السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عماد زيد
يوم آخر في ميناء جيبوتي!
الساعة 16:34
عماد زيد

 أبحث عن حالة ذهول أمرق من خلالها إلى اللحظة.. ممسكاً بلوحة الكيبورد كما لو كنت أرتب عودتي.
فغيابي السابق والغير مبرر ناتجاً عن غيابٍ كما لو علق المرء بأفق التماس بين الصمت والبوح أو كمن يكون فاصلةً منقوطةً توحدت في مساحة الفراغ الذي نسعى إلى إيجاد موطناً للنزف على أديمه.
أيام في ميناء جيبوتي دون الالتزام الأخلاقي بنقل أحداثها للقارئ الكريم.. لقد تلقيت رسالات عتب تخبرني بمواصلة الكتابة عن ما نلاقيه هناك.

هاأنذا أسعى اللحظة إلى استعادة الأيام الماضية كمن يمسك بكابي لألبوم صور قديم ويقربها أمام عينية حتى يتعرف على ملامح تلك الصور التي يرى فيها ملامحه مشعه في نطاق مكاني تجمع الضوء فيه ليصبح كظل يؤطر تلك الأجساد والملامح.

يوم في ميناء جيبوتي. مقال اخترت السابق عنوانه كي أنقل لكم معاناة اليمنيين القادمين إلى هذا البلد.
 في هذا المقال لم يُعد يوم فقط.. هي أيام كثيرة تم فيها النزول وانقطعنا عن الكتابة..
 أتدرون لماذا؟ حرصاً على أن لا أنقل الألم إليكم.

كنت قد سمعت مقولة سابقاً لامرأة مسنّة ( الموت على غير أهله عَجَبْ).
كانت تقصد بأن المعاناة لا يعرفها سوى أهلها.. بالتالي لا يمكن لأحد أن يصف معاناة الرحلة ابتداءً سوى الأشخاص الذين خاضوا غمار البحر، ليس لصيد الأسماك أو النزهة إنما لصيد فرصة للحياة بعيداً عن فوهات الموت وجحيم الحرب.

أن ترى امرأة مسنة تنزل من سفينة وأقدامها لا تستطيع حملها أمر موجع.. أن ترى الإنسان اليمني يغادر بلده أمر كبير على التوقع.
أن تحمل طفلك الصغير على حضنك أبن الأشهر المعدودة وأنت في عرض البحر لساعات طويلة على قارب مخصص لنقل الماشية والأبقار أمر يستدعي الألم من أقاصية.
أن تعلم أن هناك مواطنون يمنيون في مطارات أخرى تلعقهم الكلاب البوليسية لأنه يمني أمر مؤسف.
أن يتم التحفظ على أسر يمنية في مطارات عواصم عربية لأيام وكأنما أصبح اليمني وباء يجب التحفظ عليه أمر مشين.

أن تنشر هذه المعاناة في الفيس بوك وأنت ترى شباب البلد كل واحد منهمك في الدعوة لإطالة الحرب بغية التخلص من المنافس الآخر لحزبه.. أمر يستحق التلفظ بعبارات وقحه. 
أن تبحث في الفيس بوك عن شخص يدعوا لإيقاف الحرب أو يناقش تضرر مصالح المجتمع ولا تجد أحد.. أمر يشعرك بالخذلان.

يوم آخر في ميناء جيبوتي.. كنا قد وزعنا وجبات الأكل وشرعنا بإجراءات التبصيم لكن للأسف الشديد مديرة جوازات جيبوتي حسناء عمر فرح لم تحضر في ذلك الليل البهيم لإعطائهم الموافقة.. أخبَرَت عن طريق الهاتف الطاقم العامل بتجهيز المعاملات غير أنهم أكتفوا بالالتفات إلى بعضهم البعض وكأنما يسعى كل موظف إلى تحميل الآخر مسؤولية ذلك مما جعل بقاء الواصلين إلى اليوم التالي فذهب السفير لإخراجهم بعد التقاءه بمسئولين جيبوتيين في موقع صناعة القرار لمعالجة الإشكالية وتوضيح الأمر.

يوم آخر في ميناء جيبوتي.. كانت مديرة الجوازات موجودة كعادتها والطاقم الجيبوتي يقوم بعمله على أتم وجه كما لو عوتبوا من رؤسائهم في العمل، غير أن الجميل في هذا اليوم وجود أحد موظفي السفارة اليمنية الأخ/ علي الشدادي وهو شاب رائع يمكن الاعتماد عليه في خدمة المواطن اليمني.
اللافت في ذلك اليوم أنني كنت أدون أسماء الواصلين نقلاً من جوازاتهم عملاً باللوائح الجيبوتية المعمول بها فأقترب مني شاب يمني قائلاً: أنا من الجنوب.
أخبرته: حياك الله أخي كلنا يمنيين.

قال: أنا من الجنوب العربي!
أجبته اليمن بأكملها تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية كلنا من الجنوب العربي.
رد لا.. لستُ من اليمن!!
كان ردي عليه الجواز الذي تحمله يمثل الجمهورية اليمنية عليك التخلي عنه والبحث عن بلد في مكان ما من رأسك أو من كتب التاريخ.. تأكد مسبقاً لن تجد هذا البلد.
أضفت في كلامي.. نحن أتينا أخي لخدمة المواطن اليمني من صنعاء من تعز من إب من حضرموت من الضالع من عدن من يافع .. الخ 
السفارة اليمنية تسعى لخدمة أبناء هذه المحافظات اليمنية الأصيلة.

سأسركم بأمر وأعتذر عن ما قلتهُ له وعن كلمة تمزيق.. لقد همست في أذنه هل تستطيع تمزيق هذا الجواز أو التخلي عنه.. فهو يمثل أبناء بلد.. أنت تخبرني أنك لست منها؟
أتدرون ماذا كان رده..
أجابني ضاحكاً: تشتي تورطني أكون بلا هوية.
عندها أقنعته أننا من وطن واحد هو الجمهورية اليمنية.

ركزوا معي على رده.. هل تريدني أن أكون بلا هوية.. لقد كان صادقاً في رده.
الإنسان من دون وطن.. بلا هويه.
وعندما انتمينا إلى الأحزاب عِوضاً عن الوطن بقيت الأحزاب تتصارع وضاع الوطن.
عندما حجمنا انتمائنا تحت يافطات مذهبية ومناطقية وأُسرية ضيعنا أنفسنا.
عزة الأوطان من عزة أبنائها.. أو العكس ربما.

يوم آخر في ميناء جيبوتي.. كانت السفينة قد وصلت ونحن على رصيف الميناء
ما أن شرع الواصلون بالنزول على ذلك السلم الخشبي حتى امتدت أيادي العاملين في الميناء من أشقائنا الجيبوتيين لإنزالهم.. النقيب عبدي إبراهيم ينزل المرضى بإنسانية عظيمة؛ يحمل أحدهم على ظهره وهو يتأرجح على ذلك السلم الخشبي.

لم يكن النقيب عبدي إبراهيم كاؤلئك الساسة الذين ينزلون إلى الشارع قبل عملية إعادة انتخابهم ومن حولهم الكاميرات لتصوير موقف إنساني مفتعل كأن يحني رأسه قليلاً للحديث مع رجل مسن.. وما أن يفوز بالانتخابات حتى يضع أقدامه على رؤوسنا سنوات طويلة.
كان عبدي إبراهيم مواطن جيبوتي يحمل أخلاق في صدره.. دخل السلك العسكري لبلده وهو يحمل تلك الأخلاق كان يقوم بذلك العمل وغيره دون علمه بوجود تلفون صغير مع أحد المسافرين لالتقاط الفيديو.. بعد أن عجزت كاميرا هاتفي الغبية عن تصويره.

صدقوني هناك أناس يستحقون أن يُذكروا وسأذكر في هذه المساحة الأخ/ نجيب الأغبري مستشار رئيس الجمهورية السيد إسماعيل عمر.. كنت قد التقيتُ به للمرة الثانية رجل مثقف بجد.. عندما تجلس معه تقول في نفسك هكذا ينبغي أن يكون المثقف بأخلاقه وثقافته وبساطته.. تود أن تتكلم أيضاً عن رئيس الوزراء السابق السيد عبد الله محمد كامل بلطفه وحكمته.. الرجل الذي يتكلم عن اليمن بعمق لا يفهمه الكثير من ساستنا.

يوم آخر في ميناء جيبوتي.. ترى فيه تلك الملامح العظيمة للإنسان اليمني وهو يشق البحر بحثاً عن لقمة عيش لأبنائه في بلد آخر.. ترى فيه مريض السرطان وهو يحمل ملف مرضه في يده وهو شامخ الرأس كما لو كان رجل يافع الصحة يدرك أن المرض الحقيقي يتمثل في القائمين على أمر البلد وليس ما حملته تلك التقارير.. ترى تلك الأم اليمنية وتلك الأخت وهي تسافر إلى بلد آخر برفقة أخ لها لإكمال معاملة في سفارة أجنبية.. ترى فيها الطالب اليمني وفي يديه ملفه الدراسي لإكمال مشواره التعليمي في بلد ما حتى عودته لإزاحة الظلام الذي سيطر على البلد.

يوم آخر في ميناء جيبوتي.. ترى فيه السفير اليمني حمود العديني كقارب وحيد أما جموع كثيرة من الغرقى وهو يمد بكلتا يديه وجسده لإنقاذهم من الغرق.
كنت قد أخذت رقم هاتف سفير يمني في دولة عربية أخرى وشرعت في مراسلته عبر الواتس آب أن يتكرم بالرد كي أطرح بين يديه استفسار بسيط.. إلى اللحظة لم يصلني رد.

سفراء وطننا الحبيب منشغلون بنوعية البدلات التي تنتجها شركات الملابس العالمية دون اهتمامهم بالمواطن.. أتحدى سفير يمني في دولة ما.. يلتقي بمواطن بسيط إلى المطار لتسهيل معاملة له.
أتحداه وأتحدى غيره ممن يحملون الجوازات الحمراء.. هؤلاء لا يمتلكون ذرة تواضع.. ها هو العالم يغلق أبوابه أمام اليمنيين دون أي جهد من قبلهم لتسهيل معاملات دخول اليمنيين.. أغلقت الأردن أبوابها.. أغلقت مصر أبوابها.. كل الدول تغلق أبوابها وهم منغلقين على أنفسهم وأمام ضمائرهم عن القيام بأدنى واجب أخلاقي في ظل الظروف التي يعانيها المواطن اليمني.

بينما السفير اليمني في جيبوتي يقضي كامل يومه في ميناء جيبوتي لخدمة اليمنيين وتقديم الوجبات لهم والبقاء حتى خروج آخر واصل منهم إلى أوقات متأخرة من الليل دون أن يتلقى أدنى رسالة شكر من حكومتنا (الموقّرّة).. أتمنى أن يصل القصد.
تخيلوا معي ونحن نستقبل المئات بصوره شبه يوميه، يكاد القلب ينفطر وأنت ترى ملامح التعب على جموع الواصلين من أطفال ونساء وشيوخ.. لولا الحياء لنزل الدمع من عينيك أثناء رؤيتهم.
ولولا كبرياء الرجل وجَلَده لذاب قلبك أسفاً على ما وصلنا إليه.

يوم آخر في ميناء جيبوتي.. وقد خضتُ تجربة إنسانية لخدمة المواطن اليمني العظيم في ميناء جيبوتي. 
وقبل أن أسافر مودعاً هذا البلد الشقيق الذي استقبل اليمنيين في هذا الظرف التاريخي الصعب.. تمنيت لو أستطيع أن أعطي صوتي لفخامة الرئيس الجيبوتي السيد إسماعيل عمر جيله في انتخابه لفترة رئاسية جديدة عرفاناً لما قدمه من موقف أخلاقي لا يمكن أن ينسى.. موقف سيبقى خالداً في وجدان الشعب اليمني، وسنظل محتفظين بالجُمل لهذا البلد الذي تجمعنا معه علاقات تاريخية وجغرافية فضلاً عن العلاقات التي تكتسب بعد ثقافي واجتماعي على اعتبار اليمنيين جزء أساسي من نسيجه المجتمعي إلى جانب الصومال والعفر.

يوم آخر في ميناء جيبوتي.. وحسناء عمر فرح  مديرة جوازات جيبوتي تداوم وفريق عملها إلى أوقات متأخرة من الليل لتقديم التسهيلات للمواطن اليمني وإعطائه تأشيرة الدخول.
يوم آخر في ميناء جيبوتي.. والسفير اليمني حمود أحمد العديني يتواجد هناك وحيداً ربما إلى جانب هشام الحاج أحد موظفي السفارة وربما مع سائق السيارة فقط وربما وحيداً وهو ممتلئ بما يحمل من قيم أخلاقية ووطنية وضمير.

يوم آخر في ميناء جيبوتي.. والشاب اليمني عبد الرحمن الزوقري يرتب ملف مسافر آخر كي يشعر بالاطمئنان لتقديم خدمته لمواطن يمني.
يوم آخر.. انتظرونا فيه لننقل لكم تفاصيل قدوم مركب آخر.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً