السبت 23 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
د.وداد عبود
رحيلٌ مبارك !
الساعة 22:45
د.وداد عبود

رائعة هي تلك اللحظات التي يقضيها المرء في خدمة الآخرين ومساعدتهم للتغلب على صعوبات الحياة ومشاكلها؛وما أكثرها اليوم !

تخرجت بمؤهل جامعي ؛ كان يمكنني من خلاله جني الكثير من العائدات المادية ؛ لكنني آمنت ولا أزال بأن المادة وحدها لا تكفي لجلب السعادة والدعة وطمأنينة "البال"، فانطلقت فور انضمامي للعمل مع بعثة أطباء بلا حدود أبحث عنها في ملامسة هموم الناس وتضميد جراحاتهم،وأوجاعهم،وكان لي بعض ما أردت.

كانت بلادي اليمن هي قبلتي الأولى في العمل الإنساني،

لقد كنت شغوفة،ومليئة بالطاقة لكل ما أفعل؛ أقدم العون والمساعدة الطبية للجميع بغض النظر عن الجنس واللون والنوع والمعتقد..

بقيت هناك وتحديدا في المناطق الشمالية؛ فترة لا بأس بها من الوقت،حملت عنهم ما استطعت من آلام وأوجاع،وغادرت وصفحات قلبي مشبعة بذكريات ينوشها  الأسى والحنين...

من ضمن تلك الذكريات المحفورة في أعماق وجعي :

 أن طفلا يبلغ من العمر 13 شهرا ؛ جيء به مريضا إلى قسم الطوارئ حيث أعمل،تصحبه أمه الصغيرة،وأبوه الطاعن بالسن!

كان وضعه الصحي غاية في التدهور ؛ حيث اتضح أنه يعاني من سوء تغذية حادة،والتهابات وتشنجات..

بادرنا لإنعاشه؛ فتم نقله إلى العناية المركزة،وقمت  أنا وزميلتي الطبيبة الألمانية (الطبيبة راسل) بمتابعة حالته أولا بأول...

عاتبت أمه عتابا شديدا..تساءلت بحرقة عن إهمالها له،ولماذا لم تأت به فور وجعه ؟

كانت ترد باستحياء شديد ؛ ومن ضمن تبريراتها؛ القول :

بأنهم لم يستطيعوا الحضور؛ بسبب بعد المستشفى عن قريتهم عشرات الكيلومترات،وأن الأب وافق الْيَوْمَ فقط على إحضاره،بعد ان تشاركوا أجرة النقل مع عائلات أخرى قادمة إلى ذات المستشفى!

يا إلهي!

كيف للفقر أن يصنع كل هذا بطفل غض بريء ك"مبارك"؟

كيف للجهل أن يتمدد في أوساطنا فيترك طفلا لا حول له ولا قوة فريسة للمرض والموت؟

هل انعدمت وسائل الحياة إلى هذا الحد الفادح الفاجع؟.

حاولنا إنقاذ (مبارك) بما أمكن من مضادات حيوية، وسوائل وريدية ومضادات للتشنج ،وكانت الاستجابة

في البداية مشجعة حيث استعاد الطفل وعيه؛ فاقترحت بقاءه في العناية المركزة ،وطلبت من الأم البقاء وعدم المغادرة...

لكن الأب رفض ذلك رفضا قاطعا،وغادرا المشتشفى؛ تاركين طفلهما هنا دون أدنى رحمة أو شفقة..

تحججت الأم بأنها لو رفضت أوامر زوجها فسيطلقها ؛

لأنه يريد من يعتني به وببقية الأطفال هناك في المنزل!

ذهبوا جميعا وتركوا (مبارك) وحيدا في شدته،يصارع الآلام والأوجاع..

ظللنا نعتني به حتى حان وقت انصرافنا،وبقيت الممرضة المختصة بالخدج والطبيب المناوب...

كانت اللوائح تقتضي بأن الأطباء الدوليين مع بعثة أطباء بلا حدود يمنع عليهم المكوث في المستشفى ليلا ؛ ولذلك غادرنا، بينما بقي (مبارك) وحيدا ،

و عندما عدنا في الصباح الباكر؛ كانت حالته الصحسة قد ساءت كثيرا..

حاولنا إنقاذه لكن إرادة القدر كانت أقوى،فمات!

مات (مبارك) وغادر واقع هذه الحياة المكتظ بالأموات روحا،وإنسانية ،وضميرا!

قبل موته كان ينظر إلي، و كأن لسان حاله يقول:

لست الأول،و لن أكون الأخير.

غادرنا (مبارك) إلى واقع أفضل من واقعه الغادر اللئيم..

غادر إلى مكان يعوّضه قسوة الحياة،وفضاضة أبيه،

و ضعف أمه وهوان أمره عليها!

غادر إلى من هو أرحم به منا ؛ نافضا عن كاهله كل هذه الأوجاع المجتمعية التي فرطت به وبغيره...!

غادرنا (مبارك) كشاهد حال ينتظر محاكمتنا هناك،حيث لا تضيع الحقوق، أو تذهب أدراج الهباء.

 

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص