الاثنين 25 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
هالة مصطفى
سايكس بيكو.. الطبعة الأميركية
الساعة 13:43
هالة مصطفى

سعت الولايات المتحدة على مدى السنوات العشر الأخيرة، إلى إسقاط أنظمة مستبدة في الشرق الأوسط، ضمن استراتيجيتها المعلنة لنشر الديمقراطية في المنطقة، فسقط نظام تلو آخر، دون تحقيق الهدف الأساسي وهو بناء أنظمة ديمقراطية بديلة، بل حدث العكس وتحولت الدول إلى ساحات مفتوحة للصراع والاقتتال الأهلي والطائفي، والعنف المسلح وانتشار الإرهاب.

 

 

حدث ذلك في العراق وليبيا واليمن ومصر (عندما اعتلت السلطة جماعة الإخوان)، ونفس الشيء يحدث في بلاد أخرى مرشحة لنفس المصير.. دخلت أميركا أيضاً حروباً ضد جماعات مسلحة، ضمن استراتيجية أخرى باسم محاربة الإرهاب، فاستهدفت «طالبان» في أفغانستان و«القاعدة» المنتشرة في أرجاء المنطقة والمتمركزة حالياً في اليمن، وأخيراً «داعش» التي تسيطر على أجزاء كبيرة من سوريا والعراق.

 

 

ولكن في جميع هذه الحالات لم تحقق نصراً حاسماً، أو لم تمض في الطريق إلى نهايته، والنتيجة الطبيعية أن الدول تسقط وتنهار، والسيادة الوطنية تتآكل، والتداخل بين القوى المحلية والخارجية يصبح أكثر تعقيداً وتشابكاً، بحيث تعود المنطقة تدريجياً إلى حقبة «اللادولة».

 

 

إذن، كيف نقيم الاستراتيجية الأميركية وإلى ماذا ترمي؟ الإجابة السهلة دائماً تشير إلى أن أميركا تفتقر للرؤية، وأنها تفتح ملفات ولا تغلقها وتبدأ حرباً ولا تنهيها، بل كثيراً ما تترك الأوضاع في حالة أسوأ مما كانت عليه، من وجهة نظر الكثيرين (مثلما حدث في أفغانستان والعراق وليبيا).

 

 

إنها ببساطة لا تفكر، من وجهة النظر هذه، في «اليوم التالي» أو بالمصطلح الأميركي الشهير The Day after، وهو ما يعني عدم امتلاك البديل. من الممكن أن تكون هذه هي الإجابة أو لا تكون، بمعنى أن الهدم والتفكيك قد يكون هو الهدف في ذاته في هذه المرحلة، وليس البناء...

 

 

إذ إنه في كل هذه الحالات (سواء على مستوى الدول أو محاربة الجماعات المتطرفة)، لا تظهر لنا إلا أجزاء صغيرة من صورة أكبر لم تكتمل ملامحها بعد. والمنطق هنا هو عكس المنطق السابق الذي يرى أن أميركا لا تمتلك رؤية، أو أن فكرها الاستراتيجي غائب. إن هذا مما يصعب تصديقه، فلماذا تنفق المليارات على هذه التدخلات العسكرية؟ بل لماذا تتدخل أصلاً إذا كانت تفتقر إلى الرؤية؟

 

 

المؤكد أنها لا تتدخل بهذه القوة إلا عندما يمس الأمر مصالحها بشكل مباشر، وعندما يتعلق الأمر بالمصالح لا بد أن تكون هناك رؤية استراتيجية، أي طويلة المدى. يثار الحديث الآن في الدوائر السياسية والبحثية الأميركية عن «سايكس- بيكو» الجديدة، فهنري كيسنغر الدبلوماسي البارز ومنظر السياسية الأميركية لعقود..

 

 

والذي سبق وصرح بأنه لا حل في سوريا سوى التقسيم، يؤكد أن ظاهرة انهيار الدول في الشرق الأوسط وتزايد دور الجماعات غير الخاضعة للدولة، تعني أننا إزاء تسويات إقليمية جديدة، يصفها بأنها شبيهة بتسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى.

 

 

وبنفس المنطق يؤكد ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ومؤلف كتاب «حرب الضرورة وحرب الاختيار.. مذكرات حربين في العراق»، أن سايكس - بيكو جديدة هي الحل لأميركا في سوريا والعراق، وأن تفكك الشرق الأوسط بشكله القديم بات مؤكداً في انتظار آخر جديد بدأ يأخذ مكانه. ويخلص كثير من الدراسات والأبحاث الصادرة عن المراكز الأكاديمية، إلى نفس النتيجة.

 

 

ففي دراسة عن معهد بروكنغز لمجموعة من الخبراء حول إعادة تشكيل العالم العربي، تنتهي إلى أنه ليس بالضرورة أن يكون التقسيم سريعاً أو معلناً في البداية، ولكنه قد يحدث على أرض الواقع أولاً، وتسميه «التقسيم الناعم»، والذي تزداد احتمالاته الآن مع تزايد الحروب حول الهوية وأسلوب الحكم وتوزيع الثروة والسلطة..

 

 

بحيث تكون المنطقة إزاء ظاهرة جديدة، تتلخص في نشوء كيانات أقل من الدولة تسميها «شبه دول» Semi State، وأن هذا السيناريو هو الأقرب للتحقق من احتمالات التحول الديمقراطي أو استعادة الدولة القومية..

 

 

أي مرة أخرى، سايكس - بيكو جديدة. المعروف أن اتفاقية سيكس - بيكو التي وقعت في 1916 بين القوتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الإمبراطورية العثمانية، هي التي قسمت منطقة المشرق العربي، أو ما كان يطلق عليه الهلال الخصيب..

 

 

ووضعت له الحدود على أساس المناطق والأقاليم، وفقاً لأهميتها الاستراتيجية. والتقسيم الجغرافي ليس هو كل ما يتعلق بسايكس - بيكو، إنما تقاسم الثروات، تحديداً البترولية، كان هو الجوهر الذي أعطى لهذه الاتفاقية أهميتها وخطورتها، بل واستمرار الحديث عنها حتى بعد مرور ما يقرب من مئة عام علي توقيعها.

 

 

وبانتهاء الحرب العالمية الثانية، التي أرّخت لبداية الحقبة الأميركية في المنطقة، تأكدت هذه النزعة، وأصبح تأمين تدفق البترول بأسعار مناسبة أو زهيدة وضمان سلامة الممرات المائية، هما الركنان الأساسيان للاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وفق مذهب أيزنهاور في الخمسينيات، وحتى الآن.

 

 

فأميركا ما زالت أكبر مستهلك ومستورد للطاقة ولبترول الشرق الأوسط، وسيستمر الأمر كذلك لفترة طويلة قادمة، كما أن نفس المنطقة (سوريا والعراق)، هي التي يدور حولها الحديث عن التقسيم، وهي أيضاً التي تشهد حروب مناطق وأقاليم.

 

 

كذلك فإن الأكراد حلفاء واشنطن، هم الذين سيطروا على أهم المدن النفطية في العراق بعد الغزو الأميركي له 2003 (الموصل وكركوك)، وهم الذين يقيمون «شبه دولة»، ويشاركون أميركا بقوة في حربها على داعش التي احتلت المدينة الأولى. وما زالت تركيا طرفاً أساسياً وشريكاً في التغيرات التي تشهدها تلك المنطقة، مثلما كان الحال إبان الحرب العالمية الأولى. من هنا تبدأ سايكس - بيكو الجديدة، ولكن بطبعة أميركية.

(البيان الإماراتية)

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص