الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
الأستاذ/ خالد الرويشان
هيكل مندهشاً: حتى عبدالناصر أصله من اليمن كمان؟!
الساعة 16:43
الأستاذ/ خالد الرويشان

لم أكن أتخيل تلك الابتسامة الساحرة والمودّة الغامرة اللتين يستقبلك بهما هيكل كأنّهُ يعرفك منذ زمنٍ بعيد, وحتى قبل أن تجلس ستشعر بحيويته المتدفقة الدافقة مثل شلالٍ يسري في أعصابك, وضوءٍ ينسرب في روحك ..وبعد هُنيهات من جلوسك إليه ستتأكد لديك معالم هذه الشخصية وملامحها الرئيسية:
حيويةٌ متوهجة تصل كهرباؤها إليك منذ اللحظة الأولى. .

ثم ثقةٌ بالنفس لا حدود لها. .
وذكاءٌ ولماحةٌ لن تجد نظيراً لهما في من تعرف. .
ولعلّ القوّة المبادِرة تكونُ رابع معالم هذه الشخصية, وثمرةَ شجرتِها الوارفة.. إنّها زعامةُ الأريحية أو أريحية الزعامة!
لم يكن في نيّتي ولا في ذهني أن أحاور أو أسأل, وقد فوجئت بحيويته الفائرة, وجاهزيته الثائرة! ثم معلوماته الدقيقة عن اليمن وأحوالها وآخر أخبارها. والأهم, روقان البال النادر كأنه أفرغ روحه من كل ما يشغل أو يكدّر.

إنّه جاهزٌ لك فحسب, متفرّغٌ ومهتم. وتبيّنتُ مَعْلَماً آخر من معالم هذه الشخصية.. السيطرة على اللحظة.
كنتُ مهتمّاً بالشخصية وراء كل هذا الإنجاز الذي شغل العالم كلهُ, ثم متعة تأمُّل القيم السامقة التي تتطلع إليها أحلام الرجال: الثقافة, الشجاعة, القوّة, الجمال.. والنجاح.
لقد التقيتُ كثيرين من مفكري وأدباء العرب, ولم أتبين تلك المعالم مجتمعةً, خاصةً بعد أن يتجاوز أحدهم الثمانين كما هو هيكل في ذلك الوقت.. وأتذكر المقولة العربية القديمة: عَرَفْتَنِيْ ولي نابٌ واحد, ليتكَ عرفتني ولي نَابَان!

في هذه اللحظة تأكدتُ أن عبدالناصر كان محظوظا بهيكل وليس العكس.. 
وبدأَ الحوار مع هيكل, ولاحَ اختلافٌ حاولتُ أن أُدارِيهِ أو أُرَتِّقَه! لكنّه قال لي فجأةً: "أنا عايزك تختلف معايا", فأجبته: لكنني لم آتِ للاختلاف ولا للخلاف. قلتُها وأنا أرتشف فنجان البن وأكتشف معلماً جديداً من معالم هذه الشخصية النادرة: القوّة الواثقة.

قدّمتُ لهُ هديةً هي عبارة عن سوارٍ فضّي كنتُ قد اشتريتُهُ من سوق المِلح في صنعاء, وعندما رآهُ تملّكَتْهُ الدهشة قائلاً: "هِدايِت حتتجنن لمّا تشوفها, عندها مكروسكوب تظل بالساعات تتأمل هذه النقوش اليدوية". ولم أكن قد عرفتُ اسم زوجته إلّا في تلك اللحظة.

ثم قال لي فجأةً: "تعال معي كي ترى تحفة يمنية عندي من زمان". 
مشى أمامي وسِرتُ خلفَهُ وبجانبي عبدالكريم ابن عمّي الذي كان رفيقي في هذه الرحلة, ودخلنا شقة الأستاذ هيكل المجاورة لمكتبه.. كانَ بهو الشقة كبيراً مزداناً بعشرات التحف الثمينة, وأشار هيكل إلى جنبية يمنية قديمة معلّقة على الحائط, ثم ذهب بي إلى زاويةٍ من الزوايا ليريني صندوقاً قديماً ونادراً اشتراه من الهند عمره سبعمائة سنة! ثمّ مدّ يدَهُ إلى رفٍّ قريب وأمسك بمصحف قديمٍ مخطوط كُتِبَ بماءِ الذّهب قال لي أنّه اشتراهُ بمبلغٍ كبير وأنّه معتزٌّ بهذه النسخة النادرة من القرآن الكريم.

كنتُ قد أحضرتُ معي نسخةً من كتاب الجامع لبامَطْرَف في حلّته الأنيقة الجديدة وهو الكتاب الذي تشرّفتُ بطباعته في هيئة الكتاب, وقدّمتُ النسخة للأستاذ هيكل, وعندما لَمَحَ اسم جمال عبدالناصر على الغلاف الأخير للكتاب, وضمن الأعلام المنتسبين لليمن, قال مندهشاً: "عبدالناصر كمان! كنّا نظن أنّه أوّل حاكم مصري منذ أيّام الفراعنة.. طلع من اليمن!". ثم استدرك ضاحكاً وبلباقته المعهودة: "لكن هذا معناه أن الكل في واحد, وأنّ الأمة واحدة". 

قلتُ: "عبدالناصر ذَكَرَ هذه المعلومة عند زيارته لليمن عام 1964م, كما أن المؤلف بامطرف نقلها عن كاتبٍ أمريكي كتب كتاباً عن عبدالناصر وأثبت بامطرف اسم الكاتب والكتاب في هامش الصفحة". 
قال هيكل: "التركيز على التاريخ ودورنا فيه مهم, لكن الحاضر أهم". وأكمل: "إنني شديد التفاؤل بالنسبة لمستقبل اليمن". ثم قال فجأةً: "بس إيه حكاية خطف السياح اللي بتحصل عندكم اليومين دول؟". حاولتُ أن أشرح, وحاول أن يفهم، فلا أنا شرحت كما يجب، ولا هو فهم! لأنّ الموضوع شديد التعقيد!
قلتُ كي أنتقل بالحديث إلى حيث أريد: "إنني شديد الإعجاب بالكتاب الجديد الذي صدر لك, المقالات اليابانية". وهنا سألني: "كيف وجدت معرض الكتاب هنا في القاهرة؟". أجبته: الناشرون يشكون من قِلّة المبيعات. قال: "المشكلة في الناشرين والإدارة, مشكلة مصر المتخشبة, لقد تخشّب كل شيء, تخيّل, وزراء من عشرين سنة!" وذَكَرَ وزيراً بعينه, وأكمل: "يا راجل, دُوْل ما تغيّروش من عشرين سنة! حتى الأحذية المهترئة يتم تغييرها ودُوْل ما تغيّروش!".

سألتهُ: لماذا لم تزر اليمن من زمان؟ أجابني: "أنا جيت اليمن مرّات كثيرة, اللي مانعني الآن هو خشيتي من العزائم والولائم اللي ما بحبهاش, الشيخ(.........) والشيخ(..........) مش حيسبوني" وضحكَ وضحكتُ معه.

انتهى اللقاء الأول بهيكل, وعند باب مكتبه ودّعني بنفس الأريحية التي استقبلني بها, وزادَ أنْ ضمّ كفّيهِ إلى صدره على طريقة (نهرو) ..التحية الهندية الشهيرة! وقد كان صديقاً له منذ سنوات بعيدة.
بقيَ أن أشير إلى ملاحظة تخطر على بالي باستمرار في تأمّلاتي في أحوال الحياة والناس وصانعي القرار في عالمنا الثالث والرابع.. وهي: 
قُلْ لِيْ مع مَنْ تجلس أقُلْ لكَ مَنْ أنت!
ربّما بَدَتْ هذه الحكمة باليةً عتيقة, لكنّها صحيحةٌ ومهمّة. وفي سياق عبدالناصر وهيكل, فإنّ قرب هيكل من عبدالناصر كان لصالح الأخير بلا شك.. إنّهُ ببساطة،.. فنُّ اختيارِ الصديق والقريب .

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص