الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
السقاف.. وخيال يدهش الشياطين
الساعة 20:23 (محمد الغربي عمران - الثورة)


المشهد السردي في اليمن أكثر ديناميكية وتجددا.. هذا ما يلاحظه الجميع.. بل أن هناك تنوعا يقترب البعض من إجتراح أفاق جديدة .. فجوائز رئيس الجمهورية للشباب .. وجائزة المقالح .. وتلك المنتديات وتعدد منابر النشر الورقي والإلكتروني لها الفضل في تفاعل هذا المشهد بل وتطوره.

هذه هي القصة تباغتنا في كل لحظة بأسماء تنشر نصوصا مكتملة والكثير منها ناضجة تدل على وعي كتابها بما يخطون. صحيح أن كثيرا مما ينشر لا يمثل الحد المقبول .. لكن ذلك الكم الذي يطالعنا يوميا بل في كل ساعة ولحظة على صفحات الفيس ومواقع التواصل والنشرات الورقية تومض بين فترة وأخرى بنصوص جيدة تبشر بميلاد أسماء تجيد الكتابة السردية عن وعي.. ومنهم من يبهرك بقدرته وخياله الواسع.

 

بين أيدينا في هذه المقاربة إضمامة قصصية من إصدارات جائزة رئيس الجمهورية للشباب 2013للقاص المبدع محمد السقاف. وسأتجاوز الأخطاء التي ظهرت في هذه الطبعة من تكرار لبعض الصفحات وبتر بعضها. إلى الإبحار مع نصوص كاتبنا وإصداره البكر الذي أجزم بأنه يعلن ميلاد نجم سردي قوي. عندما تحكي المرايا تضم ثلاثة عشر نصا . تجلت قدرة الكاتب من خلالها على تقديم الكائن المسحوق بالمعاناة الحياتية.. كما تفوق بذلك الخيال الباذخ . وفي مقاربتي هذه سأركز على سمتين .. وأقدم النصوص من خلالهما. وهها:
• كائنات منكسرة.
• الخيال الجامح.
وبطبيعة الحال فان ما يحتويه هذا الإصدار يحتاج من الكتاب قبل النقاد إلى تناول تلك النصوص من عدة جوانب نقدية .. شخصياتها.. حواراتها.. حبكاتها.. أفكارها .. التكنيك المتبع .. وغيرها من غوايات الكاتب والاعيبه.
- شخصيت مطحونة.

وبداية بشخصيات محمد المنكسرة والتي قدمها كموظف يعاني من تسلط مديره إلى ضغوط الحياة المعيشية التي تضطر ذلك الكائن إلى الاستدانة بشكل دائم."الأول من الشهر حيث صار بمقدوره الآن أن ينجو من شتائم البقال وسكين الجزار وكذا هراوة الخباز ...حتى سخرية بياع الفجل وأخيرا- وهو أصل الحكاية أولا- مؤجر البيت ووجهه العريض ولسانه السليط" هذه الجمل من نص بعنوان ما أثقل الحلم تلخص للقارئ حالة شخصية السقاف وميله لذلك الكائن الهامشي. إلى نص آخر بعنوان ديك على بياض"ويوم الخميس نشب شجار فظيع بينك وبين مديرك ونظير شجاعتك الأدبية وعدم سكوتك عن ارتكاب الخطأ وجدت نفسك أخيرا في الشارع مع شجاعتك ومؤهلاتك وبرفقة بقية شهاداتك التقديرية" وإن لم يكن موظفا فهو مطحون وبائس" ثم أنك لا تدري لماذا يتآمر الكون ضدك؟ولماذا تجري كل هذه الأفلاك التعيسة عكس ما تريد دائما؟ حتى الكلاب الضالة في الشارع متيمة بالنباح عليك" ومن نص رابع"وبدأت تحصر لي أسباب تكتل الحزن في قشرتي القلبية وتراكماته الزمنية عبر العصور وأبهرتني بسردها المتوالي " وهكذا من فتاة الجدار البائسة إلى امرأة عبث المسرح الدميمة ..وهكذا يجد القارئ نفسه ينتقل من نص إلى آخر بين شخصيات ساخطة .. تعيش الذل ..وكأن السقاف يقدم لنا شخصيته عوضا عن واقع حياة مجتمعنا وأوضاعه المتدهوره .. يحمل تلك النصوص ما يرمز إليه في نص يدين فيه البياض . ويمجد الألوان القاتمة موحيا بأوضاع البؤس والتسلط وبلادة ساسة هذه البلاد الذي تحولوا إلى قطاع طرق وعصابات لاهم لها إلا مصالحهم الشخصية والحزبية والقبلة والمذهبية . نصوص تنتصر لإنسان هذا الشعب البائس المطحون. 

- خيال شيطاني. 
ويكفي ما ذكرناه حول النقطة الأولى .. لنأتي على تناقض غريب بين خيال ممتع وشخصيات لا تملك إلا الانكسار. خلط بين قمة المعنى وقاع الواقع. في تلك النصوص أجهدت نفسي علي أجد شخصية هانئة أو مقتنعة أو راضية ببعض ما هي فيه.. فلم أجد غير حذاء تنتعل شيطانا. من منا يعجب بأعمال الشيطان .. غير أنا لو قرأنا محمد السقاف لوجدنا أنفسنا معجبين بشيطانه بل ونتمنى لو كنا في نص بعنوان حذاء الشيطان الجديد . "اللعنة على الحذاء الجديد ولكن لعنة الشياطين شيء ولعنة الأحذية هنا شيء آخر". هذه أول جملة في النص.. إذ يحكي فيه السقاف عن شرائه لحذاء جديد غالي الثمن إذ أن ثمنه يتجاوز نصف مرتبه الشهري.. يقول "أنا- بالمناسبة – كنت وما زلت لا أرتعب إطلاقا من لعنة الأحذية" لكنه يفاجأ بعد شرائه ذلك الحذاء يعيش اللعنة إذ أن حذاءه الجديد ينتعل شخصا أخر .. يكتشفه من خلال المرآه بأنه هو وقد أنشطر إلى شخصين.. يمضي الحذاء تاركا من على المرآة خائبا ويذهب ليقضي ليله في شوارع المدينة ومواخيرها .. يراقص حذاء راقصة في ماخور يعربد يشرب.. يقضي ليلته في عوالم من الخيال والمتعة كشيطان محترم.

محمد أثبت بأنه يمتلك خيالا لا يشبه خيالاتنا ..خيال لا معقول .. وفي الوقت نفسه يمنطقه بحيث يتقبله المتلقي بشغف لا ينسى. وخيال لا ينسى يعني إبداعا فريدا لا يشابهه أي ابداع .. إبداعا خاص بصاحبه .. كثيرا ما نكتب باحثين عن بصمة تخصنا.. أو أسلوب لا يشبه أساليب الآخرين .. وينجح البعض بعد عدة إصدارات والبعض يستمر حتى النهاية ولا يهتدي إلى سمات إبداعية تخصه. وهذا السقاف وقد استطاع أن يخط علامته الفارقة عبر الخيال من أول إصدار له . وأجزم بأن كاتبنا يمتلك خيالا سيمكنه من تبوء مكانة سامية بين أقرانه إذا أخلص لأدبه وثابر في التزود بالقراءة الدائمة .. وعليه أن يدرك ما صنعه في نص شيطانه من خيال في الفكرة وفي الشخصيات وفي تفاصيله الصغيرة. ليقدم لنا نصا لا ينسى فكرا وبناء.
ولا ينتقص هذا النص من مكانة بقية نصوص هذا الإصدار وإن كان يمثل الذروة.. فهناك نصوص أخرى حلق فيها محمد بخياله عاليا ليقطف لنا حكايات متداخلة في نص بعنوان عندما تبكي المرايا.وفيه يبتكر محمد شخصياته من صور على جدار مقهى عدنان.. فيحاور فتاة الجدار ويخلق عوالم من خلال المناظر الطبيعية المعلقة على الجدار.. بل وينسج حياة كاملة بين شخصيات الصور ورواد المقهى ..ليذهب بنا بعيدا حد توثيق المكان بحجرته الداخلية التي تمثل فضاء من الحرية لرواد المقهى وشخصياته الجدارية .. ذلك الفضاء الممزوج بالمتعة والعواطف الملتبسة . وبذلك يستخدم السقاف خياله ليصنع لنا نصا من الروعة بمكان فيه الترميز والإيحاء بقضايا الوطن.

نص آخر يدين البياض فيه من خلال شخصيته الرئيسة الذي يحلم بحياة سعيدة وهنيئة مستذكرا أمه التي تنتظره هناك في ريف قصي وقد تخيلها تنتظر عودته محملاً بالأموال الكثيرة. ودوما يجد شهامته تورطه في مواقف تعود عليه بالخذلان ليصل بالقارئ وبرمزية اللون الأبيض إلى الإحساس بالإحباط وكأنه يقول لنا بأن الحياة غابة ولا يمكن أن يعيش فيها الضعيف. 

ويبدو أن محمد يبدع كلما أفسح لنفسه المجال في كتابه نصوصه الطويلة .. فنص حذاء الشيطان هو أطول نصوصه وأكثرها اكتمالا ودهشة.. ثم يأتي نص عندما تبكي المرايا ثلاث عشرة صفحة ثم نص ديك على بياض عشر صفحات. والنصوص الثلاثة تمثل قدرة الكاتب على تخيل عوالم الإدهاش والتميز.

وهناك نصوص أجزم بأن كاتبنا قد كتبها متسرعا قبل أن تنضج الفكرة أو أنه كتب تلك النصوص تحت دافع الكتابة ليس إلا ومنها :المرأة تقذف نفسها في المحيط..ورأسا على عقب..وعنب في غصونه.. عبث المسرح. إذ أنه أغرق بوعي أو دون وعي في الرمز والغموض إلى حد يصعب فك ما يريد قوله النص.
أسلوب كاتبنا أكثر مرونة وحيوية في تغيير ضمائر السارد.. فتارة يخاطب القارئ كما لو كان يخاطب نفسه ..وأخرى يخاطبها.. ومرة ثالثه يخاطبه.. ورابعة يخاطبني أنا المتلقي.. وأخرى يخاطب نفسه وقد تكررت في أكثر من خمسه نصوص.. وهكذا يقدم لنا السقاف بتغيير الضمائر نصوصا حيوية فيها نبض وحركة. 

أمر آخر لم يحفل الكاتب بتسمية شخصياته في بعض النصوص وقد برزت الشخصية كقضية أو محور الحكاية .. وجل تلك الشخصيات تمتلك حساسية عالية تجاه محيطها..إضافة إلى ذلك القلق الذي يتسرب منها إلى إحساس القارئ.

الكاتب يبحر بسرده على لسان الراوي في أفاق من المتعة ..وقد أغرق في حوار الذات أو أن ذلك الراوي يستعرض معارف على لسان شخصيات النصوص. بلغة جزلا وغنية وغير مكررة.. محملة بالدلالات والإيحاءات.. وكذلك الترميز.

أجزم بأن القادم أكثر تميز.. أن وظف ذلك الخيال الذي يمتلكه الكاتب.. وما الإبداع إلى الوثوب من أرض الوقع لنحلق عاليا في سموات خاصة بنا .. بعيدا عن السير في دوائر مغلقة سلكها قبلنا العشرات .. فالفضاء أكثر اتساعا وأجمل صفحاته تلك التي نبتكرها.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً