على الموج بين مجموعة كبيرة من الجثث في رحلتها الطويلة إلى نهايات العالم.
لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا
لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا
- نصوص
- اخبار أدبية
- آراء وأفكار
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر