الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
مروان الغفوري
ليلة نزولنا من على الصليب..
الساعة 18:15
مروان الغفوري

اكتمل العام، منذ اللحظة التي أغار فيها التحالف على معسكرات الحوثيين لأول مرة. في تلك الليلة أخذت طفلتي إلى البلكونة وأريتها سماء نهر الراين، وقلتُ لها: هيلين، شوفي، طيارة. 

قبل اللحظة تلك كان الحوثيون قد أغاروا على كل المُدن، وكان اللواء ٣٣ قد تمكن من سحق مدينة الضالع وقراها. كانت الأخبار القادمة من الضالع تبعث الظلام في القلب، فجيش الجمهورية اليمنية كان يعمل، بوحشية منقطعة النظير، على سحق كل ما يقف في طريقه، ولا مشافي للجرحى ولا خبز للفارين، ولا ملجأ. وفي البيضاء كان الحوثيون، بمساعدة ثلاثة ألوية من الحرس الجمهوري، يدكون المنازل والقرى، ويسحقون كل ما يقف في طريقهم. وفي واحدة من القرى قال الناجون إن الحوثيين انهالوا بالمدفعية على كل شيء، وسقطت البيوت على الرؤوس.

في الأيام تلك خرجت الصحفية الشابة شيماء باسيد، مع أسرتها، تبحث عن وسيلة للنجاة في عاصمة لحج، ورأت منظراً كابوسياً صنعه تحالف صالح ـ الحوثي، وراحت تدونه:
"الجثث لا تزال مرمية على قارعة الطريقة بحوطة لحج، ستجدها الكلاب والقطط والغربان. اشبعوا بها كغنية حرب لكم. أما قطط وكلاب الحوطة فستستعر بعد الحرب لتنهش من تبقى من الأهالي. يا للخزي، يا للعار".

في الواجهة كان عبد الملك الحوثي يدعو لمزيد من التعبئة العامة لحرب داخلية، وكان صالح يحشد مزيداً من التشكيلات العسكرية ويدفعها للغوص في وسط اليمن وجنوبه وشرقه. لم يكن للرجلين، عبد الملك الحوثي وصالح، أي صفة سياسية أو دستورية. أحدهم منح نفسه لقب الزعيم، والآخر السيد، وذهبا يفسدان كل شيء. بالمعنى القانوني، والتاريخي، والأخلاقي، بالفهم المبدئي البسيط: التحمت عصابتان وأسقطتا الدولة، مستعيضتين عنها بتكوين نظام هجين من الدينوية والمافوية. لا تمثل العصابتان أي مشروعية، وتستندان كلياً إلى القوة الوحشية. أزاحت القوتان المتحالفتان كل القوانين والأعراف جانباً، وطرحتا القوة كبديل وكخيار وكقدر. سرعان ما حصل الرجلان على الاستجابة الكلاسيكية لمثل تلك الخيارات: القوة مقابل القوة، و"هتجيبوا عيال كبيرة هنجيب عيال كبيرة" بالتعبير المصري الدارج.

سقطت العاصمة أولاً، ثم الجمهورية، ثم الدولة، ثم السلم الاجتماعي. كانت هذه النتيجة المروعة للانهيار الشامل، أو التفكك الكبير، هي من صنيع الرجلين.
فر الساسة إلى الخارج، فر رئيس الدولة، بقيت الحكومة تحت الإقامة الجبرية، غيرت ملامح البلد، وحتى أهداف الثورة الستة مسحت من على واجهة صحيفة الثورة، الصحيفة الأم. 

طلع عبد الملك الحوثي عشرات المرات، وكنا نراه أحمقَ وعارياً. أما هو فتحدث، كمرجع، إلى شعبه اليمني العظيم. بدا واضحاً أن الرجل الذي دخل صنعاء من وراء المدفعية قد نال السلطان بالله والمدفعية. وضعنا الرجل أمام قدرنا الجديد: من ليس الله في صفه، ولا المدفعية فليس أمامه سوى الامتثال، أو قمصان الموتى.

أمام "الدينوية ـ المافوية" وقف الإنسان العادي، وهو كل الناس، خائر القوى وتائهاً. ذهب شباب تعز في أول اختبار عملي للتظاهر أمام معسكر الأمن المركزي، صارخين: الشعب والجيش يجمعنا رغيف العيش. جاءت عربات حوثية مسلحة وأطلقت النار، وسقط الشهداء، وبقي الأمن متفرجاً، كما أن لا شيءَ يجمعه بالضحايا، لا الدم المُسال ولا العيش.

دخلت الهزيمة إلى خلايا عظامي أولاً، ثم صارت كل ما يظهر مني. أحلام الربيع، الكتابة طويلة المدى منذ ما يزيد عن ١٣ عام، الرومانسية الثورية، جميلات صنعاء بشعرهن الطويل حتى الينابيع، ويقظة الخريف .. كل ذلك صار في قبضة العدم.
هوينا من شاهق، كانت تلك هي الحقيقة.

تصلح السياسة نفسها، وتعالج الديموقراطية قصورها، وتنهض المجتمعات من الأسفل، وفي كل صباح تثور المجتمعات على الذات التي كانتها بالأمس، وتصنع المستقبل. على أن المستقبل ليس وضعاً نهائياً، بل متتالية غير متناهية من الحدث والثورة عليه، من الفكرة وما بعدها. 

كتبتُ، مع نهاية العام ٢٠٠٩، عن البطة العرجاء التي تمشي بساق واحدة. كانت الفكرة التي أعالجها كالتالي: النخبة السياسية في اليمن تقدم خطاباً سياسياً حداثياً، في بلد ليس فيه اقتصاد حديث، ولا مجتمع حديث، وفي غياب تام للمؤسساتية الضامنة للعدالة والتحول. وكنت أتنبأ بأن تواصل السياسة إخفاقها، إذ أنها تخوض مغامرة على غرار تركيب محرك مرسيدس حديث في سيارة "شاص" أنتجت مطلع السبعينات. لم تكن المشكلة في النخبة السياسية، لا في الأحزاب ولا في الخطاب الحزبي. كانت الجريمة المحضة تتجلى بصورة أخرى: نظام صالح، ذلك الذي حال دون أن ظهور المؤسسات، وسيادة القانون، وتلكأ عن توفير بيئة ملائمة لاقتصاد حديث، فلا قضاء تجاري ولا قانون، ولا بنية تحتية صلبة.

مع الأيام بدا واضحاً أنه من الصعب إصلاح نظام صالح عبر السياسة، فأي عملية إصلاح حقيقية من شأنها أن تفضي إلى انهياره، كما كتبتُ في العام ٢٠١٠. جاءت الثورة من خارج الحقل السياسي، عملية موجية كمية بلا مواعيد ولا ضفاف ولا قادة. اتخذت تلك الثورة، منذ الدقيقة الأولى، خياراً سلمياً: الخيام في مواجهة نظام صالح العصي على التصحيح.

قلنا إن صالح لم ينشغل، قط، ببناء يمن لكل الناس. لا بد أنه، خلال ثلث قرن، كان ينشط في عمل شيء آخر في ذلك اليمن الفقير والرخو والمتهالك. انظروا، إنه لا يزال حتى الساعة قادراً على حشد الناس لترفع صورته وتهتف باسمه، وتلك هي منجزاته. أنجز صالح رابطة مصالح لا علاقة لها بالقانون ولا الأخلاق، ارتبطت الشبكة به ورهنت مصيرها بمصيره، فقد وضعت تلك الشبكة كل بيضها في سلته، وهو وضعها تحت سريره.
انهارت الثورة السلمية بهجوم صالح العسكري الكبير عليها، بمساندة الحوثيين في الشمال والقاعدة في الجنوب والمؤتمر في الوسط.
كل الطرق إلى الغد أغلقت.
قبل عام من الآن غفوتُ، وكنتُ قد صرتُ لاجئاً.

قبل عام وشهر سألني سياسي يمني يتواجد في الرياض: هل صحيح أنك أعددت دراسة حول ضرورة تدخل قوات عربية في اليمن؟ وأجبتُ بنعم. طلبها مني، ووعدته بنسخة من تلك الدراسة التي لم أكتبها قط.
وفي الثامن عشر من فبراير ٢٠١٥، قبل العاصفة بشهر ونصف، كتبت رسالة إلى المفكر السياسي السعودي المعروف خالد الدخيل:
"عزيزي خالد الدخيل، قرأت مقالتك الأخيرة عن تحالف الإيرانيبن- الأميركان العملي في العراق، والوشيك في اليمن. ثمة إشارات كثيرة على أن الحوثيين يعملون مع الأميركان في حرب البيضاء، على سبيل المثال. لكن الأهم هو أن أوباما الذي مر عبر ثلاثة أوهام فيما يخص رؤية أميركا من الشرق الأوسط:
Pivot east
ثم
Building a nation from inside
ثم
The strategic Patience

خلق شرقاً أوسطَ آخذاً في التصدع، أو: أفغانستان جنوب المتوسط، وأفغانستان على المحيط الهندي. لم تكن السعودية، قط، محاطة بمثل هذه المخاطر التي نراها الآن. على السعودية أن تفعل شيئاً ما في اليمن، شيئاً شجاعاً وعنيفاً. إذا تلكأت فسيكون عليها، في أفضل الظروف، أن ترعى ثلاثة ملايين مشرد انهارت دولتهم. أسمع صراخ ألمانيا الآن، وهي تستقبل خلال أسبوعين فقط ١٨ ألف لاجئ من البلقان. لا تزال تعاني من آثار كارثة لم تتصد لها كما يجب قبل عشرين عاماً. افعلوا شيئاً صحيحاً، فأنتم لم تفعلوا أشياءً عظيمة منذ زمن.

مروان الغفوري
كاتب، ألمانيا".
كان تحالف صالح ـ الحوثي يضعنا أمام طريق واحد: الخضوع.
امتلكوا كل القوة، واستخدموها دفعة واحدة وبوحشية لا نظير لها. فحتى الجيوش الأجنبية لم تفعل في المستعمرات ما فعله صالح ـ الحوثي في تعز وعدن والبيضاء. وحتى التشكيلات الاستعمارية لم تقضِ على الحياة السياسية والتنوع في مستعمراتها كما فعل الحوثي في صنعاء.

كنا نواجه إنسان الكهف، بالمعنى المعجمي للكلمة، وذلك ما جعل كل أحاديثنا بلا جدوى.
في مثل هذه الحالات، ولو على المستوى الفردي، يوصي الأطباء بالصدمة الكهربائية. 
وفي ليلة السادس والعشرين من مارس، ٢٠١٥، أيقظتني زوجتي دامعة ومرتجفة:
"قوم خليك معانا، الدول العربية تضرب صنعاء بالطائرات"، فصرخت: الله أكبر.

خلال ربع ساعة كتبت ١٣ بوستاً. كنت كمن استعاد نفسه دفعة واحدة. خرجت إلى البلكونة وصرخت كأعرابي تائه، يابس الشفتين وهو يرى ناقته المفقودة: 
"اللهم أنت عبدي وأنا ربك"
وضحك له الله، كما يقول الأثر.
في تلك الليلة أيقظت هيلين وأخذتها إلى البلكونة، وكانت سماء شمال الراين غافية تلمع فيها بعض النجوم، وقلت لها، مشيراً إلى السماء: 
هيلين، شوفي، طيارة.
اقتربت رفيقتي منا، ووضعت يدها على كتفي، ومضت تهمس:
"الله يستر يا مروان"
ووجدتني أغمغم:
"أخيراً يفعل العرب شيئاً،
شيء من روح الستينات تسلل إلى صدري"

وكانت ليلة دافئة، يتحضر فيها الألمان للاحتفال بيوم الآلام، يوم وقف يسوع على الصليب، صادف ال ٢٧ من مارس.
وكنا، نحن اليمنيين، نتحضر للنزول من على الصليب
ووضع حد لطريق الآلام.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص