السبت 23 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
منيف الهلالي
وطن على خاصرة دمعة
الساعة 19:41
منيف الهلالي

ذات صباح، وأنا أسير راجلاً في أحد أحياء العاصمة المشهورة بالثراء، وأثناء انشغال عينيّ بتصفح المظهر الخارجي للمساكن الفاخرة، التي كاد يطفح بها ذلكم الحي الذي لا يقطنه -على ما أظن- إلاّ حمران العيون ومجموعة بسيطة من المغتربين وشيء لا يكاد يذكر من أصحاب الطبقة المتوسطة، لفت انتباهي-المشدوه- رجل تجاوز العقد السادس من عمره، تسللت إلى أعماقه متاعب الحياة اليومية، فتحدبت قامته، وترنح شبابه، وتعرجت بشرة وجهه، التي تخفي خلفها سنوات عمره المهرق في خدمة الوطن.

كان القهر الواقف في مهب الحياة قد لسعه بطريقة متوحشة، وكانت الشمس بحرارتها قد أجبرته على الارتماء في أحضان الظل المطل على شرفات عذابه.
الدموع تخضّب وجهه الذي ارتسمت عليه معالم الوطن، تنهيدة تسللت بين خيوط الألم الذي يعبرني بعد اصطدام بصري بتفاصيل المعاناة القادمة من ذلك الكهل..
- ماذا هناك يا أبي..؟ ولماذا كل هذا الحزن المغتسل بالدموع..؟

أسئلة قذفت بها شفتاي النائحتان حد الغياب.. لتتحرك على إثرها عيناه باتجاه وقوفي المصلوب حد الذهول..
كانت إجابته مقتضبة كلحظة السعادة التي مرّت بجوار شقائه الأبدي:
" ثلاثون مليون ريال".
لم يتحدث بعدها، كان يحاول أن يفلت من أسئلتي، التي تتدحرج على الرصيف المغتال بطاعون الفساد.
سألته: ماذا تعني بهذا الرقم..؟
أشاح بوجهه ناحية السور القريب، والذي بدوره ربما أوحى إليه أن يصمت..!

ما زلت أستجديه الحديث لفرط احتياجي لاكتشاف خارطة حزنه: أدرك أنك لا تستطيع الحديث كونك مصاباً بحزن الأنبياء وجوع الكبرياء، غير أني لن أدعك حتى أعي ما تعنيه الثلاثون مليون ريال، التي تحدثت عنها..؟
- يا بني.. ليست سوى كلمات قالها صاحب هذا القصر وهو يخاطب أحد العاملين في الداخل، يبدو أنه من قام بعمل الزخرفة والنقوش. أرقام مثلت بالنسبة لي صدمة كبيرة، أنا الذي لم يلامس كفي اليسير منها، بل لم أشاهد حتى لمجرد المشاهدة طيلة حياتي، العامرة بالفاقة، مبالغ بهذا الحجم، لذا شعرت حين طرق مسامعي هذا الرقم المهول أن الأرض التي تحت قدمي تسير بي دون خطاي، وكدت ألفظ آخر أنفاسي المتهالكة وأنا أستعيد ما سمعته للتو. 
هذا القصر يا بُني لقائد اللواء الذي استنزف عمري تحت قيادته.

أربعة عقود من الزمن تساقطت فيها حلقات شبابي، واندثرت بين ثناياها كل أحلامي الصغيرات، دثرتني الوطنية بأغطيتها الجافة، وزملتهم بأكوام الترف المنسوجة من أديم أوجاعنا.
أبحث عن بعض الفتات كي نحافظ أنا وأبنائي على ما تبقى من رمق الحياة، ويدفع ثلاثين مليون ريال مقابل أعمال زخرفة في قصره المتواضع..!
يا الله..!
قالها، والتحف القهر الذي فصلني عن باقي الكلمات التي حاولت ـ عبثاً ـ استخراجها منه.
صرخت مآسيه فاخترقت الواقع لتستقر بين ضلوعي، التي أنهكها الحزن, تأرجحتُ بين الصمت والصمت, لا مكلوم سوى الأنين.

اجتاحني كوم من الأوجاع، انتابني مشهد القيامة، المصلوب على مساحة قريبة من حياة هذا الرجل وتمزقات الوطن.
كانت خطاي المتقهقرة تلثم وجه فضولي، الذي حشرني مع الألم ما إن تصفحت تفاصيله التي يطفح بها الشارع اليمني.
أخذتُني وتأبطت أوراقي، التي باتت لا تطيق قلمي النازف المنتعل لطموحه المادي, كانت وجهتي حيث لا أدري.. وحدها خطاي من تفقهها!!
" في هذه الحياة ليس صعباً أن يموت الإنسان ولكن صنع الحياة هو الأصعب"

ما زلت مشدوهاً يلتهمني الذهول, غادرني المكان، ولم تغادرني صورة الوطن المرسوم على تقاسيم وجه الرجل العجوز.
لحظاتٌ وجيزة حتى وجدتني أفترش الأرض, أذرف جزءاً يسيراً من تفاصيل الحوار الذي دار بيني والوطن على هذه الصفحة.

بعد أن سال الحبر الدامع، انصرف وجهي شطر الطين النائم في أحضان اليمن، فوجدت الأخير يبتسم وعينيه يعتصرهما الدمع.

 «قصة قصيرة»

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص