الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
أحمد طارش خرصان
بكم القَدحَ الْغَرِبْ ..؟
الساعة 19:02
أحمد طارش خرصان


لا أدري أين ومتى قرأت هذه العبارة التي استهوتني كثيراً ( إن القدوم إلى مدينة ما من جهة البحر ، يشبه مغامرة أن تجيء الحبيبة من جهة النافذة )، وفي حال مدينة كإب يبدو ذلك الفعل متعذراً ومستحيلاً ، إذْ أنّ إب لا تطل على أي بحر ، غير أنها سرعان ما تمنحك المتعة ذاتها ، ليكون الشيخ عبدالعزيز بن محمد الحبيشي رحمه الله هو البحر الذي يمكنه أن يقلّك صوب مدينة ، إكتشفتْ اليوم أنها أمستْ - عقب رحيله - بلا رجولةٍ أيضاً.

ربما هي المرة الوحيدة التي أشعر فيها بالعجز ، والفشل في إيجاد المفتتح اللائق للحديث عن رجلٍ ، تمكن - ببساطة خالية من الضغائن والأحقاد - من أن يكون أباً جيداً لمدينةٍ ، ستصحو لتجد نفسها دونما ( عاقلٍ) بحسب وصْف فلاح ريفي بسيطٍ ، ما يزال يحتفظ للشيخ عبدالعزيز الحبيشي - رحمه الله- بذكرى ممتلئة بقيم المروءة والكرم والإنسانية ، والتي اختزلها ذلك (الفلاح) بالقول إن الشيخ عبدالعزيز الحبيشي - رحمه الله - كان ( مَنْصِبْ ). 

لم يكن يربطني بالشيخ الحبيشي ، ما يمكن أن يكون أساساً جيداً لبناء علاقة من نوع ما ، إذْ اقتصرت العلاقة على بعض الإنطباعات السيئة ، التي تشكلتْ إبان الإستغلال السيء للتعددية السياسية عقب إعلان الوحدة اليمنية ، ما جعل فتىً مثلي - آنذاك - يستسلم للقبح والرداءة الكامنة في التصنيف والفرز على أساسين ( الخير المحض - الشر المحض) ، واللذين لم يصمدا طويلاً أمام الفطرة السليمة ، وحالات الإنكشاف السريعة في سلوكيات الإستغلاليين ، في تجربةٍ قد تدفعني لكتابة مذكرات مهملة ،قد تندرج تحت عنوان ( يوم أن كنتُ غبياً).

لم يغادر الشيخ عبد العزيز الحبيشي - رحمه الله - وفق التصنيف السابق خانة المفسدة الصغرى ، فيما بقي الأستاذ محمدعلي الربادي كمفسدة كبرى ، هدفاً لحملات تشويه مسعورةٍ ، إستخدمت السوء مقياساً للمفاضلة بين شخصيتين ، تمكنتا - كلُّ بطريقته - من التواجد المتفرد في وجدان وذاكرة إب . 

غادر الأستاذ الربادي الحياة دون أن أشرف بلقاءه ، تاركاً كوفيته لمدينةٍ ، ما زالتْ تنتظر بأملٍ واهنٍ ( ضربة حظ )قد تمنحها ( ربادياً ) آخراً ، فيما رُحتُ أردد حينها - وبسذاجة تكاد تختزل الموقف من الأستاذ الربادي ، وبيقين من أمكنه القدر من خصمه - القول شوكة وأزيحت من طريق المسلمين ) .

ربما كان موت الأستاذ الربادي بدايةً لصحوة ضميرٍ متأخرة ، لكنها كانت ضرورية لخوض غمار الحياة ، متخففاً من فداحة التصنيف والفرز والأحكام المسبقة ، ما دفعني لتكوين صورة جيدةً عقب لقائي الأول بالشيخ عبدالعزيز الحبيشي - رحمه الله - أثناء إنعقاد مؤتمر فرع إتحاد الأدباء والكتاب بإب - والذي كان الشيخ أحد أعضاءه ومؤسسيه - ولقد نجح الشيخ - كعادته - في ردْم الهوة الفاصلة بما بثّه من مشاعر صادقة وتعامل راقٍ آنذاك ، إستطاع الشيخ يومها من محو كل الإنطباعات السيئة ، وإعلان ميلاد فصل جديد من علاقة يسورها الود والمحبة والبساطة.

لم يكن هناك مايميز الشيخ عبدالعزيز الحبيشي - رحمه الله - عن أبناء إب ، إذ عاش حياته ببساطة وتلقائية نادرة ،يصعب معها إدراك ما إذا كان الشيخ موجعاً ، أم لا - برغم إدراكي لوجعه الملاصق له كظل - والذي أسرّ به - ذات يوم - للعزيز عبدالحكيم العفيري حينما سأله ، عن شعوره هذه الأيام باعتباره آخر السبتمريين في إب ، ليجيبه الشيخ - رحمه الله - قائلاً
(الوجع... بالوجيع..

قانا مستحي .. مو أنزل أقول لهم ).
ربما أشعر - وغيري - أن إب تتقاسم الأعراض الأخيرة لوهنٍ لا صلاح بعده ، ويبدو أنها - برحيل الشيخ عبدالعزيز الحبيشي رحمه الله - أكثر وهَنَاً من ذي قبل ، وتكاد - وأنت تتجول في إب - أن تشعر بمرارة الفقد وجَلَل المصاب - إثْر رحيل الشيخ - في تفاصيل المدينة الموغلة في الحزن والوجع. 

ربما يشبه الشيخ عبدالعزيز الحبيشي رحمه الله ، مخطوطة أثرية قديمة ، قاومتْ بدأَبٍ كل المحاولات الرامية لإستنساخ نماذج مزيفة ومشوهة ، سرعان ما سقطتْ - غير مأسوفٍ عليها - من وجدان وذاكرة إب ، في أول اختبار حقيقي أثبت بجلاء أن الشيخ عبدالعزيز الحبيشي - وهذا ما تؤمن به إب كلها - ذو معدن أصيلٍ ، لم تفلح كل تلك المحاولات من النيل من كرامته الصامدة وإنسانيته البسيطة. 

لم تكن ( أبو الشباب ) ( أبو اليتامى ) ( أبو الرياضة ) ألقاباً ترفيةً ، لكنها كانت إنعكاساً طبيعياً لتقدير مدينةٍ ، ليس من السهل أن تهَبَ هذه الألقاب لرجلٍ لا يستحقها البتّة. 

لا تخطئ إب الطريق المؤدي إلى منزله ، فيما أخطأ الشيخ - بقصديةٍ - الطريق إلى ( تِبَابِهَا ) وأراضيها وأوقافها ، الجاذبة والمغرية لكل ذي نفوذ وسطوة وجاهٍ ، إذْ ربّما
كان للشيخ في ذلك قول آخر ، سترويه إب متى تخلّصت من كونها ملاذاً آمناً لقطاع الطرق والمرتزقة واللصوص .

لا أجزم أنني وفقتُ في كتابة ما يشبه وداعاً لائقاً بالشيخ عبدالعزيز الحبيشي - رحمه الله - أو مرثيةً ما،
آملاً أن لا يقابل ما كتبته بسؤال الشيخ التأريخي - حد قول الكاتب العظيم محمود ياسين - والذي أطلقه الشيخ في وجه أحدهم ، عندما سمعه يتفوه بالكثير من الترهات 
سائلاً إياه : ( بكم القدح الغَرِبْ عندكم ؟؟؟).

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص