الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مروان الغفوري
الدولة للجميع، الشراكة للعصابات
الساعة 00:38
مروان الغفوري


الدبابات التي كانت تحرس بيت الرئيس هادي في شارع الستين وضع عليها الحوثيون شراشف سميكة وجلسوا عليها. أما فوهاتها فقد وجهت إلى الظل. "كان ذلك المشهد هو الأسوأ في حياتي" قال سياسي رفيع.

عشية وضعه تحت الإقامة الجبرية وقع هادي على وثيقة تلزمه بتسليم مأرب إلى الحوثيين خلال مدّة أقصاها أسبوع. أما العملية العسكرية التي قضت على ما بقي للرئاسة من حضور ذهني، وشرف، فقد اعتبرها هادي "حالة مؤسفة"، كما في الوثيقة المشار إليها. وذهب يُراهن على النسيان.

بالتوازي، بينما كان صالح الصماد يضع رجلاً على أخرى غير عابئ بانكشاف عورته، كان هادي يشي بالجنوبيين الذين وقفوا معه في محنته الأخيرة. ولم تمض سوى ساعات قليلة على إعلان اللجنة الأمنية في عدن موقفاً شجاعاً إلى جانب الرئيس المعتقل حتى أصدر ذلك الأخير توجيهاً صارماً بإلغاء كل إجراءات أمنية عدن.

اعتدل هادي في جلسته غير أن الرجل الآخر انحنى إلى الأمام واضعاً كومة ضخمة من الأوراق أمام هادي، فاختفى سرواله الأبيض تحت كرشه. ذهب هادي يقلّب الأوراق بشرود أسطوري، ويوقع في الأسفل. طلب الحوثيون كل شيء، من السفارات حتى المنافذ الحدودية، ومن رئاسة الجمهورية حتى أئمة الجوامع، ومن جهاز الأمني القومي حتى الرقابة والمحاسبة، ومن الجيش والأمن حتى الزراعة.

وصف الحوثي هذه الغنائم التي يطالب بها بأنها كانت العملية الضرورية لإنقاذ لقمة الجائعين في اليمن، ولتجفيف منابع الفساد!
كان صالح قد أصدر، عبر حزبه، بياناً يطالب فيه هادي بسرعة الاستجابة للمطالب التي وردت في خطاب السيد. وكالعادة اندفع هادي في سباقه مع صالح على قلب السيد، ووقّع الأوراق. كان مبتسماً، وهادئاً، وتمنّى للصماد يوماً سعيداً. أما الأخير فأرخى جنبيته عروة واحدة، ثم عروة أخرى محاولاً السيطرة على هواء أمعائه الغليظة. فالصورة التي أظهرته، قبل أيام، وهو يتجرّع العسل من قارورة بلاستيكية كشفت إلى حد ما جزءًا من مشاكله الصحّية.

الشراكة الوطنية هي الدالة الجديدة التي يستخدمها الحوثيون ليعنوا بها امتلاك كل الصلاحيات بلا مسؤوليات، أن تكون ثمّة دولة واجهة بلا ملامح دولة، مفرّغة كلّياً، تصدر أصواتاً ولا تقول كلاماً. فبحسب صحيفة الشرق الأوسط فقد سيطر الحوثيون في عمليتهم العسكرية الأخيرة على 300 دبابة، 120 راجمة صواريخ، 120 عربة مدرّعة، 10 آلاف قناص. كما سيطروا على ألوية الصواريخ الثلاثة، وأجهزة الاستخبارات. طلب منهم هادي، مقابل التوقيع على قائمة طلباتهم الخرافية، أن ينسحبوا من الأماكن "الحسّاسة." وبالنسبة لحلفائهم في الخارج فقد ضمن الحوثيون تفريغاً كلّياً للسياسة الخارجية اليمنية، وأرضاً مفتوحة في الداخل. فقد أعلن قائد البحرية الإيرانية قبل أيام إن وجود إيران في الحيط وخليج عدن سيكون دائماً.

سألت مسؤولاً أمنياً رفيعاً عن المشهد العسكري فأكّد لي إن الترسانة العسكرية التي يمتكلها الحوثي حالياً تفوق تلك التي لدى الدولة. في هذه الصورة جاء خطاب عبد الملك الحوثي عن الشراكة، في حين كان بمستطاعه عملياً تنصيب رئيس جديد.

لكن لماذا اتجه إلى خطاب الشراكة بدلاً عن الجلوس في القصر؟
كان عبد الملك الحوثي صريحاً وواضحاً وهو يتحدث عن الشراكة، وكان يقول إنه لص ويقود عصابة. مؤسسو الدول يتحدثون عن سيادة المؤسسات، وقادة العصابات يتحدثون عن القسمة والغنيمة. الحديث عن الشراكة يلغي فكرة الدولة كلّياً، وبدلاً عنها تحضر الغنيمة. فالدولة تقوم في الأساس على الميريتوكراسي، أي الجدارة والكفاءة، وهي عملية تنتجها المؤسسات. أما خطاب الدولة فيتجه، في العادة، صوب تعزيز فكرة المؤسساتية وابتكار السبل التي تساعد على ظهور المؤسسة إلى الحيز العام، ثم إسنادها لتصبح قادرة على إدارة ذلك الحيّز. وبخلاف ذلك تأتي الشراكة لتملأ فراغ الدولة، وتمنع ظهورها، أو تحيلها إلى مجرّد غنيمة تاريخية طبيعية، شبيهة ببحيرة أسماك أو نهر في جبل. وفي أحسن الفرص فإن خطاب الشراكة ينتج شكلاً هلامياً للدولة يسمى كليبتوكراسي، أو نظام اللصوص.

إذ تنهض الدولة الحديثة، القائمة على المؤسساتية، على فكرة الإنتاج الكلّي، الجماعي، وهو ما سيصنع القدرة الشاملة للدولة بالمعنى الاقتصادي المادي، والمعنى التاريخي الاستراتيجي. أما الإنتاج الكلي فهو الحاصل النهائي لعمليات واسعة من المنافسة والابتكار في ظل دولة مؤسساتية صارمة تعي واجباتها وحدودها أيضاً. تلك الدولة هي التي يستهدفها كل خطاب إصلاحي وثوري، وذلك المجتمع هو الإفراز الطبيعي لتلك الدولة، وهو خالقها. لا مكان لخطاب الشراكة سوى في الجبل، وفي الصحراء، وفي الغابة، حيث يعثر المارون على كنوز طبيعية تقسم بينهم بالعدل والقسطاس. الشراكة خطاب خارج الدولة، خارج الحداثة، أي خارج العصر الحديث.

في هذه الصورة تحضر فكرة الشراكة باعتبارها لصوصية عابرة للأزمان. أول ضحايا فكرة الشراكة هي "حوافز الإنتاج"، كما يذهب الاقتصادي الحائز على نوبل م. ويلسون.
الشراكة، الدالة التي أصبحت مركز خطاب الحوثي، أبعدت صخر الوجيه وجاءت بالهيج، وأطاحت بالترب وجاءت بالشامي، ورفعت ضابطاً في منتصف الثلاثينات ووضعته قائداً عاماً للجيش اليمني بالإنابة.

إذ لا يمكن لمجتمع يقع 80% منه خارج نظام القوى الاجتماعية التاريخية، المذهبية والقبلية، أن ينمو في ظل فكرة الشراكة. فهذه تعني توازن قوى، بينما يعيش 80% من الشعب اليمني خارج حزام القوى كلّياً. وبكلمات أخرى فالشراكة التي جلبها الحوثي قائلاً إنها ثورة جاءت لتحوّل المجتمع اليمني إلى سوق كبيرٍ للعبيد، متيحة الفرصة للحوثي، ونظرائه، للهيمنة الشاملة على الجبل والصحراء والمحيط. عمليّاً لا يمكن لمواطن مثلي، على سبيل المثال، قادم من مدينة تنتج الطبقة الوسطى البيروقراطية والمبدعة أن يتخيل فكرة الشراكة أكثر من كونها إعادة توزيع للقوة بين مجموعة من اللاعبين يشعرون بأن فكرة الدولة المؤسساتية الحديثة تستهدفهم على نحو خاص.

في خطابه الأخير بدا الحوثي متوحّشاً حتى إن المشاهد، ربما لوهلة، خطر على باله أنه سيرى دماً بين أسنان السيد. لم يعد يتملّق أحداً. وبالرغم من أنه شكر القوى اليسارية التي ساندت حشوده في شارع المطار، بحسب زعمه، إلا أنه هذه المرّة أشار إلى تلك القوى بسخرية فاجرة. قال إنها فيما لو انزعجت من فكرة الشركة فذلك شأنها "بالمعنى البلدي: تضرب راسها عرض الجدار".

وبدا ساخراً من كل شيء، حتى من ثورة 11 فبراير التي جسّدت فكرة العمل الجماعي المشترك بصورة قل لها نظير في التاريخ. لم يشر إليها ولا لمرّة واحدة منذ أشهر طويلة حرصاً على شراكته مع نظام صالح. في المجمل، من خلال تتبع خطاب الحوثي، بدا الرجل غير معترف بثورة 11 فبراير، بالمرّة. حتى وهو يتحدث عن الشراكة كان يقدّمها باعتبارها هيمنة مطلقة. لكنها ذلك النوع من الهيمنة الذي سيتّسع صدره لآخرين أيضاً، كما فعلت كل التشكيلات الاستعمارية الإحلالية في العالم. وهؤلاء سيكونون مجرّد موظفين بيروقراطيين عزولين بصورة شاملة عن فلسفة نظام الشراكة!
بمعنى ما، فالشراكة التي ترِد في خطاب الحوثي، 43 مرّة في الخطاب الأخير، هي خطاب إيديولوجي جديد يستند إلى أوهام الاصطفاء والقوة والأبدية.

يعتمد الحوثي على فكرة، تخيّلها، تقول إن الشعب اليمني جبان وبلا ذاكرة، وأنه يقبل الحلول المفروضة بالقوة. هكذا ذهب يتحدث عن الشراكة خارج جغرافيته. فهو يطالب بحضرموت ومأرب وعدن، مستخدماً كلمات صريحة، متجاهلاً كلياً وجود محافظات أخرى مثل المحويت وحجة وعمران وصعدة. إنه حتى لا يحتمل الحديث عن تلك المحافظات، فهي شأن داخلي للجماعة.

في الأيام الماضية قرأت لكاتبة يمنية تدوينات تقول إن أمّها رفضت السفر إلى القرية للاحتفال بالمولد النبوي، فقد كانت تشعر بالملال والتعب وفقدان الحماس. هاتفها شقيقها من مركز المحافظة غاضباً "أو قدكم دواعِش؟". مما دفع السيدة المسنّة لسرد قائمة هائلة من الأعذار كي لا تبدو مسنّة داعشية في نظر شقيقها! كان الرجل يجسّد المعنى العملي للشراكة: العصابات.

الحوثي أقوى من أن ينهزم بسهولة، وأضعف من أن يهيمن على يمن مترامي الأطراف ومتنوّع الطبائع والعقائد. لذا يحاول الهيمنة عليه من خلال الدولة نفسها، ومن خلال تعزيز خطاب الشراكة والإبقاء على الشرعية الشكلية للرئاسة والمؤسسات الدستورية منتهية الصلاحية. هذه الفكرة تشرح التشدد القاتل الذي يبديه حيال فكرة الأقاليم. فالنظام الاتحادي سيأتي في الأساس على حساب هيمنة الحوثي على اليمن، وقد يحشره في جغرافيا مذهبية يرى أنها لا تتناسب مع الوقائع الجديدة على الأرض، كما شرح لي أحد أعضاء لجنة كتابة الدستور. كما أن خيوله لن توصله حتى سيئون والمهرة، فالتوغل فيما بعد ذمار وإب قد يكلفه كل انتصاراته. من الأفضل، كما يفكّر الحوثي، أن تبقى الدولة مركزيّة. من خلال هيمنته على بنية الدولة المركزية، أي عبر تحويلها إلى مزيج من الكليبتوكراسي والنيبوتيزم، أي نظام اللصوص وسيادة العائلة، يستطيع الحوثي أن يتحكم بسقطرة وعدن وتعِز.

التفكير على هذه الشاكلة دفعه إلى القتال لأجل إسقاط الدستور. الدولة المركزية هي الحل الأمثل لورطة الحوثي. بينما يتوقع اليمنيون مزيداً من تفريغ المركز ونقل السلطة إلى الأطراف على نحو يسمح للأطراف بالنمو الحر والمتسارع ويمنح تلك الأطراف الفرصة الكافية لاكتشاف قدراتها وتنمية ممكناتها. ضد هذه الفكرة يثور الحوثي، حائلاً ضد كل الاقتراحات ثورية جذرية للخروج من الأزمة اليمنية. وبدلاً عن تخيّل يمن تصنعه الطبقة الوسطى يفكّر الحوثي بالشراكة. أي خارج الطبقة الوسطى، وخارج الكفاءة والجدارة، من خلال تعزيز فكرة الدولة الغنيمة.

يبدو الحل الأمثل للمأزق الحوثي هو الحل الأكثر سوأ لمأزق اليمنيين.
من المتوقع أن يفكّر الرجل على هذه الشاكلة، فهو رجل دين مسلّح يعتقد أن الله اختاره. ومهما يكن من قوّته فقد جمع مقادير من الأسلحة حوّلته من محارب مراوغ إلى عربة مدرّعة. والبارحة فقط بدا مثل ثعبان كبير ابتلع عشرات الفئران ولم يعد قادراً على العودة إلى جحره، ولا الهرب.

في هذا السواد، أو العصر الفحمي الثاني، كما أسميه، ستتشكل الحركة الوطنية الجديدة تلقائياً، مسنودة بوعيها الحديث، وبالتحولات السريعة التي تجري على الكوكب، وبخيالها الخصب وقدرتها الحادة على اكتشاف الخلل.

وإذا كانت أزمتا الحوثي الأخطر في كونه أكبر من الهزيمة وأقل من النصر، وفي تحوّله من محارب رشيق إلى مدرعة ثقيلة، فإن أزمته الثالثة والأخطر تنحصر في محاولته مصادرة المستقبل في لحظة انتباه عام، في ذروة الوعي الجماهيري الكلي، وعقب ثورة 11 فبراير التي شكلت العقل اليمني المعاصر.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً