الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
غيلان العماري
كم ياأيها الموت تبقّى حتى نستعيد زمام الحياة من جديد؟
الساعة 21:43
غيلان العماري


   "عون الله"  ذو الإثني  عشر  ربيعا،  جاء  هذه المدينة ، إب ، باحثاً  في  أروقتها  الصحية  عما يسدّ  رمق  طمأنينته ، من  قاتلٍ  يسري  بين ضلوعه  سريان  النار  في  الهشيم.. جاءها مستجديا العافية، ولم  يكن  يدور في خلَده  بأنها  ستخذله  أو  تشيح  بوجه عنايتها عن  معاناته ، ليمضي  شاهراً في  وجه  الجميع  جامّ  أسفه وأساه : "يا جماعة الخير اشتي علاج  يخليني  اكل  واشرب وانا أدي  لكم  الذي  بدّكم"... قالها  عون  بمرارة... وكان  لا ينهض  إلّا ليجلس ، ولا يجلس  إلا ليقوم ، ولا يحاول  أن  يشرب ،  إلاّ  ليثبت  لمن  يشاهده  بأن قطرة  ماءٍ  واحدة  لا يمكن  لها  العبور  إلى جوفه  الظامئ  المشتعل  بالآلام.

"قبل شهر وسبعة أيام  عضّه كلب في القرية ،واليوم حالته  تاعبة  زيّ ما تشوف ، لا يقدر يأكل ، ولا يقدر يشرب....." يسرد خاله القضية.
يا إلهي!!
إنها سبعة  وثلاثون  يوما إذن، شهر  ونيّف  وهذا الطفل  البريء  في  مواجهةٍ  غير متكافئة  مع  ذلك  الداء الخبيث  الذي  حقنته  به  أنياب كلبٍ مسعور لا يختار ضحاياه بعناية،  فضلاً  عن  أنياب  هذا الواقع  الطاعن  بالأوجاع  ، وقد يسقط  صريعا  في  أية  لحظة! 
 
يذكر  " عون  الله " بمرارة  كيف أن  والده عجز  عن سداد  ثمن  أجرة  السيارة  التي  أتت  لإسعافه : " ماكان  مع  الوالد  إلّا  ألف  وخمسمائة ريال، و سوّاق  السيارة يشتي  مبلغ  كبير بسبب أزمة البترول " ثم  ماذا  يا عون؟ "عادت  السيارة  وبعدها حطّوني  بالغرفة  وكل  ما  جاء  من  يوم  والمرض  يزداد " ، يستبسل  في  التمسك  بما  تبقى  من ثباته ، لكنّ  تقاسيم  وجهه  المنهكة   كانت  تفصح  عن  الكثير  الكثير  من  معاناته!
كان  الفقر  -إذن-  أحد  المتمالئين  في  قتلك ياعون  الله ، وكان الجهل  وهو يعيدك  نحو البيت حيث تنتشر لذلك  الفيروس  الخبيث فرص التمدد  والإنتشار ؛ كان له  القسط الوافر من  هذه  المأساة !
وماذا عن  الحرب ؟
ألم  تكن  وهي  تمنح  الجرح ، أسباب نزفه ؛ تغلق  في  وجه  عون  الله  وكثيرين  غيره ، أسباب  الحياة؟
حربُ الأخوة  الأعداء ، وحرب الخارج عليهم، وبينهما وطن طاعنٌ  بالفجيعة  هو المستهدف الأول  والأخير!
حربٌ شاهقة الأوجاع ، لا ضمير لها ،أو مبادئ، أوقِيَم ، ومع  ذلك فصوتها الصوت الذي لا يزال يُرفع، وأمرها الأمر الذي لا يزال  يُسمع!
لكن ، أين  نحن  من  كل  هذا؟ أين صوت الشعب ، أين أنيابه ؟ أين مخالبه؟
اين الفعاليات المدنية ،أين منظمات المجتمع المدني ، وحقوق الإنسان؟

ألا  يجب  أن  تتضاعف الجهود  وفي مقدمتها  الصحية ، في  مثل  هكذا  مآسي  وأوجاع؟
لماذا تقتلنا  الحرب ، والأصل  أنها تحيينا؟ تحيي  فينا ،  قيم التعاون  والتكافل  والغوث، قيم الرحمة،  قيم  الصمود وبذل التضحيات في  سبيل  انتصارنا  على  الموت  الذي يكشّر اليوم عن  أنيابه  بشراسة ، ولن  ننتصر  - أبداً - عليه  طالما اتّسعت  في واقعنا المعاش بؤر الضغينة ،وضاقت بنا أحلام  التعايش والتسامح  والسّلام.

لن  ننتصر عليه  وقد انفرط عِقد ارتباطنا بالسماء ، ونمت  بين  جوانحنا  مخالب دنيا جارحة  تنوش  بصغائرها  ما تبقى لدينا من فتات  الروح!

كان  بوسع  الحياة  أن  تبتسم  في  وجه طفولة  "عون  الله "  الغضّة  البريئة، لولا  الاستجابة  المشبوهة القذرة  لأسباب الهلاك  والموت ، وهي  عميقة  بعمق  هذا الوجع  الوطني  الدفين!

ماذا  لو  أننا  وضعنا  يدنا  في  يد أبيه  وساعدناه  في  تجاوز  معضلة  السفر  وتذليل  ما  أمكن  من صعوباتٍ  لإسعافه ومداواته؟
ماذا لو  أننا  قدّرنا  جيدا  كيف  نضع  العلاج  على  مقربة  منه،  ووفرنا  الوسائل   اللازمة  لإيصاله  في  الزمان  المناسب  وبالكمية والجودة  المطلوبتين؟ 
 ماذا لو أننا صرخنا  في  وجه  هذه  الحرب القذرة  وبصوتٍ  واضحٍ ، ومسموع : كفى..كفى ؟ ماذا لو أننا اتحدنا وتمترسنا في خندق الوطن ، ونبذنا عن كواهلنا كل هذه الأسمال العفنة من الولاءات التي  لا تنتمي إلّا إلى الشيطان والشيطان  فقط ؟

لقد ساءت الأحوال، وساد واقعنا الأسى وتسيّد، فكم  يا أيها  الموت  تبقّى  حتى  نستعيد زمام  الحياة  من  جديد؟ 
كم  تبقى حتى نستعيد ،رجولتنا، إنسانيتنا، وطننا المسحوق  تحت  حوافر  التيه  والضياع !
ألا تكفي كل هذه الدماء الطاهرة الزكية  التي أهرقت في سبيل إشباع رغبات منحرفة ونزواتٍ  قذرة  عامرة  بالزيغ والضّلال!   

كيف  يا أرباب  هذه  الحرب  وزبانيتها لا تحرككم  كل هذه المآسي  التي  تصول اليوم في كامل ثرى الوطن  وتجول!؟
حتى متى تستمرأون  عذابات هذا الشعب الكسير وتشعلون الحرائق ولا تجنحون  للسلام؟

أعيدوا النظر في خياراتكم المضروبة، التي تصدّرون من خلالها الموت إلى كل مكان، عودوا بصدق إليكم، إلينا ، إلى الوطن ، واقتلوا كل هذا الموت المعشعش بين جوانحكم، لنحيا وتحيون بسلام، مارسوا الحب كفصيلة  فهو -لا  الحرب-  قادر  على  كبح جماح  الموت  وكنس  كل  هذه  الآكوام  الهائلة  من  الضغائن  المتراكمة  والأحقاد، وحده  الحب -لا الحرب- من سيجعلنا أكثر إيماناً  بالحياة، وأكثر قدرة على صونها من ضيم النوازل  والخطوب، وحده الحب -لا الحرب- من سيحفظ أمر هذا الوطن  من  التآكل  والإندثار!

وحده  الحب -لا الحرب- من  سيحاصر كل هذا الموت  المتفشي  في  كلّ  مكان، ويستعيد لـ " عون  الله " وضحايا  آخرين  غيره ، حقّهم في الحياة.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً