الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
زكريا الدهوه
من مذكرات مواطن مفقود
الساعة 22:54
زكريا الدهوه

مؤسف أن أكتب هذه السطور في صباح الغربة الشتوي القارس كشتاء القلب لألملم فيها ما تبقى من تشظيات الروح التائهة في فضاءات اللاوعي.

أرق وهواجس تصارعك لتسرق منك النوم حتى مطلع الفجر، تنام ساعة أو ساعتين، تستيقظ بعدها فزعا دون حلم مفزعٍ، فقد نفذ رصيد الحلم كنفاذ النوم، فالواقع أشد فزعا..

مؤسف أن تستيقظ من اللانوم لتجد نفسك في حقيقة مفادها أنك لن تحلم مجدداً. وأن الذكريات هي ما تبقى لك من حلم كنت تعيشه طفلاً وأنت ناء عن وطنك تشردك لقمة العيش مع أسرتك الصغيرة. يردد أبوك مرارا وتكرارا في بلاد الغربة: بلدنا هي الأجمل، سماؤها، ترابها، يُسمعك كل صباحٍ أغاريد (أبو بكر)، (أيوب)، (السنيدار):
" ما أجمل الصبــــح فـــي              ريــف اليــمن حيـن يِطــلَعْ"

في أوائل تسعينيات القرن الماضي، عدنا من المهجر، كنت حينها في المرحلة الابتدائية، عدت أردد في آخر طابور الصباح أنشودة بلدي الحبيبة: "رددي أيتها الدنيا نشيدي..." ـ وكنت محتارا لماذا نشيد الوطن أخيرا بعد أن مللنا الوقوف في حر الشمس في ساحة المدرسة ـ جميل جدا أن تردد نشيد وطنك في حضنه المنشود.

كانت ومازالت ألحان والدي وترانيم (شعره العامي) ترن في مسمعي حتى الآن، وهو ينشد للوطن، في عجز بيت شعري "وأهوى كل من يهواكِ"، كان هذا البيت وغيره مصدر إلهامي وحبي لوطن ما وَطئتُ أرضه إلا في سن العاشرة منذ كنت في المهد رضيعاً؛ لكنني رشفته من حكايات أبي وأشعاره وتغنيه به، من شاشة التلفاز في المهجر، من مدامع أمي المتضرعة شوقا لذرات التراب الخصبة العالقة في خضرة جبال مدينة (إب) ، لأبواب (صنعاء) القديمة، لرقصة أغصان البن ذات العقيق الأحمر.

اليوم .. ما ذا أقول اليوم ؟ أنفاس أمي التي كانت ـ خارج الوطن ـ تلهث لرائحة من تراب الوطن، هي الأنفاس التي تتهالك اليوم فزعا من التراب نفسه وداخل حدود الوطن، تراب تمثل رجالاً أسوياء، رجالٌ يبتسمون لحمرة الدم لا لحمرة البن والعقيق.

أبي الذي كان ينتظر عودتي من المهجر ويستعجلها بفارغ الصبر، يطمح أن أعود لأبني وطنا تثمر أجياله، اليوم فقط يقول لي أبي بصوت (يعقوب):" لا تعُد يا بُني"، علمت أنه لا يخاف علي من الذئب بل من أخوة يوسف.

زملائي من ترابي وطينتي هنا في أرض المهجر، كانوا يتزاحمون لإتمام الدراسة طمعاً في العودة إلى يمنهم المنشود، عاد منهم في الفترة الأخيرة عدد غير قليل إلى الوطن يحملون شهادات الدكتوراه بتفوق وتألق، عادوا لكن لم يتبق غير أصابع تصعد وتهبط، كغريق يغرغر في بحر مظلم، تختفي أصابعهم الإصبع تلو الأخرى، لغة أصابعهم فقط تقول: لا تَعُد..!

يحيى ولدي صاحب السنوات الأربع ماذا أقول له؟، صحيح أنه مازال خارج الوعي بالوطن وما ينتظره، لكن ماذا سأزرع له من شاشات الأخبار اليومية التي نتابعها عن الوطن المكلوم، هل أزرع له نواح ثكلى (صعدة)؟ أم أشلاء أطفال (تعز) و(المخا)؟ أم دموع مكفوفي (صنعاء)؟..!

يحيى لم يستمع إلَّا إلى أغنيات الحرب، أغنيات الموت، أوبريت "آه يا يمن"، حشرجات (لطفي بوشناق): "أنا اليمني يا وجع اليماني"، "لكن خلُّوا لي بلادي". لم يعرف غير هلع وصراخ أمه في المهجر خوفاً على أسرتها حين يقال سقط صاروخٌ، قُصِفت (إب).

ماذا سأقول يا يحيى لأخيك القادم في الأيام القريبة، ما أخشاه أن ينطق في المهد ما قاله أحد الأصدقاء في صفحته على الفيس بوك: "أمر مرهق أن يُولد المرءُ يمنيا".

يؤسفني جدا جدا ما وصل إليه أهلي وأصدقائي في اليمن من حالة يصعب على كائن حي أن يعيش في هذه الظروف العصيبة، ومع ذلك مازالوا أحياءً، يناضلون، والأمل يحدوهم بعودة حلم قديم سيطل من جديد، كما عادت من قبل أوطانٌ من قبورها.

                                                           
                                                            مصر 24/1/2016م

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص