السبت 23 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
يحيى الحمادي
من مكانٍ ما شرق الأرضِ
الساعة 19:47
يحيى الحمادي

مِن مكانٍ ما -شَرقَ الأَرضِ- أَنظُرُ إليكَ الآن.
كم تبدو مُثيرًا للشَّفقةِ والتّوَجُّس مِن بعيدٍ أيها اليمنُ السَّعير! 
كم هو مُؤذٍ وباعِثٌ للقَرَفِ مَشهَدُ أبنائك الذين يتنازعونك من كلِّ الجهات, كم هو مُخجلٌ إلى حَدِّ الوجع ذلك الصراعُ المَحمومُ والمُتجذِّرُ على ما تبقَّى مِن لِحافِك وخاتَمِكَ العَقِيق "خاتمِ الأُبُوَّة".
إنهم يتقاذَفونَ بالكلامِ وبالجُثَثِ أمامَكَ ومِن خَلفِك, إنهم يتشاتمون.. ووَحدَكَ مُلتقى الشتائمِ والنَّكَد.
 .
مِن مكانٍ ما _شَرق الأرضِ_ أَكتبُ إليكَ الآن:
تنهّدتُ كثيرًا وغَشِيَتنِي الرّجفة وأنا أغادِرُ عنك, لم أكن أتخيَّلُ أني أحبك إلى هذا الحَد, الحَدِّ الذي جعلني ألتَفِت إلى الوراء وأتساءل كالولد الوحيدِ لِأبيه:
كيف لي أن أترُكَ هذا المسكين هنا وعليه كل هذه الحروق وهذه الأكوام من العُقُوقِ والجَفَاء.. وأُغَادِر!
كيف لي أن أتخلّى عنه في هذا الظرف وهو يَتَرَنَّحُ ويُرجِعُ البصر كَرَّتَينِ إلى كل الجهات دون أن يَلُوحُ في الأفق البعيد أحدٌ لِيَمنَعَ عنه ما يلقاه أو يُلقِيَ عليه السلامَ, ولو من باب الأجر!
كم أنتَ حبيبٌ وكبيرٌ وكثيرٌ يا وطني.. ولكن في نفوسنا نحن معشر المسحوقين الذين رفضْنا أن نكون في صف هذا أو ذاك في حرب استنزافك ونضوبك, وبقِينا مكتوفيّ الأيدي مُكْتَفِين بشمعةِ أملٍ ودمعةِ خذلان.
نحبك.. ولا ندري لماذا نحبك, ربما لأننا مشاريعُ صراعٍ جديدٍ ستأتي على ما تبقى منك "كما زعم ويزعم عاشقوك" أو لأننا _وأنت توزّعُ تركتك بين اللصوص وقطاع الطرق_ آثَرتَنَا بهذا الحب وهذا البر فقلنا: رَضِينا.. رَضِينا.
 
مِن مكانٍ ما _بَعيدٍ عنك_ أُسِرُّ إليك:
كُنتُ غارقًا بالوَهمِ حَدَّ السذاجة حينما اعتقدتُ أنني لا بد وأن أبتعد قليلًا عنك, لكي أنفضَ عن روحي قليلًا من الغبار الذي تكوّم عليها على مدار خمسة أعوام نَزَفتُ فيها ما لا يُحصى من القصائد وما لا يُصدّقُ من القهر والأسى.
كنتُ مغفلًا جدًّا وأنا أترك أقلامي وأوراقي هناك زاعمًا أني ذاهبٌ للترويح عن روحي بعد أن شَعَرتُ أني بدأت بأكلِ عمري بملعقةٍ كبيرة..

أدري أنك لم تقرأ لي حرفًا قط, وربما لم تسمع بي, ولست ألُومُك في هذا.. إذ كيفَ لِمُحَاطٍ مثلك بكل هذه الجَلَبَةِ والغُبار والبارودِ أن يستفيق على صوتِ قصيدةٍ أو ينامَ على أصابع عازفٍ أو تنهيدةِ عاشق!.
مِن مكانٍ ما _لا يُشبهُك_ أهمِسُ في أذنك:
لقد تأخرتَ كثيرًا يا وطني.. 
تأخرتَ كثيرا, والأدهى من ذلك هو أنهم ما زالوا يشدونك إلى الوراء.
كم تمنيتُ _وأنا أُطِلُّ الآن مِن هذا المكان الشاهق والمُحاطِ بكلِّ أسبابِ وألوانِ السعادة والهدوء_ كم تمنيت لو كنتَ معي, ليس لأنك في أمَسِّ الحاجة إلى هذه الراحة, ربما أكثر مني, لكنْ لكي تصدقني ولو لمرةٍ واحدة أنك تأخرت.. تأخرتَ كثيرا.

كم تمنيتُ وأنا أُحَمْلِقُ في الأفق البعيد هناك أن تشعر ولو لمرةٍ واحدةٍ بالغُربةِ المُرَّةِ التي يتجرعها أبناؤكَ, أولئك الذين أُرغِمُوا على فراقك لكي يعيشوا, بعد أن أحاط بك كل هؤلاء المرتزقة وضَرَبوا حولك سياجًا من اليأس والنَّكدِ مانِعِين الملايين ممن يُكِنُّونَ لك كل الحب من الاقترابِ منك والسلامِ عليك, لقد غادر أغلبُ مُحبيك يا وطني, غادروا حاملين حُبَّهم الصادقَ وأملَهم المتبقي بعودتك إليهم وعودتهم إليك, لعلك لم تشاهد بعضهم ذات مساءٍ وهم يلتَحِفُونَ بك ويهتفون لك بالفداء والولاء.. لكني رأيت وسمعت, وأدركت أنك لست ضعيفًا ولا وحيدا, كل ما ينقصك هو أن تُريد.. أن تريد فقط.
 .
من مكانٍ ما شرق الأرضِ, بعيدٍ عنكَ, ولا يُشبهك
أحبك

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص