الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
حصاد الخمسين - مصطفى لغتيري
الساعة 07:56 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


خمسون عاما مرت.. من يصدق ذلك؟.. طبعا علي أن أصدق.. ها هي قد مرت بأيامها وشهورها وفصولها وسنواتها.. كل يوم يرميك في حضن يوم آخر، وكل سنة تقذف بك في دوامة سنة أخرى، وانا مندهش لهذا الكر والفر، غير مصدق للعبة الزمن المزمنة التي حاكت خيوطها شباكا أسقطتني في حبالها..
 

نعم هذا ما حدث ويحدث رغم أنك لم تصدق أبدا أنك تكبر بهذه السرعة، وكلما تذكرت سنوات العمر شعرت بأن في الأمر خطأ ما، وأن الأرقام التي وضعوها يوما للعد مخادعة ومخاتلة وتلعب معك لعبة ما، فأنت ما تزال تحافظ على طراوة ذلك الطفل الذي كنته يوما، أبدا لم يغادرك قيد أنملة، ما زلت تقتنص من فوضى الحياة وتدافع أشيائها ومحاصرتها لك وقتا بل أوقاتا لتجالسه، وتحدثه حديثا شيقا، وتضحكان معا بقهقهاتك المعهودة، تتذكران معا تلك اللحيظات المليئة بالفرح وبالانتشاء، حين كان ذلك الصبي الأسمر الذي كنته، وهو يتقلب على رمال الشاطئ الساخنة فتزيد أشعتها سحنته اسمرارا حتى يصبح داكن اللون مشتعل القلب والجسد، تتذكرانه وهو يركض هنا وهناك متأبطا أحلاما بلا ضفاف، يحضر في ذهنيكما وهو يختلس وقتا للقراءة والحلم بعيدا عن صخب الحياة رغم حداثة سنه ونعومة أظافره، ثم وهو يختلق عوالم بشخوصها وفضاءاتها، فما يلبث أن يهدمها ليبني غيرها طالبا من ذلك تسلية لا مثيل لها,
 

في جلستكما الحميمية تتذكران الطفل وقد كبرت أحلامه، وهو يقطع طريقا طويلا نحو أي مكان يقصده، حتى يمنح لنفسه فرصة لمزيد من الحلم وبناء العوالم، التي سرعان ما يحطمها ليبني غيرها من جديد.
 

ياه كم كبرت بسرعة، وكم راكمت من سنوات كنت إلى وقت قريب تعتقد جازما بأنك أبدا لن تكون كغيرك: رجلا كهلا تخطو بثباث نحو الشيخوخة، يحارب الأمراض وأوهام الخلود التي تتسرب من بين يديه كرمال ذاك الشاطئ البعيد.. دائما تملكك الإيمان بأنك ذو مناعة منيعة من فيروس الكبر والشيخوخة.. في أعماق نفسك كنت تقول" وحدهم المغفلون يكبرون ويتلاشون"مدفوعا في ذلك بحسك القوي بالحياة وبانغماسك فيها بلا تردد أو تعقل ، لكن ها أنت تكبر كالآخرين، عفوا من قال ذلك.. أبدا لن تكبر، فها أنت تمتلك نفس الحماس والشغف للحياة.. ما تزال لتلك المتع الصغيرة ترج قلبك رجا عنيفا، وقد تضحي بكل شيء من اجل اختلاسها، حتى وإن اضطررت لقطع آلاف الكيلميترات، قد تخطر لك فكرة شرب فنجان قهوة في مدينة تبعد عنك بأميال لا يعدها سوى أحمق، فلا تتردد أبدا في التوجه طرا نحوها لتحقيق أمنيتك الصغيرة..عنيدا ما تزال كطفل غر لا تجربة له في الحياة، جديا في أعمالك وكأنك تقوم بعملك لأول مرة في حياتك، فلا ينال منك الملل ولا الكلل.
 

وأنت رفقة ذلك الطفل يطيب لكما التلصص على هذا الرجل الذي ما يزال يحتفظ بالطفل بداخله، فتنفتح لكما علبة الأسرار،وأول ما يطالعكما الإيمان بشيء زئبقي اسمه الكتابة ، في دوامة الحياة وانشغالاتها التي لا تنتهي تمنحه كل اهتمامك، ولا تخط حرفا حتى تقرأما يصادفك من كتب بذات الافتتان الذي ربيته في أعماقك كحيوان أليف، فأصبح لك خلا لا مناص من وجوده في حياتك، كل كتاب يرميك في شباك كتاب آخر، جاعلا من الكتابة معادلا موضوعيا لعشق من نوع آخر، يتلازمان لديك بما يشبه الحلول، فما يطل طيف أحدهما حتى تنفصل عن العالم .. تعيش اللحظة بكل افتتان وتوق، فتظنها لحظة خالدة أبدا لا تنتهي، وحين تمنحك ذاتها طوعا أو كرها، يتوقف الزمن ولا يصبح غيرها مقياسا لهذا العالم وللذات التي تداعبه.
 

تحكمت في نفسك لعبة الكلمات والكلمات، فتناسلت الحروف خلسة والشهقات، وحين تتوقف الآن لتقدم لها ولنفسك الحساب تسحبك مرغما نحو حضنها اللدن الدافئ، فلا تستفيق من لذته حتى تكون الكلمات قد أفرجت مضطرة على مزيد من الكلمات.
 

وها أنت اليوم نتأمل الحصاد، حصاد العمر، فتجد نفسك قد أوغلت في الكلمات، وقد عاهدتها وعاهدت نفسك أنك لن تقضي نحبك إلا في حضن ربة الكلمات.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً