الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
عماد زيد
يوم في ميناء جيبوتي! صورة مع التحية لمعالي الوزير/ عبد الملك المخلافي.
الساعة 20:57
عماد زيد

في منطقة (هودن ون) إحدى ضواحي العاصمة الجيبوتية.. إذا ما أردتُ رؤية ميناء جيبوتي مساءً ما عليا سوى الذهاب إلى سطح المنزل الذي أقيم فيه لأرى انعكاسات المصابيح على أديم البحر.. هناك جمهرة من الأضواء توشك أن تكشف ملامح الرافعات العملاقة في ميناء بلد صغير يدرك أبنائه الأهمية الإستراتيجية لميناء يكاد يعتلي مصادر الدخل القومي الجيبوتي.

كان تواصلي المسبق مع القائم بالأعمال بالإنابة سعادة السفير اليمني لدى دولة جيبوتي الأستاذ حمود العديني.. بغية الذهاب معاً لاستقبال زعيمة قادمة من اليمن تحمل على متنها (200) راكب.. صعدت إلى جانب السفير في سيارة مرسيدس تابعة للسفارة اليمنية وبينما تذهب الطريق بنا جهة الميناء إذ بالسائق يتوقف فجأة على يمين الطريق ويترجل من مكانه إلى مقدمة السيارة لتثبيت العلم اليمني في الجهة اليمني منها.. صدقوني شعرت بالسعادة الكبيرة وأن أرى علم بلدي يرفرف أمام ناظري.. تلك الاتصالات المتواصلة من قبل السفير إلى الميناء وتواصله المستمر مع السلطات الجيبوتي لم تُعد تشعل حيّز في ذهني.. لقد أمتلئ قلبي بالأسى وأنا أنظر إلى راية صغيرة لبلد عظيم تشتعل النيران فيه.. رغم ذلك الأسى كان العلم يرفرف.. صدقوني كان شامخاً كان يرى وجعي أدركت ذلك.. رغم ذلك الإدراك كان يرفرف.. حدثت نفسي ستنهض البلد من جديد لا داعي للتباكي.. هنالك رجال في البلد.. شعرت بذلك الشعور الذي أقرأه أثناء دخولي صفحة الأستاذ خالد الرويشان في الفيس بوك.. أخذت نفساً عميقاً يكفي لإنقاذ غريق.. كان صحوي من تلك الحالة الذهنية مع صوت السفير وهو يقول اقتربنا من بوابة الميناء. 

كنت على علم مسبق بأن الدخول إلى الميناء صعب ما لم تكن ضمن طاقم السفارة.. وإذا ما كنت صحفي عليك الحصول على تصريح مسبق.. لكنني حُسِبتُ على طاقم السفارة.. تجاوزنا أفراد الأمن الذين رأوا العلم اليمني بجانب السيارة فأعطونا إيماءات العبور.. أصبح عمال الميناء يعرفون طاقم السفارة جيداً لكثرت حضورهم إلى الميناء.. كنت أرى آثار سكة القطار التي أنشأها الاستعمار الفرنسي في ذلك الميناء كان التراب الخفيف الذي يعتليها ويطمر أطراف منها يشي بأنه تم الاستغناء عنها حديثاً لتنوبها عجلات الشاحنات التي تحمل البضائع إلى خارج الميناء.. توقفت بنا السيارة أمام ذلك القارب القادم من عدن..

قارب  خشبي لا تتوافر فيه شروط السلامة لكنه لا زال يخطو إلى الأمام ببطئ في بلدٍ تتراجع سريعاً إلى الوراء القريب وليس إلى الوراء التليد الذي كانت اليمن فيه تمثل إشعاع للحضارة حينما كانت تحكمها النساء الأوائل وليس رجال اليوم الذين أخذتهم الصراعات وحب الاستئثار بالسلطة إلى ضياع بلد.. وأنا أستثني هنا حقبة الزعيم الراحل إبراهيم الحمدي الذي كان يتوجب أن يجعلوا صورته بدلاً من ميزان وزارة العدل لعدالة حكمه ولصدق توجهه.

نزل السفير من مقعده وبمعيته أنا وأحد العاملين في السفارة.. سفارة لا يتجاوز طاقمها ثلاثة أفراد لكنها لا زالت تعمل.. لا زالت تعمل كذلك القارب المنهك الذي ينزل من على كاهله ركاب هربوا من الحرب وجحيمها إلى بلد تمثل المنفذ الوحيد.. لا زالت السفارة تقوم بدورها رغم أنها بلا رواتب منذ ستة أشهر تقريباً.

إلى ذلك الجمع المنهك على أرضية الميناء والذي يتأكد البعض منهم على حقائبهم الصغيرة بعد نزولهم من على الزعيمة كان وصول السفير.. وصل وعلى لسانه عبارات التطمين والاطمئنان على الوصول.. أخبرهم أنه بجانبهم وسيعمل على تسهيل إجراءات إخراجهم.. كان هنالك مرضى وأحدهم كان في يده اليمنى دعامات حديدية مثبتة عليها.. تم استدعاء سيارة الإسعاف للتوجه بهم إلى مستشفى الرحمة الطبي للحصول على العناية الطبية.. أحد المسافرين إلى جانبي كان يهمس في أذني هل أنت متأكد بأن هذا السفير.. آخر يقول: ( ما تعودناش أن الدولة تهتمي بنا.. والله أن السفير هذا محترم) لم يسمع السفير البعض من عبارات الإطراء لانشغاله بمتابعة صعود المرضى إلى سيارة الإسعاف.. ما إن أكمل اطمئنانه على خروج المرضى حتى شكره البعض وقال له أحدهم: ليش ما تغيروا لنا السفينة اللي جابتنا؟

التفت إلي السفير مبتسماً وليس هازئاً كون هذه الصفة ليست من صفاته فهو رجل تلمس طيبته سريعاً ربما أرادني أن أجيب على السائل.. قلت للسائل هامساً في أذنه بصوت يسمعه من بجواره:" اللي حكموا اليمن صلحوا لهم فلل وما أهتموش بنا والآن بيدمروا الوطن.. وبعدين الموضوع اللي تتكلم عنه مش من اختصاص السفارة.. وطاقم السفارة لهم أشهر بدون رواتب لحد يدري".
ربتُ على ظهره ورفعت صوتي الحمد لله على السلامة.. كلنا جينا بها.

توجهنا إلى مكتب إعطاء التأشيرات.. طبعاً أصبحت الآن أحد الأشخاص الذين سيقدمون العون للسفير إلى جانب أحد العاملين في السفارة.. بينما سائق السيارة ركنها بعيداً ولا زال ينتظرنا في الخارج.. أربع ساعات ونحن نبذل جهد داخل مكتب الحسناء مديرة جوازات جيبوتي.. كنت أتلقى التعليمات بأخبار أخواننا المسافرين بالإجراءات التي ستتم وبالمساعدة في البحث عن جوازات المرضى بغية تسهيل إجراءاتهم أولاً.. اكتملنا من إجراءات السلطات الجيبوتية المتعلقة بالتبصيم في وقتٍ كانت الساعة فيه تشير إلى اكتمال نصاب الثانية عشر ليلاً متجهة نحو الواحدة.. مديرة الجوازات بالميناء تهم بالنهوض بينما السفير إلى جانبها لإكمال إجراءات خروج من تم توقف العدد عندهم.. لم تسطع مديرة الجوازات إكمال العمل بمعنى أن خروج المتبقيين سيكون صباح غد السبت.. كانت تخبر السفير لماذا لم تتواصلوا إلى اليمن حتى لا تأتينا الرحلات يوم الجمعة على اعتبار أن الجمعة عطلة رسمية في جيبوتي.. كنت أقرأ من صمت السفير كأنما يجيب نحن نرسل المذكرات لكن يبدوا بأن المختصين لم يعد لديهم فاكسات لاستقبالها.. التفتُ إلى الحسناء ليتبادر إلى ذهني أثناء استماعي للمترجم بأنها تلمح إلى أنهم رغم ذلك يبذلون جهد كبير خارج الدوام وها هي الآن الساعة الثانية عشر ليلاً.

الآن أدركت أنني في مأزق حقيقي.. عليا أن أخبر المسافرين أن  صباح الغد هو موعد خروج البقية التي تتجاوز نصف الواصلين.. هكذا اختاروا لي دور لا أحب القيام به. 

كنت أرى العوائل مستلقية أرضية الميناء حتى أشعر بألم حقيقي في صدري.. كدت أختنق.. حاول السفير أثناء كلامه مع الطاقم الجيبوتي حثهم لبذل جهد أكبر إلا أنهم منهكين..
كان عدد الواصلين ليس بالقليل.. أكدوا لنا أن استكمالهم لبقية الإجراءات يحتاج وقت طويل قد يمتد إلى الصباح.. مما يتوجب عليهم الذهاب إلى نومهم.

بقيت أنا وتلك المهمة الصعبة.. كنت أدرك مسبقاً نفسيتنا كيمنيين (كل واحد منا يريد أن يخرج الأول).. وإذا ما بقي آخرون فستتهم بأنك داهنت.
جمعت أرادتي وأخبرت البعض منهم.. طاقم الميناء توقف عن العمل مما يعني أن عليكم التوجه إلى هنجر الميناء الذي تتوافر فيه الوسائل المطلوبة حتى الصباح.. أخبرتهم بأن هناك الأسرّة وهناك دورات المياه.. والهنجر ينقسم إلى قسمين النساء بجانب والرجال في الجانب الآخر وهناك حاجز بينهم".
ليس من أحد يصفق لكلامي.. لم ألمس في الملامح أي قبول. 
الآن أدركت الجهد الذي تقوم به السفارة.. لقد أتهمتُ مباشرة من قبل 4 أشخاص.
أحدهم يقول أنتم مداهنين.. 
آخر يقول: أنتم لا تريدون أخراجنا.

أجبته ويدي اليمني في الهواء:" أقسم بالله أن الأمر خارج أرادة السفارة وأن الطاقم الجيبوتي هو من بيده اتخاذ القرار وقد حاولنا معهم".

يشيح وجهه عني مبدياً علامات الامتعاض.. رجل في العقد الخامس يبدوا من ملامحه الوقار لكنه يستشيط غضباً يتجه نحوي.. حاولتُ استلطافه قبل أن يصل إلي جانبي بعبارات صادقه وبصوت مسموع:" هذه عوائلنا: أمهاتنا/ وأخواتنا.. والأمر ليس بيدنا الآن.. يرد آخر من جانبي لو كانت عوائلكم أنكم أخرجتموها.. قاطعته:" أخي إجراءات الخروج لم تكتمل هناك بيانات ناقصة لم تستوفي في ميناء أبخ.. الحقائب لا زالت تفتش.

أحدهم يقول لي: لقد رأيت في يدك جواز كنت تبحث بين الجوازات عن أشخاص تعرفهم أخرجتم من تريدون.

أخي كنت أبحث كمساعد لأحد موظفي السفارة عن جوازات المرضى وكان هناك امرأة حامل توشك أن تسقط.. نحن لم نداهن أحد. هكذا كان جوابي.

أعقبتُ قولي: لا أخفيكم أن حالة واحده هي من أخرجناها.." أمرأة في العقد الرابع أتت بمعية طفل.. هذه الأسرة بلا محرم.. أخوها لم يستطع السفر معها من عدن لمشكلة في جوازه فجعلها تسافر مع عائلة أخرى وهناك من ينتظرها الآن في بوابة الميناء من أقاربها.. أفهموا ليس لها محرم.. وأحنا يمنيين نفهم الأصول.
المهم أقنعت الكثير رغم الجهد الذي بذلتهُ.. كان على ملامحي الإعياء وكان صوتي يجف ويتلاشى نتيجة الإرهاق.. كنت نهار ذلك اليوم صائماً قبلها كنت ساهراً لم أنم سوى ساعتين فقط. 
تفهموا بعد جهد وأيمان صادقة.. اتجهت إلى سكني في منطقة هودن.. كان آخر ما سمعته من أحدهم: قد كنا حبينا السفير شكله سفير محترم.. بس فلتنا بالأخير.
أجبته السفير راح يجيب لكم عشاء وماء.

في طريق عودتنا كنت بسيارة أخرى لضابط جيبوتي يجيد اللغة العربية مع أحد موظفي السفارة.. كان الضابط يختلس من بعيد عملية أقناعي للمسافرين وتلك الحلقة حولي ويذهب بالضحك دون علمي.
لكنه في سيارته لم يخفِ عليا نَفَس من ذلك الضحك هو وموظف السفارة اليمنية..
موظف السفارة وهو يلتفت لي: الآن أدركت التعب الذي نواجهه.
أجبته أحسدكم على الأجر الذي تحصلون عليه.

وأنا أتلو على نفسي سراً أقصد بذلك الأجر ما يأتي من السماء وليس من الرياض أو وزارة الخارجية.. كون البعثات الدبلوماسية في جميع الدول بدون رواتب كنت المستمع الوحيد لما نطقت به.. أضفت إلى نفسي وزير الخارجية الذي عُيّن قريباً الدكتور/ عبد الملك المخلافي.. رجل محترم ومحل تقدير أنا على يقين بأنه سيقوم بواجبه في دعم السفارة اليمنية في جيبوتي كون هذا البلد المنفذ الوحيد وسيركز جهده على تحسين العلاقات مع المملكة الأردنية لإزالة العوائق التي وضعتها الحكومة الأردنية على سفر اليمنيين.
وصلت إلى غرفتي كنت ثقيلاً على فراشي نزعت (الفنيلة) من على ظهري.. لكنها ملتصقة بجسدي لقد كانت مبتلة بالعرق.. كان وقت وصولي الثانية وسبعة وأربعون دقيقة بعد منصف الليل.. لم يتبقى للصباح سوى القليل أكلت وجبة خفيفة ورجعت إلى الفراش وعلى بالي صورة موجعه للقلب تطارد حاجت أجفاني للالتصاق.. صورة العوائل وهن على أرضية الميناء.

وأنا كذلك استيقظت بعد غفوة متقطعة لمدة ساعتين تقريباً.. اغتسلت صليت الفجر في انتظار اتصال للسفير أو القنصل كيما نذهب إلى الميناء لإخراج المتبقيين.
اتصال متأخر حوالي السابعة والنصف يخبرني بأن سيارة السفارة تنتظرني في هودن.. خرجت إليها وتوجهنا إلى سكن السفير بعدها إلى السفارة بعدها إلى الميناء.

وصلنا حوالي التاسعة ظهراً كانت العوائل قد خرجت من الهنجر وتوجهت إلى مكتب الميناء القريب من الهنجر.. استبشر المسافرون بعد رؤيتنا اعتذرت مجدداً بأن تأخير أمس خارج إرادتنا غير أن الرضى كان واضحاً من ملامح الكثير.. كانوا قد تفهموا الوضع.

في مكتب الحسناء كنا نجهز التأشيرات مع ضباط جيبوتيات وأقصد هنا نساء.. مع احترامي الشديد للمرأة الجيبوتية.. كون المتواجد في جيبوتي يدرك أن النساء يقمن بعمل 90 % من العمل الذي يتوجب على الرجال القيام به.

رأيت البعض ممن كان يستشيط غضباً في المساء لكنه الآن يبدوا من ملامحه الهدوء.. كنت أدرك الظروف النفسية التي عانوها سواء في المناطق المشتعلة حرباً أو حصاراً أو ما عانوه بتلك الرحلة من عناء في مركب يحتاج للوصول 20 ساعة.. رغم قرب المسافة.. مركب محلي الصنع في مؤخرة المركب حمام صغير معلق في الهواء في مساحة صغيرة لا تتجاوز المتر.. لو ذهب إليه أحد الأشخاص الذين يعانون الدوار لسقط في البحر.

الأهم من ذلك هو الاكتمال من تجهيز معاملات حصولهم على تأشيرة الدخول والاطمئنان على خروجهم من الميناء..
استطيع القول أننا أخذنا تجربة حقيقة حول عمل السفارة.. استطعنا أن نخدم أخوان لنا من طلاب ومرضى وعابرين إلى دول أخرى.

وقفت على المعدن الحقيقي للأخ حمود العديني سفيرنا في جيبوتي وما يقوم به.. شخص يستحق الثناء والتقدير.. شخص يستطيع أن يتحمل كل المتاعب بصمت.. شخص يبحث عن ما يرضي ضميره بعيداً عن الإعلام وأضواءه رغم أنه لم يسلم من الهجوم على شخصه.. وأنا هنا أخاطب الدكتور/ عبد الملك المخلافي وحكومتنا في الرياض ممثلة برئيس الجمهورية/ عبد ربه منصور هادي. جيبوتي المنفذ الوحيد لليمنيين.. السفارة بحاجة إلى رفدها بثلاثة دبلوماسيين إلى جانب المتواجدين حالياً.. السفارة بحاجة إلى رسالة شكر لشخص السفير/ حمود العديني.. على ما يبذل من جهد كبير.. وعلى ما يمتلكه من رقي في الأخلاق والتعامل.. هكذا لمسناه عن قرب لأشهر. 

أُقسمُ أن سفيرنا في جيبوتي رجل فاضل.. رجل ينبغي أن يعرف ليُعطى حقه.
خالص تقديري للمتلقي الكريم.. خالص ودي وعفوي لمن شتمني في الميناء وقدم اعتذاره ولمن رفع صوته عليَّ ولم يعتذر لكنه ابتسم وهو يغادر الميناء كرسالة تحمل طلب السماح.
انتظرونا في يوم آخر بميناء جيبوتي.    
                                               

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص