السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عماد زيد
يوم آخر في ميناء جيبوتي.. الخوف أن تكون السفينة غرقت!
الساعة 22:40
عماد زيد

هل سأل أحدكم لماذا البحر يتصبب غرقاً.. لماذا القارب بلا أوراق.. لماذا العصافير توقفت عن الشجو.. لماذا الحلوى تتسم بالنبل.. لماذا المدينة صودرت نوافذها.. لماذا جواز سفري بلا رئتين.
سأتوقف ذهنياً عند الجملة الأخيرة من هذه المقطوعة التي كتبتها قبل حين بعنوان غرق.. وسأتوقف في خلدي تلمساً لمعنى الخشية وتقاربها النسبي من معاني الخوف مع احتفاظ كل كلمة بتفسيراتها. 
السفينة تأخرت عن موعد الوصول.. طاقم السفارة اليمنية يذكرك بغرفة عمليات لأحدى فرق الإغاثة.. الاتصالات تتوالى من وإلى.. تجاوزنا الرابعة عصراً الموعد المتوقع للوصول.. تجاوزنا آخر تلويحه ليد النهار. 

الليل يسجل حضوره.. جمر القلق يتوهج أكثر فأكثر كلما مر الوقت.. لم يتبقى أمامنا سوى ما يحمله البحر على أديمه.. الساعة التاسعة مساءً.. العاشرة/ الثانية عشر.
أخيراً أتانا الخبر من هاتف السفير السفينة اقتربت من ميناء جيبوتي.. كان سبب تأخرها انحسار البحر عن ميناء أُبخ وانتظارها حتى ارتفعت المياه وعاودت الإبحار.. يا للسرور.
ذهبنا سريعاً في سيارة مرتفعة هذه المرة مقصورتها الخلفية مليئة بالتفاح وعلب المياه. 
تجاوزنا بوابات الميناء إلى الرصيف الذي أعتدنا وصول السفن إليه غير أننا لم نرى شيء.. ما الذي يجري أين السفينة.. كنا ننظر في الأفق فلم نرى سوى الليل والبحر وأنظار بعيدة مخلفة قبالتها تلك الأضواء المتلألئة على أديم البحر. 

كان في القرب منا سفينة رابضة وقد أخذت علينا فضاء الرؤية إلى الرصيف الآخر.. تحركنا قليلاً بسيارة السفارة حتى تجلت ملامح الرصيف الآخر.. تزامنت رؤيتنا له مع سؤالنا لأحد العاملين في الميناء فأخبرنا أن السفينة ستأتي إلى الجانب الآخر.

توجهنا فكان أن رأينا طاقم الميناء بكل استعداده لاستقبالها.. هنا على يسارنا سيارة الإسعاف على الجانب المقابل سيارة البوليس مع رافعة صغيرة أتت بسلم حديدي أنيق لتثبيته على ظهر السفينة القادمة.. عشرات الأفراد من الشرطة ومن عمال الميناء يلبسون أزيائهم المميزة والمتنوعة.. نزل السفير من على السيارة بينما تولى السائق ركنها جيداً.. نزلنا أيضاً.. كان منا ثلاثة أفراد إلى جانب السفير.. القنصل/ أنا/ هشام النهام أحد المعاونين للسفارة في هذه الرحلة.

ألقينا التحية على الطاقم الجيبوتي أثناء ترجلنا من السيارة.. ألقينا نظرة أوليه من على رصيف الميناء إلى البحر.. لتكن المفاجأة.
لم تصل السفينة بعد.
الوقت الآن يتجاوز منتصف الليل.. دقائق قليلة إذا بذلك اللوح الخشبي يتقدم رويداً رويداً.
أخيراً وصلت.. تنفسنا الصعداء. 
أخذت هاتفي وطمنا بعض الأقارب المنتظرين أمام بوابة الميناء بان السفينة وصلت.
السفير أيضاً يقوم بالمهمة ويبتسم أخيراً.

الأفراد العاملين بالميناء يتحركون بانتظام للقيام بواجباتهم على أتم وجه. البعض من اليمنيين القادمين بعد رؤيتهم للعلم اليمني في تلك السيارة المركونة ونأكدهم من تواجد طاقم السفارة أطمأنوا.
أحدهم يريد القفز من ظهر المركب إلى الرصيف تعبيراً للفرحة.. غير أننا منعناه من ذلك حرصاً على سلامته.

ما أن تم تثبيت ذلك السلم الأبيض الحديث على ظهر السفينة من قبل تلك الرافعة الصغيرة.. حتى اعتلاه الطاقم الجيبوتي العامل في الميناء استقبالاً للواصلين والمد بأيديهم السمراء لإخراج اليمنيين على ظهره.
سعادة السفير أيضاً يعتلي ذلك السلم لإخراج أحد المسنين.. هممت أن أقوم بنفس الدور.. غير أن ما قمت به الوقوف في المقابل لتوزيع عبارة الحمد لله على السلامة على الواصلين.
لا أعلم أي شعور عظيم تملكني اليوم.. شعور أمتنان وإكبار للجيبوتيين.

كانت مفردة الشكر قليلة بحقهم وهم ينزلون بأيديهم الإنسان اليمني العظيم الذي أغلقت الدول دونه الأبواب وبقيت جيبوتي حكومة وشعباً من فتحت أبوابها أمامه.
بقيت جيبوتي وحدها من أرَّخت لنفسها هذا الدور التاريخي العظيم ممثلة بسيادة الرئيس/ إسماعيل عمر جيله.. وبالسيدة الأولى في جيبوتي/ خضراء حيدا.

أعلم جيداً ما الذي يعنيه ذكر حرم الرئيس الجيبوتي في هذا المقال.. لأنني أعلم جيداً أن هناك نساء عربيات يعتلين السماء اليمنية بطائرات تحمل الموت لأسر يمنية من أطفال ونساء وشيوخ.. ولأن هناك أيضاً رجال من بلدي يوجهون أسلحتهم لقتل أخوانهم اليمنيين بمسميات مختلفة.. ولأنني تابعت الجهد الذي بذلته السيدة خضراء حيدا.. في رعاية المرضى اليمنيين في جيبوتي.
على رصيف الميناء كانت السفينة تبدوا خالية سوى من حقائب المسافرين بعد أن تجمع الواصلين على رصيف الميناء ليتولى باص الميناء عملية نقلهم إلى مقابل مكتب جوازات الميناء للحصول على التأشيرات.

السفير يأمرنا بالتوجه إلى أمام مكتب الجوازات بعد اطمئنانا على نقل النساء ابتداءً والمرضى.
كان أكباري لما يقوم به الطاقم الجيبوتي قد جعلني قبل ذلك التوجيه التقط صورة تذكارية مع بعض الأفراد وأحد الضباط هناك لم أتعرف على رتبته العسكرية لكني عرفت أسمه جيداً/ أمير عبد الله شمسان.. تخليداً للدور العظيم الذي يقومون به .

ما أن تواجدنا أمام المجريشن حتى أكتمل عدد الواصلين أمام ذلك المكتب.. شرعنا بتوزيع التفاح والمياه على الواصلين.
كانت المفاجأة أن مديرة المكتب/ حسناء عمر فرح.. غير متواجدة هذا المساء.. لسبب تأخر السفينة ولأن الوقت الآن بعد منتصف الليل.. رغم تواجدها الدائم لتسهيل خروج اليمنيين.
تولى الموظف/ magtireh aouled القيام بذلك الدور الذي تقوم به الحسناء. كنا إلى جانبه للمساعدة.
القائم بالأعمال بالإنابة سعادة السفير حمود العديني.. يقوم بتوقيع أوراق ضمانة لخروجهم.. القنصل منصور الحكيمي إلى جانب الضابط محمد حليتا لتوزيع الجوازات.

هشام النهام إلى جانبي لتدوين الجوازات وترتيب أوراقهم وعرضها على magtireh aouled .. يؤلمني أننا لم نصطحب اليوم هشام الحاج أحد موظفي السفارة اليمنية للقيام بدوره.. كان يراسلنا عبر الفيس ابتداءً استفساراً لقدوم السفينة واطمئناناً على سلامة المسافرين.. كان تلفوني أيضاً قد تلقى مكالمة من مشتاق عبد الكريم للاطمئنان على وصول السفينة.

أمضينا الليلة تدويناً وجمعاً للأوراق ومحاولة الترتيب.. كانت ليلة حقيقية استطعنا من خلالها الوقوف على جوهر الطاقم الجيبوتي العامل في الميناء وهو يقوم بدوره حتى آذان الفجر.. كان هنالك في الجوار الضابط/ abdaurazak guedi يشتغل بجهد مضاعف لمهر الجوازات بتأشيرة ميناء جيبوتي وتدوين التصاريح.. كان شاب آخر/ char marke Mohamed.. يقوم بتنفيذ توجيهات ذلك الضابط.
ملامح الواصلين يتجلى عليها الإرهاق والتعب ثلاثة أيام بلا نوم كما أخبرنا البعض.. ثلاثين ساعة وهم في عرض البحر على مركب لا تتوافر فيه شروط السلامة سوى تسليم الله أمرهم لعنايته حتى وصولهم.
أحدهم مستلقي على كراسٍ ملتصقة ببعضها رجل في العقد السابع من عمره.. عندما رتبنا أوراقه لخروجه كان يتوجب إدخاله على الموظف وما أن دخل هو وزوجته المسنّة حتى امتلأت عيناي بالدمع غير أنني زممت ذلك الدمع بصعوبة كانت المرأة المسنة تتحرك بصعوبة داخل تلك الغرفة.. أقعدتها على ذلك الكرسي.. قبلت رأسها أكثر من مرة.

قالت: (خارجونا الله يخارجكم).. كان البحر قد سرق صوتها ولم يترك لها سوى ذلك النور الذي يشع منها.. ذكرتني بجدتي عاقلة رحمة الله عليها.
أكملنا العدد حتى آذان الفجر.
استقليت تاكسي وتركت سيارة السفارة لإيصال الآخرين وتوجهت إلى مقر سكني في هودن كنت أدرك الشكر للطاقم الجيبوتي الذي يعمل في ميناء أمر لا يعطيهم حقهم نظراً للجهد الذي يبذل من قبلهم. 
بقت ثلاث حالات كانوا قد توجهوا مسبقاً إلى الهنجر.. حتى يأتي موعد الصباح لعرض أوراقهم على مدير الجوازات.. كانوا إلى جانب من يحملون الجواز الأمريكي..

في الصباح كانت السفارة الأمريكية قد أرسلت من يخرج رعاياها وأقاربهم.. في الوقت الذي ذهب السفير اليمني لإخراج تلك الحالات الثلاث.
ليكون الجميع قد أدى دوره بما يرضي ضميره ووطنيته وأخلاقه.
الشكر كل الشكر للطاقم الجيبوتي بكامل أفراده.. الشكر لطاقم سفارتنا في جيبوتي ممثلة بالسفير المخلق والمتواضع حمود العديني.. الشكر للسفارة الأمريكية في جيبوتي لاهتمامها بالرعايا اليمنيين الشكر للمتلقي الكريم.
انتظرونا في يوم آخر بميناء جيبوتي.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً