السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عماد زيد
يوم آخر في ميناء جيبوتي!
الساعة 17:56
عماد زيد

سأمزق الكرت قبل إجراء المكالمة.. وسأكسر المحبرة قبل الكتابة.
لم يعد بوسع الكتابة أن تكون وعاء لأحزاننا.. ولم يعد بوسع الفرشاة أن ترسم ملامح الوجع.
أشهر من الاقتتال تحت مسميات ترضي مشروع الشرق الأوسط الجديد ولا ترضي الله.
الدم اليمني في الأزقة والجثث على الأبواب وتحت الأنقاض.. وكل طرف متمترس وراء تعصبه.
النيران تلتهم الخارطة.. والمدن تنفض أبناءها إلى الخارج.. وميناء جيبوتي يستقبل.
من حي (أيرون ) جوار فندق (كمبسكي) تحركنا بسيارة التشريفات التابعة للسفارة اليمنية.. العلم اليمني هناك في الجهة اليمني من مقدمة السيارة.. الشمس تسحب آخر أنفاسها من رئة النهار.. الوجهة المعتادة ميناء جيبوتي.

عصر ذلك اليوم كان مقيلنا مع شاب يمني حمل معه ما أكرمه الله من صوت واتجه صوب قارة أفريقيا.. بلبل يمني أحترق عشه وانكسر الغصن الذي كان يغرد عليه.. لم يعد يحفظ أغنية أحدهم " حلفتك بالغصن يا عصفور" كلما يحفظه الطريق إلى جيبوتي كانت قد استوقفته نقطة تفتيش في أحد أحياء العاصمة الاقتصادية عدن.
احد القائمين على النقطة قائلاً:
" هنا سالت الدماء للركب وماتوا ناس وأنت جاي بالعود.. أنت عارف أن الغناء حرام.. أرجعوا يا أصحاب تعز يا خونة".
لم يستطع ذلك الفنان القول بأن الدماء التي تسفك أشد حرمة.
بلع ريقه وقال: أعلنت الآن توبتي.

أُخذ منه العود.. كان يدرك ذلك الشاب أن إعطائهم العود فيه مقايضة لحرمة دمه.
كان مقيلنا معه ذلك اليوم.. في منزل القائم بالأعمال بالإنابة سعادة السفير حمود العديني..  أخبرنا ذلك الشاب ببعض من رحلته قبل أن نطلب منه أن يسمعنا صوته.
فكان طربه حينها توشيح ديني.. بعدها " إذا صح منك الود فالكل هين .. وكل الذي فوق التراب تراب".
شاب في بداية العقد الثاني من عمره يريد أن يشارك في برنامج (عرب أيدول ) يريد أن يسمع العالم صوته بأن في اليمن أصوات أخرى غير الرصاص.
وبأن هنالك بلابل تحمل السلام.. وتحمل على أكتافها أغصان الأمل.

قبلها يريد أن يتلقى تعليمه الجامعي في تركيا.. انتهت فترة المقيل ذهب كل منهم إلى وجهته.. وبقيِّت وجهتنا ميناء جيبوتي.
كان وصولنا متأخر هذا اليوم لم نصل إلى الرصيف التي ترسوا فيه تلك المراكب.
وصلنا وأعداد المسافرين أمام مكتب الميناء لإجراءات التبصيم.
توقفت سيارة المرسيدس أمام مكتب الجوازات.. كانت الأنظار إلينا.. أربعة أشخاص يستقيلون من مقاعدهم في تلك السيارة متوجهين بخطوات معدودة إلى جموع الواصلين.
صافحنا القليل منهم وأسمعنا البعض الآخر عبارة: الحمد لله على السلامة.
تولى السفير أخبارهم ببعض التعليمات.. وهي المهمة التي أتولاها عادةً إلى جانب تدوين أسماءهم وأرقام الجوازات.
غير أني اليوم لم أعد أمتلك جواب.

أحدهم يتوجه بسؤاله إلى السفير - أثناء أخبار السفير ذلك الجمع بتجهيز أوراق السفر لعرضها على مديرة الجوازات لتسهيل إجراءات حصولهم على تأشيرة دخول جيبوتي واختصار للوقت_.
كان سؤال ذلك المسافر: أنا متوجه للهند بزنس.. ما هي الشروط المطلوبة من التجار.
أجابه السفير عليك يا عماد أخبرهم.. وأخترق ذلك الجمع إلى مكتب مديرة الجوازات.
بقيت حائراً أمام ذلك السؤال.. سؤال لا أمتلك أجابته.. ما الذي جرى لي هذا اليوم.
حاولتُ البحث عن إجابة على لسانه.. ما الأوراق التي تحملها معك.
غير أن رده كان حاداً.. أنتم سفارة أتيتم لإخبارنا بتلك الشروط.. شكلكم تشتوا نخبركم أحنا.
كان رداً محرجاً لي.. ويحمل فيه نبرة الإهانة و الشماتة.. كان يفرد أكتافه أمام المسافرين الآخرين وكأنما نال مني.

يبدوا أنني سأفقد اللياقة غير أنها عادة بعيدة عني.. أخبرته بلهجة تشي بأن كلمته جرحتني.
أخي نحن أتينا لخدمتكم وليس لتلقي الإهانات.. ومن ثم لقد وضعنا على صفحة السفارة كامل الشروط كان عليك قراءتها.. أيضاً لستُ موظف في السفارة أنا أحد المعاونين لطاقم السفارة أتيت لخدمتكم.
كنت أخبر نفسي سراً.. لقد أطلعت على الشروط المطلوبة للطلاب والمرضى ومن لديهم معاملات في السفارة الأمريكية.. لماذا لم أطلع على الشروط المتعلقة بأرباب المال.
يبدوا أن التفكير بالمال من الأشياء النادرة في ذهني.
ذهبت إلى عمق المكتب.. في طريقي ألقيت السلام على جميع الموظفين.
احتفظت بابتسامة لمديرة الجوازات حسناء عمر فرح.

 أدرك الجهد الكبير الذي تبذله هذه الموظفة إلى وقت متأخر من الليل بغية مساعدة اليمنيين في الحصول على تأشيرة دخول العاصمة.
أخبرت السفير بأنني أحتاج هاتفه فقد نفذت بطارية هاتفي.. توجهت إلى الخارج لضعف تغطية النت في المكتب.. كنت أسعى من خلال ذلك الهاتف الولوج إلى موقع السفارة والحصول على تلك الشروط ومن ثم أخبار ذلك الشاب.. لم أستطع الولوج.. كان عليا الابتعاد إلى مكان تتوافر في تغطية أكبر.
غير أني ذهبت إلى ذلك الشاب واعتذرت له.. أخبرته بأن عليه البحث عن أي أوراق متعلقة بغرض سفرك هذا كل المطلوب.
ربتُ على كتفه الضخم معتذراً وعدت إلى مكتب الحسناء.

قبلها كنت أرى ثلاثة موظفين يقومون بإصلاحات على أجهزة الكمبيوتر وكـأنما هناك عطل بنظام التبصيم. 
كنت قلق جداً أن يتأخر المسافرون إلى الغد في هنجر الميناء.
ما الذي علينا أن نخبرهم.. أجابني السفير الأمر ليس بيدنا وليس هناك داعي للقلق.
ذهبنا حينها إلى صلاة العشاء في مسجد مقابل للأرضية التي يجلس عليها المسافرون أمام مكتب الجوازت.. كان هناك باحة صغيرة أمام ذلك الجامع صلينا فيها.
عدنا وقد شرع الموظفون في أخذ البصمة.

توزعنا سريعاً للقيام بالأدوار المعتادة بغية تسهيل خروج المسافرين.. أخذتُ في تدوين الأسماء كعادتي.. غير أن مهمة أخرى واجهتني.
بعض المسافرون ليس لديهم معلومات كافية.. وقد يضطر الأمر إلى بقاءهم إلى اليوم الثاني.. من ضمن أولئك المسافرين امرأتين.
أحضر القنصل شخص آخر لتدوين الأسماء.. بينما أخذت هاتف السفير وذهبت في أرضية الميناء بحثاً عن تغطية.

أخذت من أولئك الأشخاص الذين قد يحتجزوا أرقام هواتف أقاربهم في أمريكا في السعودية.
فكانت السعادة أن قاموا بإرسال تلك المعلومات عبر الواتس وبهذا استطعنا أن نحصل لهم على تأشيرات الخروج.
ونحن نغادر الميناء استوقفني رجل مسن على ملامحه طيبة ونقاء الرجل اليمني الأصيل.. رجلٌ  كأنما خرج من لوحة تشكيلي بتلك الأخاديد المرسومة على وجهة.

_ يا ولدي أيش أعطيك أنتم ساعدتمنا على الخروج.. أخبرته هذا أقل واجب نقدمه لكم يا والد.. لا داعي للشكر.
احتضنت جسده وأنا مبتسم.. توجهت بسؤالي: من وين أنت يا والد؟
أجابني من يافع.
أكملت حديثي معه بقولي: كلنا من بلاد.. ووضعت على جبينه قبله.. قائلاً: دعواتك يا والد. 
كان طاقم السفارة ينتظرني غير أنني مجبر الرجوع سريعاً وتوديع أحد زملاء كلية الحقوق/ سامي عبد الإله.. من أبناء الحالمة تعز.
اليوم وبعد ثلاثة أيام من تلك الرحلة كان هاتفي قد استقبل مكالمتين تخبرني أن هناك رحلتان قدِمتا من عدن. غير أنني اعتذرت مجبراً.. وتوجهت من منطقة سكني في هودن إلى منطقة (بلاس رامبو ) وسط المدينة لإحضار أدوية لوالدتي. 
 عُدت إلى هودن محملاً بثلاثة أكياس.. بانتظار عودة سفينة أخرى إلى ميناء جيبوتي لنخبركم أننا هناك.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً