الاثنين 25 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
حمير علاية
اليمن.. شرف الانتصار.. شكراً منتخبنا الوطني.
الساعة 14:18
حمير علاية


ودّعت اليمن البطولة.. لكنّها انتصرت، وبشرف.
خسرت بهدف وحيد من المستضيف، لكن المستضيف والبطولة خسرا اليمن بكل تأكيد.

بدا اللقاء مختلفاً. التجهيز والإعداد. وحتى التدريبات التي سبقت لكلا المنتخبين قبل المواجهة. الجمهور، وتلك المقصورة التي بدت ممتلئة.

ركض الفتية الأبطال، وبذلوا كلّ ما اكتنزته أجسادهم، أمّا أرواحهم، فلها قصةٌ أخرى سيحكيها لكم من واجهها، وسترويها بعد، صيحة البطل بقشان إثر إصابته الخطيرة في اللقاء الأسبق:" ردوني إلى الملعب. أصحابي لوحدهم"!

هو نصر، لا تفهمه الطابوهات الجاهليّة المعلّبة، والطمطميات المتجسّدة، بوجوه بشر، نخروا بقلب الوطن وأوسعوه. هو نصر آخر، بطعم آخر، ووقع آخر، وتملّك آخر، لم ولن يفقهه مشروع تقاسم السلطة والثروة اللعين.

يصعب عليّ وسواي النقد حول لقاء المنتخب الوطني مع المنتخب السعودي أكثر من أي وقت مضى. وددتُ لو أن أرى أفراد المنتخب، وأقبل رؤوسهم واحداً واحداً. حقا كانوا بهجتنا التي ركضت في دمائنا، في لحظة من الزمن الخائب، لم نعد قادرين على الإمساك بتلك الدماء.

بل يجب أن نعترف أن الأخلاق تلزمنا الصمت عن أي خطأ لهم داخل الملعب، وأن تنحني لهم حروفنا. قاتلوا واستبسلوا.. وأزاحوا التراب عن رأس نبتة في قلب الصخر.
ما يخصّ الجهاز الفنّي والإداري، له شأنٌ آخر.

لو خسر في لقائه الأول، وبالجملة، لقلنا: منتخب أتى من بلد بلا دولة، بات تحت رماد الصراعات والحروب، وارتحنا. وهو حق. منتخب أتى من بلد بلا دولة، وبات تحت رماد الصراعات والحروب، فلا تخلقوا لأنفسكم حلقة ألم ليست حقيقية. وتلقوا بلائمة، أو جزء منها على أحد.

قال نجم الوسط عبدالواسع المطري بفطرة نقيّة، عقب اللقاء الأول: "المهارات موجودة عند أكثر اللاعبين اليمنيين، لكن الظروف السياسية التي حصلت..." سكت، ثم أكمل: " نقول الحمد لله".

الحديث عن الرياضة يطول كثيراً، عن بيئتها ومؤسّسيّتها. أعيدوا النظر في البيئة والمؤسّسيّة الخالقتين، كي تقولوا برضىً تام لهؤلاء الفتية: شكراً، بعدد حبّات العرق التي تساقطتْ منكم.

هل يكفي لكبح الحديث عن هذا الأمر أن نشير إلى خمسة شهور، هي عمر المدرب الكرواتي مع هذا المنتخب؟ يكفي. نعم.. والبقية موجعة.

لكن، من قلب اللعبة وقانونها سأقول: خرجت البرازيل في أرضها وبين جمهورها بالسبعة الثقيلة عليها كجبالها، مقابل هدف وحيد. هو قانون اللعبة!

كتبتُ عن هذا المنتخب حتى ثملت. لم أُشرْ في لحظةٍ ما إلى فعل الأهداف، أو المستوى البدني والتكتيكي، فضلا عن المطالبة بالوصول لأبعد من واقع منتخب أؤمن بظرفه. أؤمن بتلك الصورة الجارحة، وهم يفترشون أرضية أحد المطارات، قادمين إلى هنا.. إلى البطولة!

تحدثنا عن الانتصار العميق، في نسقه الوطني الذي يراد له أن يتلاشى ويغيب إلى الأبد. عنهم أبطالا نفضوا بأرواحهم عنا اعتقاد العدم والمستحيل، والعيش على هامش الموت حتى يأتي. نعم.. انتصروا، وانتصرنا، وألقينا بوجه العالم رسالة.

انتصرت اليمن بجمهورها الاستثناء.. بحضورها الباذخ جذوراً وعطاءاً وتجربةً وحضارةً وإنسانيةً ومروءةً وفيض مشاعر. وكان هذا حديث الصحف والمواقع والاستوديوهات، وكان للملح أن يغيب على مستوى المكان، بعد أن سرى في الروح والبدن.

من كل مكان، حضروا، ليقولوا للعالم ما زلنا هنا.. نحن نعشق الحبّ والسلام، ولنا وطنٌ ممتدٌ في كل شريانٍ منا ونَفَس. هو مأوانا وسدرة منتهانا.

لم تكن تبوك والقصيم وحائل وأبها وجدة والمدينة ومكة، بل كانت عدن والحديدة وصنعاء وحضرموت وشبوة وأبين والمهرة والجوف وإب وتعز وصعدة ومأرب والجوف والبيضاء وريمة وذمار ولحج والضالع وحجة والمحويت.

عقيقة يمانية واحدة بهيّة، تشيع البهجة، وفصل الكلام: أنا هكذا.. خُلقتُ هكذا.. وسأبقى بإذن خالقي هكذا.

قطعة جلد منفوخة بالهواء، مستديرة، اصطبغت بالأحمر والأبيض والأسود، فوحّدتنا. لها التحية والشكر والبقاء، وللبندقيّة اللعنة والموت.

احتفى اليمنيون هنا. هتفوا، ولوحوا، وضحكوا، وتحاوروا، وهزجوا، ورقصوا الشرح والدان والبرع. غنّوا بحناجر براها العشق والحنين، وحب الوطن، والمخاوف التي تسكنهم عليه.

ما إن تُفتح العين على الملعب الكبير المكتظّ بالوجوه والأيدي الملوّحة والأصوات التي تلعلع، حتى تكتظّ هي بدمعة.

مشهد، يحيلك على الماهية والهوية والانتماء. يجعلك تفكر، بذات المدار لواسيني الأعرج حين قال: لا أحب أن يأتي الموت ويجد مني شيئاً يأكله".

تتوارد الخاطرة مع هتاف "حيّو اليماني حيّوه"، و" بالرّوح بالدّم نفديك يا يمن"، فيما ثلاث بالونات مربوطة مع بعضها، جمعت الألوان الثلاثة، قد توسّطت سماء المكان، تتصاعد للأعلى.

عقب انتهاء اللقاء، بقيت الجماهير تهتف وتلوّح، حتى غاب المنتخب في ردهة الخروج. يقولون: خرجنا بشرف، ومرفوعيّ الرؤوس. لا شيء يهم!

قولوا للأغبياء: إذن، هي حكاية أخرى، والأرواح هذه المتقاطرة، لم تأت لهدف مرمى أو بطولة، بل كان الهدف أسمى، والمكان كقبّة معبد، وجدوا فيها ملاذاً لسفح الدعوات والنداءات والصلوات: أن أعيدوا لنا وطننا الذي سرقتموه.

في الباص ونحن عائدون مع قرب منتصف الليل، كان عبدالله باجنيد، الحضرمي المولود في عدن، يبتهج مع زملائه، ويلوّح بالعلم من نافذة الباص، ويهتف.

كانت بطولة خليجي 22، وستبقى بالنسبة لليمنيين، ليست حدثا رياضيا فحسب، وإن كانوا قد تمثّلوها بروح أصيلة عظيمة وألقة، بل مكاناً للبيان بكل إشاراته، باللفظ والكتابة والإشارة والعقد والحال، وبكل لغات الأرض.

فهل قرأ أولئك الرسالة جيِّداً؟ وهل أعادوا قراءتها؟ ربما يفعلون ما هو ميؤوسٌ منه، وربما لم يقرؤوها، وعادوا لأحاديث الدماء والسلطة والثروات.

شكراً ملء المدى لمنتخبنا الوطني..
شكراً لأرواحكم، لجهدكم، لقلوبكم وعقولكم، لكلّ لحظة خالطتكم بالوطن الغالي، وأنتم تؤدّون المهمة بإخلاص. في مسائكم الثاني حيث أنتم، كأنكم تردّون بقول البردّوني العظيم: لنا موعدٌ من وراء الجراح .. وها نحن نستنجز الموعدا.

شكراً للجمهور الاستثناء، بحجم قبلته الوفيّة التي طبعها على جبين الوطن. كنتم الأروع والأجمل والأكمل.. كنتم المتن والقصيدة والمعنى.. ولكم وقف الجميع احتراماً.

إلى اللقاء.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص