الخميس 28 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
مروان الغفوري
عارنا في الرياض. [1]
الساعة 23:17
مروان الغفوري

لا يوجد مدخل درامي للكتابة عن عارنا في الرياض أفضل من هذا:
جلبة في الداخل، وأصوات. يُفتح باب الغرفة من الخارج ويغادر مجموعة من الرجال في ملابس بيضاء. يقول آخر رجل غادر العمارة الأنيقة "يريد أن يرهن رقابنا وأبناءنا في يد سارق"، فيهز الرجل الأول رأسه يمنة ويسرة. بعد ساعة يغادر الرجل العسكري الكبير، يُرمز إليه بالأحرف"م.ق.د.ش.ي"، ذلك المبنى ولا تبدو عليه علامات قلق أو خيبة. بعد منتصف النهار يلتقي مجموعة مختلطة من العسكريين اليمنيين والعرب، ويقص عليهم ما جرى على طريقته.

عشية ذلك اليوم يهاتف رجلٌ من رداع، في الثانية والأربعين من عمره، أحد الرجال الذين حضروا آخر لقاء مع الجنرال العسكري "م.ق.د.ش.ي". يسمع الرجل من البيضاء هذه الكلمات فيصاب لسانه بالعجز التام "اشترط علينا القيسي، نحن نعرِف من هو القيسي. نعرفه أم لا؟ نعرفه؟ هل أنا مخطئ؟ نحن نعرفه، البيضاء كلها تعرفه. هاه".

يرد الرجل من رداع "أيوه، أيوه. أكمل".
"اشترط علينا آخرين من الذين يبيعون البشر كالماعِز. وإذا لم نقبل بقيادتهم فلن يحدث شيء."
"ماذا تريد أن تقول؟ لن يتشكّل اللواء العسكري في البيضاء؟ لا فائدة؟"
"والله لا أقول لك إلا خيراً. مع هؤلاء الناس لن يتشكل شيء، أي شيء".

.. راح الجنرال يتجوّل تلك الليلة في مول تجاري في الرياض برفقة مقرّبين منه. حدّثهم عن قصره المهيب الذي فجرته العصابات. مازحه أحدهم ب"الرئيس القادم" وعلّق بتواضع جم معروف عنه "ربنا كريم"، وقال إنه سيفعل ما بوسعه لنجدة اليمن. قاطعه أحد الرجال، وله أنف معقوف مثل أنوف اليهود "ماذا حدث بشأن اللواء العسكري في البيضاء؟" فتجاهله الجنرال. فكّر ذو الأنف المعقوف بإعادة السؤال لكن الجنرال كان قد ضغط على الزر الأخضر وراح يرُد على مكالمة. وذهب يهز رأسه، ويردد "لا حول ولا قوّة إلا بالله، مصيبة يا أخي. هؤلاء مصيبة". استمر الرجل على الطرف الآخر، ويبدو أنه كان سياسيّاً، يقص على الجنرال المعلومات التي وصلته من فيللا رئيس الجمهورية: "يراوغ، لا يريد مساندة جوّاس. قال لأصحابه إن انتصار جوّاس سيلحق العار برجال أبين. سيقولون هرب رجال أبين وانتصرت ردفان والضالع. راوغ أيضاً في دعم شبوة، واحتال على التحالف. قرأت الرسائل التي كان يرسلها باحاج قبل استشهاده إلى تلفون أحد الإخوة. كان يبكي، ويستنجد. كان مكروباً. لا يعرف الرئيس ما الذي يجري على الأرض. سيطر عليه شاب مهووس وانتهازي".

ذهب الجنرال م.ق.د.ش.ي. يهزّ رأسه ويحوقِل. لم يجرؤ على قول كلمات كثيرة فقد منحه الرئيس منصباً رفيعاً. ظهيرة اليوم التالي كان يجلس بين يدي الرئيس وتحدثا كثيراً وضحكا لأتفه الأسباب. تمهّل الرئيس لثوان بعد مغادرة الجنرال مكتبه، ثم ابتسم للرجل الثالث الذي كان حاضراً اللقاء وغمغم "هذا الرجل يحب الفلوس لكنه وطني". "فعلاً" قال الرجل الثالث. أضاف "سمعت هذا قبل أيام من رفاقه. لا يمكنه أن يبيع الوطن. لكنه، للأمانة، يحب الفلوس".

مرّت ليلتان على ذلك اللقاء، وحدث ما يشبه الصدفة. التقت مجموعة كبيرة من الساسة والعسكريين في الفيللا التي يقطنها شخص سعودي مبجّل. تحدثوا عن الرياض، وعن عبقرية الملك عبد العزيز. وكان بين الحاضرين رجل يعرف الكثير عن "عاصفة الصحراء" قبل ربع قرن. ذهب يغرق الجلسة بالمعلومات وتفاجأوا جميعاً وهم يتعرفون على دور "الجنرال عسيري" في تلك العاصفة. قال الرجل المبجّل "كان لا يزال صغيراً، عائداً لتوّه من الأكاديمية العسكرية من فرنسا. الأكاديمية التي خرّجت نابليون. التحق مباشرة بأعظم حرب". علّق سياسي يمنيّ نسي أن يزيل قشرة طماطم صغيرة علقت بين أسنانه منذ الصباح "فما بالك بهذه الحرب؟" 
وهزّ المُبَجّل رأسه راضياً.

إلى اليسار من المبجّل السعودي كان رجل يقال له أبو راشد يتصفح الفيس بوك على موبايله ويساهم في الجلسة بضحكة. هكذا من آن لآخر. رفع أبو راشد يده وقال "اسمعوا اسمعوا. خبر عاجل من وكالة نبض. المقاومة الشعبية تحكم سيطرتها على سناح والمواقع إلى الشرق منها". صاح المبجّل "الله أكبر" ثم التفت إلى "أبو راشد" وسأله "في أي محافظة تقع سناح" فتدخل جنرال يمني قائلاً" في شبوة. أظنها بين عتق وبيحان" لكن سياسيّاً جنوبيّاً تنبه للخطأ الفادح وتدارك الأمر "سناح في الجنوب، إما في لحج أو في أبين." وقال سياسي شمالي اشترك في حوار الرياض "أو في الضالع" فقال السياسي الجنوبي "بالفعل، أو في الضالع".

تلقى أحد الحاضرين رسالة من تلفون بن مبارك. أبلغه الأخير رغبة الرئيس بلقاء رجال من الجوف وبكيل. وعندما التقوا معاً في فيللا الرئيس عبده ربه منصور هادي راحوا يتبادلون النكات والتعليقات عن هزيمة العكيمي وأبكر والإصلاح في الجوف، وانفجر هادي ضاحكاً. قال بن مبارك وهو يحاول أن يوقف ضحكته "الر.. الرئيس لم يضحك هذه الضحكة منذ الانقلاب" وهزّ هادي رأسه للأعلى والأسفل وهو يمسح دمعتيه. ويبدو أن رجلاً بكيلياً، لم نتعرّف على اسمه، استفزّه المشهد فدحرج بعض الكلمات الهادئة من قبيل "لكن الجوف ضاعت على الدولة وليس على الحسن أبكر. خسرنا الجوف ثاني أكبر محافظة في اليمن". دون أن ينظر إليه، فقط أشاح بيده اليسرى ساخراً قال هادي "باترجع، كله بايرجع. الحوثيين جالسين يدوروا الإصلاحين وخربوا علينا كل حاجة وهم يدوروا الإصلاحيين. يا أخي يشلوهم بس لا يخربوا البَلاد. إيش صلحنا بهم إحنه"؟

انضم إلى الوفد القبلي وزير الخارجية ياسين. جلس إلى جوار هادي، وكان المكان شاغراً. تجاهل الموجودين وقال بتوتّر ملحوظ "الدولة ترفض ما قاله بحّاح في مؤتمره الصحفي. سخِر من مبادرة علي ناصر محمّد بطريقة لم تكن موفقة". وعلّق هادي "الدولة ترفض. الدولة ترفضه. الدولة دولة مش مؤتمرات". فهم رئيس الوفد رغبة هادي بالاختلاء بوزير خارجيته فغادروا مسرورين. اعتدل ياسين في جلسته وتحدث إلى رئيسه "اتصلت بمحمد علي أحمد. أخبرته بموقفك من بحّاح. قلتُ له إن الرئيس لا يأخذ تصريحات بحاح على محمل الجد، فهو شخص بلا خبرة ويحتمل أنه لا يزال على تواصل مع عفّاش فهو من رجاله. قلتُ له إن الدولة تقدر مبادرات علي ناصر محمد".

صبيحة اليوم التالي قال علي ناصر محمد لوسيلة إعلامية عربية إن عبده ربه منصور هادي لم يعد يملك أي شرعية.
حزم رجل سياسي حقيبته وقرّر مغادرة الرياض. كان قد اقترب من هادي وهاله كل شيء. كل الأشياء هالته. في الليلة التي سبقت سفره وجد نفسه في سهرة اعتيادية يتوسّطها سياسي سعودي يحاول فهم ما الذي يجري لليمنيين في الرياض. تدخّل ذلك السياسي اليمني، الذي سيسافر غداً، وكشف الأوراق كلها:
"بعد انتهاء عاصفة الحزم قال التحالف العربي إن الدور على المقاومة الشعبية، وأن القوة الجوّية ستكون تحت تصرف القيادة اليمنية طبقاً لاحتياجها وللموقف الاستراتيجي على الأرض. أوقف هادي التدخّل في تعِز قائلاً إن تحريرها ليس هدفاً استراتيجياً. رفض التدخل في المكلا بعد سيطرة القاعدة عليها. قال إنها قاعدة علي محسن الأحمر، وأن الأخير سيخرجها بمعرفته. انسحب الجيش والأمن من المكلا وأطلقوا القاعدة والمسجونين، ونحن نعرف من يفعل ذلك ومن يقدر عليه. لكن هادي قال إن محسن وراء ما جرى. أسقط الدولة في محاولته للتخلص من علي محسن، والآن سيسقط التحالف العربي وهو يتخيّل شبح محسن".

قاطعه رجل قريب من الجنرال محسن "لا أعتقد أن الرئيس هادي قال ذلك. هناك محاولات للإيقاع بين الرجلين، وهي محاولات مغرضة وهدفها معروف واعتجد أن الرجلين يعرفان تلك المؤامرات جيداً".
سادت أجواء التوتر بين الموجودين. اشتبك سياسي مقرّب من رياض ياسين مع شخصية قبلية مقرّبة من الصايدي. قال الأول "غالبية الشماليين خونة، ولا يمكن أن تسلم لهم وزارة الخارجية. يؤيدون الشرعية في الإعلام ويتحالفون مع عفاش في السر". ونهره الشيخ القبلي: "عيب هذا الكلام وأنت داري من اللي سلم صنعاء وعمران وشبوة لعفاش والحوثيين". قال الجنوبي "عندنا خونة، طبعاً. خائن من الجنوب مقابل عشرين من الشمال". قال القبيلي وهو يحرك إليتيه كما لو أنه يريد التحكم بشيء ما:
"يا رجال الخائن حقكم يبيع عشرين خائن من حقنا". وبدا أن الأمور أفلتت. 

حاول السياسي السعودي السيطرة على المشهد. نجح بصعوبة. انسحب رجلان أو ثلاثة، ولا يبدو أن انسحابهم كان له علاقة بما دار. في الأخير قال السياسي السعودي للحاضرين: دعوني أرتب قائمة أعداء هادي بحسب الأهمية:
"بحّاح، ثم علي محسن، ثم الإصلاح، ثم علي صالح، ثم علي ناصر، ثم الحوثيين. كل ما يصدر عن هادي. نجلس إليه وبالكاد نسمع كلاماً عن الحوثيين. حتى إنه لا يعرف، حتى الساعة، على ماذا يسيطر الحوثيون. أخبرني أكثر من دبلوماسي عربي، قالوا إن هادي لا يحب فتح هذه السيرة، وهو يعتقد أنّ الخليجيين سيعيدون اليمن من الانقلابيين"

غادر سياسي جنوبي الرياض مؤخراً، واتّجه إلى المدينة. وفي الأسبوع الأول من رمضان زار مكّة. بعد فراغه من الطواف سأله مرافقه بشرود كما لو كان يبحث عن تكذيب: "عارف الزوكا عنده ميليشيات في شبوة؟" . أجاب السياسي، وهو على معرفة واسعة بشبوة وبفريق هادي:
"لا، ليست ميليشيا. لديه مخرّبون. وقد أنزلت طائرات التحالف أكثر من مرّة أسلحة إلى المناطق القريبة منهم. علي الأحمدي، بتوجيه من هادي، يجري تغييرات على الإحداثيات التي تصله من المقاومة في شبوة. قال عفّاش إن السلاح يصل إليهم، وهو يقصد شبوة. كان محقّاً للأسف. بعد مقتل باحاج في شبوة ارتاح هادي وعيّن بدلاً عنه رجلاً طاعناً وضعيفاً لا يجيد سوى المداعة. رجل لا يترك المداعة. رفض كل التوصيات التي قدمناها نحن العارفين بشبوة". 

سأله المرافق: "ولكن لماذا يفعلون ذلك؟" 
فرد السياسي الجنوبي بلا اكتراث، بنبرة رجل خسر الحرب كلها ولم يعُد يأبه للخيول الجريحة:
"التاريخ سيكشف كل شيء. صرنا مثل سوق ماشية، وهم تجّار. نحن سوق مفتوح لكل واحد منّا سعر". 
تمهّل السياسي الجنوبي وابتلع ريقه. أصلح لباس الإحرام بكفّه اليسرى بينما كان يشير بسبابته اليمنى إلى صدر مرافقه:
"أنت لك سعر، وأنا لي سعر، وهم أيضاً لهم سعر".

ارتجفت ساقا مرافقه، وكتب على الفور رسالة واتس أب إلى أحد مشائخ شبوة، تربط الرجلين قرابة ما:
"باعوكم وتاجروا بدمكم، ارجعوا بيوتكم أحسن. لا حول ولا قوّة".

يتبع           

ملحوظة:
الأحداث حقيقية والنص من صناعتي.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً