الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
البردوني شاعر وإنسان متمرد صاغ من الحرف وطن في ذكرى رحيله السادسة عشر: من أول ظلمة إلى أخر الكلمات
الساعة 18:54 (الرأي برس/ نبيل الشرعبي)

البردوني: يأيها الإنسان الذي نزع عنه تضاريس التشبث بالمجد، وتنزل من على عرش المدى المتوهج حرفاً وكلمة، ليعلن أنه إنسان لا اكثر ....... في 30 أغسطس 1999، رحل في رحلة نحو السماء.
معذرة ما الذي يمكنني أن أكتب، وأنت تحج إلى الله في رحلتك السماوية السادسة عشر، زادك الحرف، ورداءك الكلمة، هطلت نديً تتحسس بفؤادك، وجه المسافر في ثنايا التمزق قادماً على تشقق قدميك، من أرض بلقيس.

وفي "مدينة الفجر"، تسكنك الغيوم، وتهاجر إليك تبحث عن طريقٍ "لعيني أم بلقيس"، وتطول الرحلة على امتداد تضاريس الزمن إلى الأيام الخضر، فلا يكون سوى حضور متميز يبذر أزهار الحب والعطاء.
وأنًى يممت وجهك، أبصرته الأغاني بهياً يهصر عطره لحناً، في "مرايا الليل"، فلا يلج الصباح إلا وهشيم البوح المتورد من نبؤة البرق، قد تجسدا زائير مجسداً، "زمن بلا نوعية"، بحكمة وخبرة صقلها سفره في مدراج الرؤيا.

وعلى مشارف التفسير، كانت ثمرة الخلد تفتقت عن عشقاً لازم كنهه، في انتظار المترجل عن " آناه"، لتقرأ في مآقيه "ترجمة رملية لأعراس الغبار"، ولم تزل ثمرة الخلد تفتش في امتداد ذهوله، عن "كائنات الشوق الآخر"، لتمتطي صهوة الفارس اليمني، في رحلته "جوّاباً للعصور".

ولم تكل نوافذ الضوء، لتهز بجذع الصدى، فتتنزل الكلمات تميمة شفيفة تنام عارية تلتحف "رواغ المصابيح"، سحر لروح متقدة وارفة تظلل الحياة، بقلب كبير يتسع أشتات الأنفس والأفكار بشفافية.
وعبدالله البردوني تجربة إبداعية تختصر جوهر الإبداع في صورة عملاقة ينشر المدى رؤى وبحاراً لا تنضب، نـوري الجـراح، الصحفي والشاعر العربي، في تقديمه لحوار مع البردوني نشرته مجلة (المشاهد السياسي)، في العدد 183 الصادر بتاريخ12سبتمبر1999، عبدالله البردوني الشاعر والشخصية الثقافية الكبيرة في اليمن، عاش 71 عاماً أمضى 65 سنة منها في الظلام. 

فقد أصابه العمى وهو في السادسة من عمره، لكنه مذ ذاك تحول إلى شعلة للشعر والأدب والوطنية في بلاده اليمن التي عرفت خضات كبرى وثورات وظروفاً اجتماعية أليمة. 

ويضيف الجراح: عرف عن البردوني حبه الجم للناس، وتواضعه، وحماسته لكل جديد، فضلاً عن ثقافته الشعرية الرفيعة ومعرفته العميقة بالتراث، وتضلعه بالأدب الشعبي في اليمن، وفوق كل ذلك أمانته وموضوعيته. 

فهو وإن كان من شعراء قصيدة العمود الجديدة التي برز فيها عمر أبو ريشة خصوصاً، - حسب الجراح، إلا أنه كان باستمرار إلى جانب الشعراء في اختيار الأشكال الشعرية الأنسب لهم، والأكثر استجابة للتعبير عن تجاربهم الروحية والجمالية. 

وزيادة على هذا كما يقول الجراح، كان معلماً حقيقياً من معالم بلاده، وشخصية حرة ذاقت المرارات وعرفت السجون بسبب مواقفها الوطنية.

وفي آخر حديث صحفي أدلى به البردوني كما ذكرت الكاتبة نادية مرعي، ونشرت في العدد 174من صحيفة رأي، الصادر بتاريخ17أغسطس1999، وتقول مرعي حظيت بشرف لقائه في صومعته وكان لي معه هذا الحوار: نص الحوار الأخير للبردوني.

 - تضج الساحة الإبداعية في واقعنا اليمني المعاصر بدفق من النتاجات الأدبية والفنية،  يرافق ذلك الزخم صمت بارد من قبل النقاد، على أنه لا حركة إبداعية بلا حركة نقدية.. أستاذ عبدالله ما تفسيركم لهذه الأحجية؟
- إن السؤال عن النقد والنقاد في بلادنا بحاجة إلى معالجة موضوعية ذات أبعاد، فاليمن في الأربعين عاماً الأخيرة زخمت بالكثير من النتاج الإبداعي - لاسيما الأدبي - خاصة الشعر المتطور وإن كان شكلاً عمودياً،  والقصيدة الجديدة التي بدأت مزاولة الظهور حتى الآن منذ بداية الستينيات، ومنذ السبعينيات حتى الآن تكاثرت الاسماء الشعرية والاسماء القصصية، وكانت الاسماء القصصية اكثر في عدن من أي مدينة يمنية، وكان تكاثر الاسماء الإبداعية عموماً في اليمن منذ السبعينيات بفضل الوجود الجامعي ومعرفة التعليم الأكاديمي وكثر الشعراء والشاعرات والمبدعون عموماً، ومع هذا كله فإن غياب النقد يرجع إلى ثلاثة أسباب:
أولاً : إن الأديب أو الفقيه اليمني لا يضيق من شيء كما يضيق من النقد، ويتعوذ بالله منه  ويعتبره معيبة، يفهم ذلك المتابع لكتاب «الغاية في أصول الفقه» لحسين بن القاسم؛ قال القارض:
«لله من غاية أعوذها بالله
من رأي كل منتقد»
فهم يرون الانتقاد اعتراضاً وتجهيلاً وإدراكاً لمواطن العجز أو خلق معايب ليست موجودة، ويقبلون الخصومة دون النقد.

ثانياً : إلى الآن لم ينقطع أديب للنقد في ذاته، مثل بعض النقاد، في البلاد الأخرى مثل «محمد مندور، وعزالدين إسماعيل، وحنا عبود، وإبراهيم عبود، وميشيل عاصي، وعبدالجبار البصري...إلخ»، فلا نجد في بلادنا من انقطع للعمل النقدي وحتى من يقوم بالنقد مقاربة فإنه يسميها قراءة - تخلصاً من مسؤولية النقد - والناقد يتفرغ للعمل الابداعي النقدي ويتابعه ويتطور معه ويطوره، مثل الناقد «محمد النويهي» من اكبر نقاد الشعر الحديث بدأ، بالشعر القديم وانتقل الى التفعيلة ودعا الى الشعر الحديث، كذلك الناقد الكبير «عبدالقادر القط»، وغيرهم ممن يتابعون الإبداعات ويميزون بين ما هو خطوة للأمام وما هو غير ذلك وما هو  فن معاصر جيد وجديد وبين ما هو رتيب، فالجدة  لا تظهر إلاّ في الإجادة، كما أن الاختلاف والتمايز بين الاتجاهات الإبداعية يخلق المعارك النقدية الإبداعية بين السلفيين والحداثيين، وكانت تلك المعارك أحياناً تهدف إلى زوال الحديث والقضاء عليه وليس مجرد نقده بل قبوله أو رفضه.

ثالثاً : قلة  الإبداع على كثرة النتاج، بمعنى عدم التميز والجدة التي تدفع الناقد للكتابة فلدينا كم كبير ومبشر لكنه أو لنقل معظمه لا يرقى إلى مستوى الإبداع، ولابد من مكاشفة أنفسنا بأنها تجارب جيدة تدل على مستقبل إبداعي إذا اتخذت طابعها الخاص وتميزت بما تحدثه من ردود أفعال.

- يرى البعض أن النقد مهمة صعبة، بينما يستسهلها البعض الآخر وثارت مؤخراً مناوشات متبادلة حول النقد والكتابة الانطباعية أستاذ عبدالله.. أين النقد في كل ذلك؟
- النقد معرفة مواطن الجمال والدخول فيها، مواطن القبح والدخول فيها منطق الإبداع والجدة وإبرازه، والناقد تؤثر فيه الظروف والتغييرات الثقافية، ولابد أن يتميز الناقد بالموضوعية وثقابة الرؤية والقدرة على الاختلاط بالمؤلف والتداخل معه حتى يكاد أن يكونا شخصية واحدة ورؤية مشتركة فيغدو الناقد شريك المبدع هذه المشاركة تدفعه للإبداع والكتابة النقدية التي ليست مجرد انطباع مع أو ضد، وقد يتطرق الناقد لا بعد مما قصد المبدع، فالنقد رؤية النص ورؤية ما وراء العبارة، وما استعمال الرمز، ولأي غاية، وهل الدلالات والأدوات، وما بالنص من الظواهر والكوامن.. عفوية مشروعة؟ أم أنها مفتعلة مقحمة؟ وليس النقد مجرد التوصيف والإحصاء، ولا مجرد انفعالات عاطفية نحو بعض الكتابات التي تكون بفعل الصداقة، أو إجابة الطلب والمجاملة والتشجيع، برغم ما قد يكون فيها من بدوات نقدية جميلة أو تنبؤات في محلها أو في غير محلها، والنقدات، في مجالس القات والمناوشات على صفحات الجرائد ليست من النقد في شيء، بل إنها تشبه ما تتنابز به بعض النساء في «التفرطة»،  وأتصور أن ما دار بين المحمدين من مناوشات ليست ذات أسباب أدبية أو سياسية، فكل واحد أدلى بما في لسانه، ومايجول في خاطره عفواً، وليس ما يتفق مع أدبيات النقد.

 - أستاذ عبدالله - في كتابكم «رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه» كانت لكم تناولات نقدية، ما معاييرها، وهل أنتم تقبلون النقد؟!
- كانت عندي أفكار في النقد عندما كتبت ذلك الكتاب، وكنت لا أعتبر الشعر إلاّ إذا كان وطنياً متحمساً، أو كان ثورياً متحمساً، لأننا كنا نخوض أربعين جبهة من الحرب، وفي تلك الفترة ما كان يمكن للشعر إلاّ أن يكون كذلك، وقد تركت بعض الاسماء الشعرية التي كانت موجودة آنذاك ولكنها لم تكن ذات أنفاس حماسية، وقد وصفتها بالبعد عن الوطن، والغربة في سبل البحث عن مستقبل يمن جديد، أما بالنسبة لي والنقد فأنا أرحب بكل ما كتب وما يكتب وما سيكتب عني، معي أو ضدي.

 - ماذا عن الحراك النقدي الأدبي عربياً؟
- كان لحركة النقد الحقيقية التي تزعمها «محمد مندور، أنور المعداوي، أو في مصر و«مارون عبود» في بيروت، «عيسى الناعوري» في الأردن، وغيرهم أثر عظيم في تطور وتغير الحركة الإبداعية، ونقد هؤلاء يعتمد على النص كيف عبر وتخيل وماذا أضاف الى سابق عليه، وخلق ما يسمى بالأدب الخلاق وما يسمى بأشعار الشاعر بوجود الشعر وأشعار القارئ بحس الشعر فيه من الأدب المقروء؛ إذ يحس بأن الأديب قد عبر عما يحس به هو، فكان لأطروحات وملاحظات النقاد حول الإبداع صدى لدى المبدعين ومن جدلية العلاقة بين النقد والإبداع تكون الجدة والتطور والحراك.

فمثلاً يرى «أنيس داود»: أن حشر الأسطورة وبعض الرموز لا يؤدي مكان السياق الشعري الذي تحمله القصيدة، ولا ترمز إلى شيء يقبل التعريف، وهكذا ظهر مناوئون ومؤيدون، وكانت مصر أم الشعر وأُم النقد والنشاط والإشعاع.

 - كتب الناقد يوسف الشاروني كتاباً بعنوان «الثلاثة الروائيين» ماذا عن الرواية العربية ونقدها؟!
- الحقيقة أن يوسف الشاروني رتب روائييه كما يلي الأول نجيب محفوظ والثاني محمد عبدالحليم عبدالله والثالث يوسف السباعي، وقد استغربت عندما قرأت الاسماء واستغربت وجود السباعي إلى جانب محفوظ ومحمد عبدالحليم وكنت أتوقع أن يكون «توفيق الحكم« أول الاسماء، وقد تناول في هذا الكتاب اندفاع هؤلاء الكتاب إلى الرواية وقال إن محمد عبدالحليم، عاطفي يجنح للشعر والفلسفة الرومانتيكية والميل للمأساوية في الحياة والمغامرات الغرامية البائسة نحو ما جاء في روائيته التي صارت فيما بعد فيلم «لقيطة»، أما نجيب محفوظ فقد اعتمد على الواقعية الاشتراكية والسياسية وبدأ مستخدماً الرمز الفرعوني على نحو ما ظهر في رواياته: «كفاح طيبة»، «رادوبس»، «عبث الأقدار»،  وكلها تاريخية ثم انتقل إلى الرواية الواقعية مثل روايته «القاهرة الجديدة» والتي كانت بعنوان «فضيحة في القاهرة»، وما كان للرأي العام من أثر فيها وتأثر بها والنقد الروائي يحتاج لرؤية عميقة وخبرة وقدرة على الاستنطاق، وقد كتب «سيد قطب» - وهو اخبر ناقد وأكثر امتلاكاً للكلمة من جميع النقاد - كتب بعد صدور «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي» لنجيب محفوظ: إن نجيب محفوظ من الآن لا نعتبره من الروائيين العرب ولا من روائيي الشرق، بل إنه ترقى إلى مصاف ديستويفسكي وبلزاك وايميل زولا، فنجيب من الروائيين العالميين، ولو كان أبطاله محليين، فالشمولية والانفتاح عالمي، فسيد قطب أول من رشح محفوظ للعالمية، وسيد قطب ناقد حصيف ذو قدرة نافذة، غير أنه ما لاقى من رفاق الكلمة آنذاك المكانة التي يستحقها، وكان شاعراً وأديباً مرهفاً، ثم اتجه للكتابة السياسية والدينية.

وهكذا نلاحظ الرواية والنقد الروائي وانعكاساتهما على الواقع المحيط، وبرغم ما أحيط بنجيب محفوظ من الأقاويل إلاّ أنه ما يزال يرفد الرواية الإنسانية بما يدهش فبعد «زقاق المدق» والثلاثية ظن النقاد أنه قال كل ما عنده، بل إنه صرح في استجواب صحفي بأنه وضع كل معارفه وخبراته الاجتماعية والنفسية في الثلاثية، وبعد شهرين أصدر روايته «اللص والكلاب» وهي تفوق كل ما سبق وانه ما يزال يملك ما يقول ويحسن القول، وفيها صوّر الثورة والتراجع عنها، والخونة وهم يهتفون لها ويرتزقون منها، وقد تناول «غالي شكري» نقد روايات نجيب محفوظ من وجهة اجتماعية وكيف يخلق النموذج الروائي، وما لذلك من أثر، كذلك كتاب «محمد مندور» «النقد المنهجي عند العرب» وما لهذا الكتاب من أثر في تعريف المثقف العربي بأثر الظروف والتغييرات عموماً في الإبداع وهكذا نجد هؤلاء النقاد خلقوا رؤى وآفاقاً جديدة لتناول الواقع ومعالجة معطياته، كما نلاحظ نشاط القصة والرواية ونقدهما في المغرب العربي كما جاء في رواية «الخبز الحافي» والتي تناولت الحياة الاجتماعية وعرى الجوع والفقر المدقع كما هو في ملايين البيوت الفقيرة في العالم وفي الجزء الثاني من الرواية واسمه «الصعاليك» أرخ الكاتب المغربي.. للصعاليك المعاصرين الذين يختلفون عن صعاليك التاريخ العربي من شعراء العصر العباسي وشطارة، وعياروه، فقد تناول الصعاليك الذين يتجسدون في الخدم والنوادل في الأفران والمطاعم والفنادق الذين يحملون أشهى الطعام والشراب وهم جوعى، وقد أُلزم أصحاب الفنادق والمطاعم إطعام العمال قبل أن يبدأوا عملهم في فرنسا، هكذا يخلق الإنسان أفكاراً خيرية تجد سبيلها للوجود والتنفيذ وإن على يد الغير وإن بعد حين وكفى هؤلاء المبدعين نبلاً أنهم خلقوا مثل تلك الأفكار والمعالجات المرهفة.

 - هناك عصور ازدهار ثقافي للمجتمعات وعصور انحطاط تتأثر بعوامل الواقع، ماذا عن إبداع المرأة؟
- تتبجح بعض الجهات السياسية بأنها نقلت المرأة، وأثرت في واقعها والحق أن المرأة حاضرة في المجتمع، واتسع مجال حضورها بتطور المجتمع ولابد أن نصف تجربتها بأنها أقصر من تجربة الرجل نظراً للمواقف والمواقع التي تؤثر في تجربتها، والمرأة خلقت من إبداع الظروف ومن تحول المجتمع، وتلك المكانة غير كافية، ينبغي أن يكون لدينا خمسمائة أو سبعمائة مبدعة كممثلات لأدب المرأة في مختلف الفروع والمرأة في مختلف المناشط الثقافية والإبداعية تظل أعمالها أقل من الرجل، نتيجة عدم تفرغها تماماً للعمل الإبداعي، وحتى في بعـض الحالات نجد بعض الأديـبات مقلات رغم تفرغـهن للعـمل الأدبي سواءاً عربياً أو عالمياً مثل بنت الشاطئ، وسهير القرماوي، وكوليت سهيل الخولي ولميعة عباس عمارة، وسناء الدروبي، وحتى سيمون دي بوفوار الفرنسية.

ومهما يكن فتجربة المرأة مرهونة بأدوارها المختلفة وتطورها واجتهادها ونشاطها في التجربة الحياتية عموماً، إلاّ أن هناك من المبدعات من يقتربن في قوة وغزارة ما ينتجن من أعمال أدبية وفنية مثل «غادة  السمان» في رواياتها ذات التصورات والتحليلات العميقة ذات الحس الأنثوي، ونوال السعداوي الأكاديمية التي تهتم في دراساتها الجوانب البيولوجية والاجتماعية والتاريخية للمرأة. أما عن مستقبل إبداع المرأة في اليمن فمستقبل البلد كلها معلق بجناح شيطان!
- لم يعد العالم قرية صغيرة، بل أصبح غرفة صغيرة يرى ويشعر كل من بها ببعضهم بعضاً، في ظل سياسة العولمة وتكتل الأمم شيعاً وأحزاباً كيف ترون المستقبل العربي في إطار المستجد من التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عموماً؟
- علينا معرفة ماذا فعلنا اليوم لندخل في الغد، فالناس الذين بلغوا الغايات المختلفة والتطورات الحادثة بدأوا منذ القرن الخامس والسادس عشر الى الآن، والمستقبل لا يأتي ارتجالاً، وإنما هو صيغة جهود متلاحقة ناتجة عن تجارب وطنية، وهنا لا يستطيع المواطن لدينا أن يقدم تجارب وما يعاني فنحن لانزال نعاني من سيطرة المقولة «ليس في الإمكان أفضل مما كان»، وبرغم تطور الغرب فلا خير فيه فقوتهم تقوم على إضعاف الآخر ومصادرته وسلبه، والحق إن الشعوب جميعاً تخضع لرأي دولي واحد، والمستر ويلز أول من دعا إلى العالمية، العالم الواحد، لكنه لم يدع إلى عالم تسيطر عليه دولة واحدة تحكم العالم وتصادره، ومع ذلك فقد صدمت تلك القوة التي تحاول بواحدية السيطرة على العالم بمواجهة العراق لها، وصموده أمام ضغوطها ونفس الصدمة لقيتها من يوغسلافيا التي واجهت القصف المستمر لثمانين يوماً وهكذا تهتز فكرة وجود قوة واحدة مطلقة تحكم العالم!!

- دعا فلاسفة اللغة في مطلع القرن الحالي إلى ما أسموه بفلسفة اللغة العادية، كما تجنح د. يمنى العيد إلى أن الأدباء يثرون اللغة بفصحنة الألفاظ التي يستخدمونها في واقعهم المعيوش، فما رأيكم في بعض الألفاظ الموغلة في القدم والتي يتبعها بعض الأدباء الشباب في كتاباتهم؟ وهل يعد ذلك بعث أم نكوص؟!
- في الحقيقة الكلمة المفردة جانب مهم في اللغة لكنه ليس مختاراً ولا منتقى فاللغة تتكون مما يتداوله الناس ويتفاهمون في حياتهم، وهناك لغة ارتبطت بالفقه والعلوم والأدب والتاريخ لكنها تتحد مع لغة الحياة وتأتي منها، وهذه اللغة على وحدة أصلها إلاّ أنها تختلف حسب استخدامها من النثر الى الشعر الى الخطابة…إلخ، والكلمات التي يقتحمها الكاتب تظل مفردات لا حكم عليها ولا قيمة لها إلاّ بما تؤديه من الدلالة والمعنى، ولذا تتمايز أساليب الأدباء التي لا تخلقها المعاجم والتراجم وإنما تخلقها الفكرة والرؤية التي تفضي الى تصورات وصور شعرية/شعورية بديعة تحدث إيماضات تخلق لغتها ومفرداتها المعبرة بالمعنى الذي يحرك الحاسة الأدبية ويوقظ الشعور بالخلق والإبداع والصدق الذي يشعر به المتلقي بعيداً عن التنقيب والغوص والافتعال عموماً.

- في الحداثة ترون أن لانهاية لأية صياغة فنية لأن الجديد يؤصل التجديد كما يستحدث الأجد؛ هل ما بعد الحداثة - وفقاً لتلك الرؤية - تستمد أصالتها من الحداثة؟
- الحداثة جارية على ما أحدث العصر وما سوف يستحدث وليس معناها أنها أساس لما بعد الحداثة والتي تعني العدم «عدم الحداثة» فهذه التسمية في غير محلها، وإن بمعنى الترتيب، فالتسمية لابد أن يكون لها مسمى، وكلمة ما بعد الحداثة قائلها لم يفكر في معناها ودلالتها، وعلى أية حال فنحن لم نحقق الحداثة، فكيف ما بعدها؟!
والواقع العام والتقايس الزمني ذو دورات تحمل الواحدة بذور ما يليها وليس كل جديد هو الأفضل - مثل تطور الأسلحة - فهذه حداثة هدامة، تفتك بالجنس البشري، وقد تكون رؤية عصر ما أكثر حداثة من بعض الرؤى المعاصرة!
 - في التيارات الشعرية المعاصرة بمدارسها وأصولها المختلفة، تبرز قامات عملاقة، كيف ترون تجربة الدرويش، أنسي الحاج وأدونيس؟!
- هناك وجوه مميزة في الاسلوب، في الأغوار البعيدة، وإذا لاحظنا الاسماء الواردة في السؤال فهي كذلك؛ إن أدونيس رائد المدرسة التي تعتمد على الحالة الشعورية وفكره الذي كان وهي تخالف الذي يكون منذ أن أصدر ديوانه الأول - شعر عمودي - بدت فيه لمحات غريبة مركبة تركيباً رمزياً ثم انتقل إلى التفعيلة في ديوان  «أوراق في الريح» ومنه نشعر أنه وقف على مرسى في الدورة الفنية، ثم انتقل في «أغاني مهيار الدمشقي» فبين طريقه الشعري وفلسفته العميقة يقول في قصيدة حوار:
«من أنت، من تختار يامهيار؟
أنىّ اتجهت، الله أو هاوية الشيطان
هاوية تذهب أو هاوية تجيء
والعالم اختيار..»
وتسيطر تلك الألفاظ والمصطلحات على مفردات قصائده، وهو متميز في استخدام الرمز والقناع وكل تسمية لديه كما يشعر بها في شفافية الخلق الفني، وأهم مقومات شعره الغرابة.

محمود درويش شاعر من كل الوجوه، بدأ بالعمودي وتطور بعد ديوانه «عصافير الجليل»، و«عاشق من فلسطين» و«قهوة أُمي» في ديوان «آخر الليل» والذي حمل بذور الجديد الذي نلمسه اصداره بعد انتــقاله إلى القاهرة، وفيه تعاطى مصطلحات أدونيس في ديوانه «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» وهي قصيدة واحدة طويلة، وعندما قرأها في دمــشق كان الحضور لا يقل عن مائة ألف مستمع، مع أن ذلك لم يعد مقياساً أو دليلاً على شاعرية الشاعر، وقد نجح في الروي على مصطلحات أدونيس لكنه لا يملك القاعدة الفكرية والفلسفية كأدونيــس، ورجع مرة أخرى إلى ذاته في ديوانه «المحاولة رقم7» محاولاً اختبار نضجه الأدونيسي ولم يــفلح ولم يدن منه فرجع للدرويش مسافراً في الغربة والغرابة، وعاود نشر بعض القصائد قتلاً للصمت مثل «وردٌ أقــل» و«هي أغنية»، وكانت قصائده تلك لتزجيــه الوقت وأخيراً أصدر ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» أما مجموعته الأخيرة، الجديدة فهي تكاد تختلف معجمياً عن تجاربه السابقة كلها وهناك محاولة إغراب وجده ونضج في ديوانه «سرير الغريبة» وبه يكون قد نجح في تجربة الحداثة كما هي عصرياً وفلسفياً، ونجح في محاولة الخروج إلى غيمة أدونيسية وتجربة التجربة الشعرية ذاتها، ووصولها إلى شاطــئ وغاية متميزة فهذا الديوان يبدو خلاصة تثقيف وخلاصة تجربته وصياغة ثقافة تختلف عن الثقافة التي جاء منها فجاء الديوان يحمل قوة من الموسيقى المنـسقة والغريبة، وكأنه يعزف بأربع آلات أقلها الصوت، أما النغمة فهي ترجع إلى غرابة المعنى ورفاهية الجملة وحسن تبرج المعنى الذي لا تكشفه مصابيح الدنيا مثلما تكشفه ومضة خاطر أو لمعة رؤى يقول في قصيدة «لا أقل ولا أكثر»  من «سرير الغريبة»:
«أنا امرأة، لا أقل ولا أكثر
أعيش حياتي كما هي
خيطاً فخيطاً
وأغزل صوفي لألبسه، لا
لأكمل قصة «هومير» أو شمسه
وأرى ماأرى
كما هو في شكله
بيد أني أحدق مابين حين
وآخر في ظله
لأحس بنبض الخسارة،
فأكتب غداً
على ورق الأمس: لا صوت
إلاّ الصدي...»

- أنسي الحاج فاتح بوابة الحـداثة، فمـــنذ أصدر ديـــوانه الأول «لن» سنة 60م أبدى جرأة وتـــميزاً، ودعا للقصيدة المتطـــورة، عـــمل في الصحافة في صحيفة «الحياة» ثم انتقل الى «النهار« وخاض في السياسة، ثم أصدر ديوان «الرأس المقطوع» والذي بدت فيه روح الجدة والغرابة ثم تلاه ديوان «ماضي الأيام الآتــية» والذي جسد رؤية فلسفية عميقة أكثر قوة ونضجاً تبعه ديوان «ماذا صنعت بالذهب؟، ماذا فعلت بالوردة؟»، وهو تجسيد لحركة الشعر المعاصر عالج فيه الحب والجمال والخير والحرية بعمق يتجاوز حد الدهشة، تلاه ديوان «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» تحول مغرقٌ في الحب والحياة، ثم أصدر ديوان «خواتم» جـ1، جـ2، ثم «الوليمة» يقول في قصيدة «تعريف»:
«.... الحب زهرة الشفقة
السماء سقف السجن
ولكن لا شيء يخنقني
لأن غرفتي بلا جدار
ومعلقة بين الأرض والسماء».
وأخيراً أصدر ديوان «كلمات كلمات كلمات» في ثلاثة أجزاء.

وأُنسي الحاج متحرر من الهواجس والالتزام بما هو تقليدي، بوعي بالذات البشرية بحس عميق يدعو للتفاؤل بمستقبل الشعر العربي، وهؤلاء الشعراء الثلاثة يستحقون دراسة بعد استحضار أعمالهم كلها وليس الاعتماد على بعض الأعمال وهذه العجالة لاتكفي لتقييم أي منهم وإنما هو تعريج وإلماح ليس إلاّ، فكتاباتهم مبشرة علاوة على كونهم موجــودين في أمة/ أمية، ولا أظن أن قراءهم مثل قراء «آراجون» أو «إيوار» أو «بوشكين» فهؤلاء آية في الإبداع والخلق الإبداعي.

- في فاتحة مدينة الغد أهديتم القارئ حروفكم - على مآسيها عذاب بديع - واليوم وبعد هذا العمر - المديد إن شاء الله - في معترك لذة/ ألم الإبداع كيف ترونها؟
- في الحقيقة لحظات الإبداع هي في ذاتها غائبة عن نفسها وغائبة عن الوجود الذي نبتت في تربته، أو تعلقت بجناحه، ولا يدخلها الإنسان وهو يحمل اعتقاداً فكرياً أو فلسفياً، وإنما يجدها تقتحمه بلذة وعذاب، وان عذاب الخلق غير عذاب الموت، فالمبدع يتعذب ليخلق، يحترق ليضيء من رماده، هكذا هي لذة الإبداع وألمه، والإمكان لا يكفي وإنما تجسيده وتحريكه وتجربته الداخلية من إنسان الإنسان - داخل الداخل - ومن إنسان الوسط بين المعنى وبين العبارة، وليس كل ما يقوله الشاعر أو بعضه دليل على أنه أحس عذاب الحرف وعذاب إنطاقه، غير أن هذا العمل لا يخلو من تعب يلذ للقارئ الشعور به في محاولة فهم المبدع، وكما يقول أبو تمام :  «فإن طريق الراحة التعب».  وأنا عندما أكتب لا أتقيد بماذا سيقال وكيف سيكون أثر كذا.. بل إن المبدع يقع في ورطة الجميل بعض القبض على الأجمل.

- لا تخلو كتاباتكم وإبداعاتكم عامة من التفلسف والعمق الفكري، فقد جاءت بداياتكم مضمخة بالدهشة والتساؤل والحيرة هل تغتصب الفلسفة أدبكم، أم تنقاد الدفقة الأدبية للفكرة؟
- بيني وبين الفلسفة صلة أي قارئ، ولم تعد الفلسفة حبيسة الأبراج العاجية والألفاظ المبهمة، وأنا أحب الاطلاع على الفلسفة، وأجدها تفرض نفسها بقدرة وتمكن، ولايمكن أن نجد كاتباً أو روائياً أو أي مبدع دون قاعدة فلسفية، فذوو القاعدة الفلسفية كالمتنبي وأبو العلاء، ودانتي وخليل حاوي وبوشكين الذي قامت إبداعاته على فلسفة «إكسر كل ما يقف هناك، قف وراء المكسور العلي» وهــكذا والقاعدة الفلسفية تتجلى في إبــداع المبدع ويحتاج لإيصالها والتعـبير عـــنها الى قدرة وتمكن كأبي تمــام، والفلــسفة تبقى منصة تــعين على الوثــوب الـشعري على أنها ليست في حد ذاتها عمــلاً شعرياً وإنـــما بالحكمة والقياس والتأمل يتكون العمل الشعري، بعيداً عن الجدل أو قريباً منه بما يســمو عن الصراع ما بين فلسفة التفــسير والتغيير، على نحو ما دار بين ماركــس وهيــجل، وقـــد سُئل «جــوته» عن رأيه في بناء عمارة ما، فقال «هذه قصـيدة صامتة» فالفــلسفة جانب مــهم من الثقافة.

- ما يربو عن عشرة إصدارات شعرية رفدتم بها ديوان العرب، وعدد كبير من الدراسات والإبداع النثري.. ماذا بعد «رجعة الحكيم بن زائد» وما جديدكم النثري، وأين وصلتم  في مذكراتــكم، ستطــبعونها - أم ستظل قرينة العم ميمون؟!
- نعم .. هناك محاولة لإصدار ديوانين أو حتى واحد منهما، فقد تغيرت الأحوال والأهوال حتى أشعرتني أنني لا أدري متى سيكون ذلك؟! فدور النشر كانت تطبع ويغطي البيع نفقة الطباعة. إلاّ أنهم في الفترة الأخيرة قالوا إن الكتاب أصبح غير مستهلك، مما دفع بعض الدُور إلى الطباعة وإنزاله إلى معارض الكتاب وبيـعه بكميات هائلة كما فعلت دار الحداثة، خاصة ديوان «وجوه دخانية» و«كائنات الشوق الآخر» الذين يسمونه شعر الشعر، والقضية عموماً تتعلق بالناحية المالية، أما في الكتابة والدراسات فأنا أعمل في ثمرة العمر كله كتاب «الجديد والتـــجديد في الثــقافة اليمنية» من أول الحضارة المعينية إلى الآن ويشمل الشاعر والفنان والفقيه والخطيب واللغوي...إلخ.

والكتاب يناقش قضايا فكرية وفقهية وشرعية إلى جانب القضايا الإبداعية عموماً، فعلماء اليمن وفقهاؤها أجلاء ومطلعون على الثقافات لاسيما الثقافة الفيثاغورية، والمذكرات تسير بشكل جيد، أما رواية «العم ميمون» فهي مكتملة، لكن الطباعة في علم الله، فقد ضعفت مالياً وجسمياً...، وأنا مدين بحوالي 20.000 دولار تغطي الطباعة جزء منها والحوالات، ولكن مغامرة الطباعة في ظروفي هذه صعبة وما باليد حيلة.
ومن خلال هذا الحوار والذي يعد الأخير للبردوني، كما ذكرت الكاتبة نادية مرعي، نترك للقارئ أن يكتشف البردوني من خلاله. 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً