الاثنين 25 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
وليد محمد سيف
صناعة الحشود
الساعة 16:18
وليد محمد سيف

 

" عليك أن تصيح دائما مع الجماهير، إنها الطريقة الوحيدة لأن تكون آمنا " .. بهذه الكلمات صرخت إحدى شخصيات رواية)  العام (1984 التي كتبها فيلسوف الثورات "جورج أورويل" وهي تختزل سيكولوجية الإنسان في توقه الأزلي للشعور بالأمان و تؤشر لسيكولوجية الفرد ضمن الحشد أو الجماعة حيث تنسحق شخصيته المستقلة في أتون الشخصية الكلية للجماعة.

ترتبط حاجة الإنسان للشعور بالأمان بأهم الدوافع قاطبة، لاتصالها الوثيق بضرورة البقاء وكراهة الفناء، وهذا الدافع يحل تاليا على دوافع البشر الغريزية من مأكل ومشرب وجنس ونوم .. والبشر بلا استثناء تواقون للعيش ضمن نوع ما من الحشود، ففي ذلك ملجأ من الخطر، ومن الوحدة القاتلة، إلا أن شخصية الفرد لن تكون هي ذاتها حال انخراطه ضمن جماعة أو حشد ما، فكثير من السمات الفردية والعقلانية تذوي لصالح التماهى مع شخصية الجماعة، كثمن باهظ يدفعه الفرد مقابل الوصول إلى شيء من الأمان وبعض من الاستقرار المادي والنفسي.

في كتابه "سيكولوجية الجماهير" يلخص مؤلفه المفكر الفرنسي "غوستاف لوبون" سمات  الشخص المنخرط في جماعة: تلاشي الشخصية الواعية لصالح بروز شخصية لاواعية، القابلية للاستهواء والتحريض، انتقال عدوى العواطف والأفكار، والميل لتحويل الأفكار المحرض عليها الى فعل وممارسة مباشرة، وبالنتيجة لا يعود الفرد هو نفسه وإنما يصبح إنسانا آليا تحركه النخبة السياسية و(القيادة (الملهمة.

الكتاب الذي خصصه مؤلفه لفن التعامل مع الجماهير والحشود، أضحى إنجيلا لعديد زعماء وسياسيين على امتداد الخارطة العالمية، ويكاد يتقدم على الكتاب الشهير للإيطالي مكيافيللي (الأمير) خاصة وهو ينصح الزعماء هؤلاء بعدم جدوى التوجه الى الحشود ومحاولة إقناعهم بالأفكار المنطقية العقلانية كما الحال في التعامل مع الأفراد المنعزلين، بل اعتماد الشعارات البهيجة والصور الموحية، وأساليب التحريض والتهويل وبث روح الحماسة وربما الكراهية والانتقام  لتحشيد وتعبئة الجماهير تجاه قضية ما او حدث معين .. باعتبار ان نفسية الجماعة ليست ذاتها شخصية الأفراد المستقلين،التي يغلب عليها الطبيعة الانفعالية العاطفية عوضا عن التفكير المنطقي لدى الفرد.. بل إن الجماهير تصبح مجنونة، عندما تكون غاضبة أو تعتريها روح الحماسة، والجماهير التي تصفق بحرارة وتلهب الأجواء بغضبها الناري وحماستها الدافقة في مباريات كرة القدم أو المهرجانات الغنائية، والجماهير المهتاجة التي تنقض على شخص ما لتقضي عليه حتى دونما حاجة للتأكد من كونها مذنبا.. تقدم النموذج الأكثر تعبيرا عن حالة الهوس الجماعي.

الجماهير أيضا سرعان ما تحرق اليوم ما كانت عليه بالأمس وتتنكر له وتغير أفكارها بذات السرعة التي تغير ملابسها.. وغيرها من سمات فارقة تؤشر لقراءة متعمقة لنفسية الجماهير أسست في مرحلة لاحقة لعلم نفس الحشود، الذي يبدو أن النخبة السياسية العربية ـ بخلاف طبيعتها ـ استلهمت مضامينه أكثر من غيرها، سيما في تركيزها على الشعارات لا الأفكار، ومخاطبة عواطف الجماهير لا عقولهم، وإتباع أساليب التحريض ودغدغة المشاعر، واستثمار الحاجيات الآنية في تحشيدهم وتعبئهم... غير أن العبرة بالمآل: فالنخبة الراشدة تقود الجماهير باتجاه تحقيق طموحات البناء والنماء، بينما النخبة الشريرة تقود الجماهير الغاضبة كما القطيع  نحو حتفها وزوالها.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص