الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
د/عبدالله أبو الغيث
في ذكرى هجرته.. مفاهيم يفترض تصحيحها أثناء دراستنا للسيرة المحمدية
الساعة 17:58
د/عبدالله أبو الغيث


   كان الرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ومكملاً لدعوتهم منذ أبونا آدم عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بِنَاءً فَأَحْسَنَهُ وَأَكْمَلَهُ وَأَجْمَلَهُ ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهِ ، فَيَقُولُونَ : مَا رَأَيْنَا بِنَاءً أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِلا مَوْضِعَ هَذِهِ اللَّبِنَةِ ، أَلا وَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَة ".  ومن هنا يمكن أن نعد أن دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت واسطة في عقد الزمن بين ما كان قبلها وما أتى بعدها، ولذلك قال الله عنه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين[ (الأنبياء:107)، فبرسالته اكتمل دين الله.

   وهذا يقودنا إلى تصحيح أول المفاهيم التي سنتناولها في هذه المقالة، وهو مفهوم شائع لدى المؤرخين، باعتبار العصر السابق لظهور الإسلام عصراً وثنياً (جاهلي)، وكان ذلك أخذاً عن المستشرقين الغربيين الذين يقولون بأن الإنسان بدأ في اكتشاف الدين تدريجياً؛ ابتداءً بالطوطم (عبادة الأرواح)، ثم تطور بديانته نحو الوثنية (عبادة الأصنام والأجرام السماوية)، ومن ثم توصل لديانة التوحيد بعد تطور معارفه ورقيه الحضاري.

   ونحن نتساءل هنا كيف يستقيم ذلك؟ ونحن نعرف بأن آدم أبو البشر كان موحداً؛ بل وأول رسل الله الذين تم ذكرهم في القرآن الكريم والذين لم يتم ذكرهم، وقد عاشوا جميعهم في هذا العصر. وذلك يجعلنا نطالب بتصحيح ذلك المفهوم والتعامل مع العصر القديم السابق لظهور الإسلام باعتباره عصر الأنبياء، بحيث نبرز تاريخهم الذي تم تغييبه – بقصد أو بدون قصد - عن مناهج دراسة التاريخ في الجامعات العالمية، بما فيها جامعات البلدان الإسلامية، بينما في المقابل يتم إبراز ملامح التاريخ الوثني الذي خالط ذلك العصر في الفترات التي كانت تفصل بين الديانات السماوية.

   ولذلك نجد أن التوحيد قد خالط تلك الديانات الوثنية التي ظلت تحتفظ بكثير من تعاليم الديانات السماوية، وهو ما يقودنا إلى تصحيح مفهوم تاريخي خاطئ آخر منتشر بين العديد من المستشرقين والمؤرخين، مفاده يدور بأن تشابه بعض ما ورد في الكتب السماوية مع قصص ذكرت في حضارات سابقة لها (مثل قصة الطوفان) إنما يعود لنقل الكتب السماوية لتلك القصص عن حضارات وثنية سابقة!

   والصحيح أن ذلك يعود لكون التوحيد كان سابقاً للوثنية كما ذكرنا، بحيث يحتفظ الإنسان بعد انحرافه عن ديانة التوحيد ببعض من بقايا الديانات التوحيدية التي كان عليها أجداده؛ كاحتفاظ الوثنية العربية ببعض من بقايا ديانة إبراهيم؛ متمثلة بفريضة الحج إلى بيت الله الحرام وغيرها من الشعائر. خصوصاً ونحن لا نعرف قصص كل الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله للبشرية [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْك](غافر:78). ومن ذلك المنطلق يمكن أن نفهم قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم "‏إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاق".

    ويوصلنا ذلك لتصحيح مفهوم تاريخي ثالث غير صحيح  يرد على ألسنة بعض المسلمين، اعتقاداً منهم أنهم بواسطته يعكسون عظمة الإسلام، وذلك عندما يحرصون على التقليل من الحضارة القديمة التي شهدتها جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام، بحيث يسلطون الضوء على أحداث هامشية من التخلف الحضاري كانت تمثل حالات فردية في أزمنة وأمكنة محددة ويقدمونها كظاهرة عامة، ليدللوا بذلك على قدرة الإسلام على انتشال هذه الأمة من أوهاد سحيقة من التخلف.

   وإذا أخذنا عملية وأد البنات مثالاً على ذلك سنجد أنها كانت عملية منحصرة في قبائل محددة وتمثل حالات فردية وفقاً لظروف اجتماعية خاصة، وإلا فمِن أين أتت الحرائر العربيات في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إن كانت كل أنثى يتم وأدها بمجرد ولادتها حسب تفسير البعض لقول الله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ] (التكوير:8-9).

   ولا يخفي بأن التحقير من الواقع الحضاري للعرب قبل الإسلام يعد سلاحاً ذو حدين، فالقول به – رغم عدم صحته – قد يوهمنا أننا نمتدح الإسلام، لكنه في جانب آخر يضر كثيراً بالإسلام وبدعوته العالمية عندما يقدمه كديانة لا تنفع إلا لمجتمعات مغرقة في التخلف، وكأننا نقول بأن الإسلام كديانة لا يصح أن ينتشر في مجتمعات تتمتع برقي حضاري وازدهار فكري.

   أما المفهوم الرابع الذي نعتقد أنه صار بحاجة ماسة للتصحيح فيرتبط بظاهرة أصبحت منتشرة في صفوف المسلمين، وذلك بربط التدين بالأقوال والعبادات، وترك الجوانب السلوكية والمعاملات جانباً، وهو ما جعل الإمام محمد عبده يصرخ بمقولته الشهيرة في أواخر القرن التاسع عشر بعد أن عاد من زيارته لباريس " ذهبتُ للغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكن لم أجد إسلاما"، ولا زلنا نلمس مقولته في واقع أمة الإسلام إلى يومنا هذا.

   وذلك يردنا إلى مقولة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ووصفها للرسول الأعظم بقولها "كان خلقه القرآن" فالناس يتوقون لرؤية القدوة في المعاملات، بحيث يشاهدون الشخص المسلم وقد صار خلقه القرآن ، ولا يكتفي بحفظ القرآن وتلاوته وحفظ الأحاديث النبوية وترديدها، بينما لا تجد لكل ذلك أثراً على حياته وتعاملاته مع الآخرين، فالله أنزل لنا القرآن ليكون دستور حياتنا لا لنحفظه في الزوايا ونكتفي بتلاوته في صلاتنا، فمفهوم المسلم يجب أن لا يقتصر على التمسك بالقشور مثل ارتداء العمائم وتمنطق المسابح وغيرها من الأمور الشكلية التي لا تقدم ولا تؤخر بالدين، بينما نتخلى عن القضايا التي تشكل الجوهر الحقيقي لديانة  الإسلام.

   لا يُفهم هنا بأننا ندعو لترك العبادات والاكتفاء بالمعاملات الحسنة، لكننا نريد أن نقول بأن الإسلام منظومة متكاملة بين الفرعين بحيث لا يغني ممارسة أحدهما عن الآخر ليكون المسلم مسلماً مكتمل الإيمان. مع فارق أن العبادات تبقى عملا محصوراً بين الإنسان وخالقه، بينما المعاملات هي لله وللبشر، والله قد يعفو عن التقصير في حقه بأداء بعض العبادات التي كلف عباده بها، لكنه أبداً لا يعفو عن ارتكاب الإساءات في حق عباده، فهم وحدهم من يمتلك حق العفو أو المطالبة بالقصاص؛ أكان ذلك في الدنيا أو الآخرة. وحديث المرأتين كان صريحاً ولا لبس فيه، حيث جعل الجنة داراً لتلك المرأة التي كانت تقل من عبادتها لكنها تحسن لجيرانها، بينما كانت النار مثوى للمرأة الأخرى التي فهمت الدين بأنه إكثار للعبادة من غير أن تمنعها تلك العبادة من توجيه الأذى لجيرانها..

   بل إن العبادات يسقط معناها وتفقد قيمتها وجدواها إذا لم ترقَ بصاحبها وتسمو به إلى مكارم الأخلاق "فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له" "وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". وذلك عابد بني إسرائيل الذي كان يعيش في قرية فاسقة أمر الله ملائكته وهم ينزلون العذاب بهم أن يبدأوا به لأنه لم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر. ومن بداهة القول أن الإنسان الفاسد الذي يمارس فساده مغلفاً بتدين زائف هو أشد خطراً من ذلك الفاسد الذي يمارسه باسم (الشطارة والفهلوة) ويبدي عدم تقيد بآداب الدين وتعاليمه [إنما أوتيته على علم عندي]، ذلك أن فساد الأخير ظاهر للناس ويمكنهم من آخذ الحيطة والحذر منه، وذلك بعكس الأول الذي يزايد على الناس باسم الله.

   نصل إلى مفهوم خامس وأخير نرى التنبه إليه والعمل على تكريسه ونحن ندرس سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويتمثل بكون الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، وأن رسالته كانت رسالة عالمية حسبما أشرنا سابقا، وذلك يتطلب منا أن نتعامل مع شريعة الإسلام باعتبارها صالحة لكل زمان ومكان حتى قيام الساعة، بما يتطلبه ذلك من التعامل مع المقاصد النبيلة لشريعة الإسلام، وعدم ربطها بأسباب النزول، لأننا بذلك سنحصر الإسلام في الجزيرة العربية مكاناً وفي القرن الأول الهجري زماناً، وهو ما سيجعله يبدو غريباً على حياة مجتمعاتنا المعاصرة ومن بعدها حياة المجتمعات المستقبلية التي ستعيشها سلاسل من أحفادنا بعدنا.

   ودعونا نضرب مثلاً هنا بالعبودية لما نقصده بالمقاصد النبيلة لشريعة الإسلام، فمع الأسف الشديد لا زلنا نجد أن بعض المسلمين يصر على القول بأن العبودية جزء من شريعة الإسلام؛ خصوصاً وأنها كانت منتشرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى الرغم من عدم اعتراضنا على حجة هؤلاء؛ إلا أن نظرة متفحصة لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة وسلوكيات الجيل الأول من المسلمين, تجعلنا نقول إن الإسلام وإن كان لم يحرم العبودية إلا أنه لم يتعامل معها بصفتها جزء من الدين, فهو لم يستحسنها أو يحث على استمرارها, بل وضع الأسس التي تقضي عليها تدريجياً.

    وذلك منهج تعاملت به شريعة الإسلام مع المسائل المستأصلة لدى أمة العرب والأمم المعاصرة لها, مثل تدرجها في مسألة تحريم الخمر. وفي هذا السياق فقد أمرت شريعة الإسلام بحسن التعامل مع العبيد والجواري, واستخدم الأسماء الحسنة لمناداتهم (فتى وأمة), وجعلت تحريرهم من مكفرات الذنوب, ثم جعلت عتقهم طواعية من القربات إلى الله تعالى, وسنت تزويجهم من علية القوم (قصة زواج زيد بن حارثة من زينب بنت جحش قبل زواجها من الرسول الأعظم).

   ولأن العبودية كانت من القضايا المتجذرة آنذاك وتنتشر على نطاق واسع، لكونها قد تكرست عبر آلاف السنين, واتخذت أبعاداً اقتصادية واجتماعية جعلت تحريمها بصورة قطعية في حينه من الصعوبة بمكان, وتفوق كثيراً صعوبة تحريم الخمر الذي تدرج عبر مراحل. ولذلك فإن من ينادي بالعبودية مستدلاً بوجودها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نعتقد أنه لن يفرق كثيراً عن شخص آخر ينادي باستحلال الخمر مستدلاً بآيات قرآنية - نزلت قبل التحريم- وتمنع تناوله أثناء الصلاة فقط بل وتذكر له بعض المنافع.

   أضف إلى ذلك أن الإسلام قد تسامى بالنفس البشرية وجعلها ملكاً خالصاً لخالقها, ومنع حق ادعاء ملكيتها حتى على صاحبها, الذي لا يملك حق التصرف بها كيفما يريد, وانتزع منه الحق في إنهاء حياته, وعدها جريمة كبرى لا تغتفر, وتمحو كل ما سبقها من إيمان وعبادات وأعمال صالحة, وتودي بصاحبها إلي خلود سرمدي في نار جهنم. ثم يأتي بعد ذلك من يقول أن الإسلام يشرع لاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان, مستشهداً بنصوص تحتمل التأويل.

   ولا أدري لماذا يصر بعضنا على إغلاق باب الاجتهاد في هذه القضية (المشينة) وغيرها من القضايا التي لا تمس أصل من أصول الدين, ونتناسى أن بعض صحابة رسول الله رضوان الله عليهم قد اجتهدوا بعد وفاته – رغم قربهم من عهده - في أمور كثيرة؛ أسقطوا في بعض منها نصوص قرآنية من غير اعتراض من بقية الصحابة, عندما وجدوا أن العمل بتلك النصوص يتعارض مع المصلحة العامة لأمة الإسلام, مستقصين بذلك روح الإسلام الحقة ورسالته العالمية السمحة, مركزين على الغايات السامية للنصوص ومقاصدها النبيلة وليس على معانيها الحرفية والفهم الظاهري لها. ونكتفي هنا كمثال على ذلك بإسقاط الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب للمؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة, بعد أن أصبح الإسلام في منعة وعزة ولم يعد بحاجة مداهنتهم.

   واليوم وبعد خمسة عشر قرناً من ظهور الإسلام, بكل ما شهدته هذه المدة الطويلة من تغيرات, خصوصاً في عصرنا الحالي الذي توافقت فيه جميع الأمم على تجريم العبودية وتحريمها, وسنت المواثيق العالمية لذلك؛ ألا تقتضي المصلحة العامة للإسلام والمسلمين أن يجتهدوا ويعلنوا إنها العبودية وتحريمها في شريعتهم حتى لا يصبحوا مثار استهجان الأمم الأخرى, خصوصاً والقضية لا تمس أصلاً من أصول الدين, وليس هناك مصلحة ترتجى لأمة الإسلام من بقائها؛ اللهم إلا تكريسها للنظرة الدونية تجاه المسلمين, وتشويه جوهر الإسلام القائم على تحقيق ما ينفع الناس في دنياهم وآخراهم..

   وقياساً على هذه القضية يمكننا النظر لقضايا كثيرة نحسب أنها صارت في أمس الحاجة لمراجعتها من قبل فقهاء الأمة المتنورين، فالإسلام وشريعته ليست نصوصاً جامدة بقدرما هي روح حية تسري في روح البشرية في كل عصر ومصر.

   خلاصة القول: تلك مفاهيم مختارة أرتأينا طرحها للنقاش، من باب لفت الانتباه إليها لإعادة النظر في صياغتها وتقديمها للمسلمين وغيرهم من البشر بصورة صحيحة تتناسب مع عالمية الإسلام وشريعته السمحة، وهي مفاهيم نحسب أنها ستغير مفهومنا ونظرتنا للسيرة المحمدية الطاهرة، حتى نجعل دراسة السيرة وسيلة قبل أن تكون غاية، بمعنى أن لا يكون هدفنا من دراستها الحديث عن قصص حدثت للرسول الكريم وصاحبت عهده، لكن دراستنا للسيرة يتمثل بتقديم أرقى نماذج السلوك البشري متمثلاً بحياة المصطفي صلى الله عليه وسلم، بحيث تصبح حياته قدوة للمسلمين يقتدونها في حياتهم ومعاملاتهم مثلما يقتدونها في عباداتهم.. عندها فقط يمكننا أن نعدل مقولة الإمام محمد عبده، وسيمكننا أن نقول : بأننا مسلمون مطبقون لشريعتنا الإسلامية ولا يقتصر تديننا على ذكر ديانتنا الإسلامية في بطائق الهوية فقط.

 

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص